ملخص
يمثل الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال نقطة تحول في تفاعلات القرن الأفريقي، واختباراً حقيقياً لقدرة النظام الدولي على الحفاظ على قواعده في ظل تصاعد منطق القوة والبراغماتية، حيث تبقى السيناريوهات المستقبلية مفتوحة: إما أن يبقى الاعتراف خطوة رمزية محدودة التأثير، أو أن يتحول إلى بداية مسار أوسع يعيد رسم خريطة النفوذ والشرعية في أفريقيا. وفي كلتا الحالتين، فإن ما جرى يكشف عن مرحلة جديدة تتآكل فيها القواعد القديمة، دون أن تتبلور بعد بدائل مستقرة، في عالم باتت فيه الجغرافيا السياسية أكثر سيولة، والدولة الوطنية أكثر هشاشة.
لم يكن القرار الإسرائيلي بالاعتراف بأرض الصومال حدثاً دبلوماسياً عابراً أو استجابة ظرفية إلى معادلات محلية في القرن الأفريقي، بل جاء جزءاً من تحول أعمق في الموقف الدولي والإقليمي في شأن طبيعة الصراعات، وحدود الأمن القومي، وأدوات إدارة النفوذ خارج المجال الجغرافي التقليدي للشرق الأوسط.
الخطوة تعكس إدراكاً إسرائيلياً متزايداً بأن مركز الثقل الاستراتيجي في الإقليم لم يعد محصوراً في فلسطين أو لبنان أو سوريا، بل امتد جنوباً ليشمل البحر الأحمر، وباب المندب، والقرن الأفريقي باعتباره عاملاً من عوامل الأمن الاقتصادي الإسرائيلي، وحلقة وصل حاسمة بين الشرق الأوسط وأفريقيا، وبين الأمن البحري والتوازنات الدولية الكبرى.
وإلى جانب ذلك لا بد من الإقرار بأن القرن الأفريقي يشهد منذ سنوات عدة عملية إعادة تشكيل بطيئة، لكن متراكمة، تتقاطع فيها هشاشة الدولة الوطنية، وتراجع قدرة النظم الإقليمية على الضبط، وتصاعد تنافس القوى الدولية على الموانئ، والممرات البحرية، والبنية التحتية الاستراتيجية. وفي هذا السياق تحولت مناطق مثل جيبوتي وإريتريا وشمال الصومال، وحتى السواحل السودانية إلى مساحات مفتوحة لتقاطعات النفوذ العسكري والاقتصادي والأمني.
التحركات الأميركية في الكونغرس الدامية إلى الاعتراف بأرض الصومال وتصريحات ترمب في شأن أرض الصومال في أغسطس (آب) الماضي، التي أشارت إلى إمكان أن تستقبل مهجرين في غزة، لا يمكن فصله عن الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال، ولا يمكن فصله أيضاً عن هذه البيئة، بل يمثل محاولة واعية لاستثمار هذا الفراغ، وإعادة تعريف قواعد الاشتباك السياسي والقانوني في الإقليم.
أرض الصومال بوصفها كياناً نشأ من انهيار الدولة الصومالية مطلع التسعينيات، تمثل حالة إشكالية في القانون الدولي. فمن ناحية، نجحت في بناء مؤسسات حكم محلية، وإدارة قدر معقول من الاستقرار مقارنة ببقية الأراضي الصومالية، ومن ناحية أخرى، بقيت خارج منظومة الاعتراف الدولي التزاماً بالموقف الأفريقي الرافض تفتيت الدول القائمة. هذا التناقض بين "الفاعلية الواقعية" و"الشرعية القانونية" ظل قائماً لأكثر من ثلاثة عقود إلى أن قررت إسرائيل كسره من طرف واحد، متجاوزة الإجماع الأفريقي والدولي.
دوافع إسرائيلية
الدافع الإسرائيلي هنا لا يرتبط فقط بتقدير موضوعي لأداء أرض الصومال، بل يتصل بسياق أوسع لإعادة تعريف مفهوم الحليف. فإسرائيل، خصوصاً بعد حرب غزة وتآكل صورتها الدولية، باتت تميل إلى بناء شراكات مع كيانات أقل ارتباطاً بالبنى القانونية التقليدية، وأكثر استعداداً لتقديم مكاسب استراتيجية مباشرة، سواء في المجال الأمني أو الاستخباراتي أو البحري. وفي هذا الإطار تصبح أرض الصومال شريكاً مفيداً من وجهة النظر الإسرائيلية: كيان يبحث عن شرعية بأي ثمن، ويملك موقعاً جغرافياً بالغ الحساسية، ويمكن دمجه بسهولة في ترتيبات أمنية خارج الأطر متعددة الأطراف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاعتراف الإسرائيلي يعكس أيضاً تحولاً في تصور تل أبيب لمسرح البحر الأحمر. فبعد أن كان ينظر إليه كمجال نفوذ عربي - أفريقي تقليدي، بات يعاد تعريفه كساحة مواجهة غير مباشرة مع إيران، وكجزء من منظومة الأمن البحري المرتبطة بأمن إسرائيل الاقتصادي والعسكري. باب المندب الذي تمر عبره نسبة كبيرة من التجارة العالمية، أصبح في السنوات الأخيرة نقطة توتر مزمنة، بفعل الحرب في اليمن، واستهداف الملاحة الدولية، وتعدد الفاعلين المسلحين. من هذا المنظور، فإن التمركز قرب خليج عدن، ولو عبر شراكات غير مباشرة، يمنح إسرائيل قدرة إضافية على المناورة، وعلى المشاركة في إعادة صياغة معادلات الأمن البحري بعيداً من الشواطئ الإسرائيلية المباشرة.
هذا البعد يتقاطع بوضوح مع الحسابات الأميركية، لا سيما داخل الكونغرس. ففكرة الاعتراف بأرض الصومال طرحت مراراً في دوائر بحثية وسياسية أميركية، باعتبارها نموذجاً براغماتياً للتعامل مع كيانات الأمر الواقع في أفريقيا. وقد وجدت هذه الطروحات صدى خاصاً داخل التيار الجمهوري، الذي ينظر بعين الشك إلى المؤسسات المتعددة الأطراف، ويرى أن الالتزام الصارم بمبادئ وحدة الدول قد يعوق المصالح الاستراتيجية الأميركية في مواجهة الصين وروسيا. في هذا السياق، يمكن قراءة الخطوة الإسرائيلية جزءاً من تناغم غير معلن مع هذه الرؤية، وربما اختبار تمهيدي لقياس ردود الفعل الدولية قبل أي تحرك أميركي محتمل.
ماذا عن الموقف الأميركي؟
غير أن الموقف الأميركي الرسمي لا يزال متحفظاً، وهو تحفظ يعكس إدراكاً لتعقيد المشهد الأفريقي. فواشنطن، على رغم حاجتها إلى أدوات جديدة لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي، تدرك أن الاعتراف بأرض الصومال قد يفتح سلسلة من المطالب الانفصالية في قارة تعاني أصلاً هشاشة الدولة، وهو ما قد ينعكس سلباً في الاستقرار الإقليمي، ويضعف شركاء تقليديين للولايات المتحدة. هذا التناقض بين اندفاع بعض دوائر الكونغرس وحذر المؤسسة التنفيذية يظل عاملاً مهماً في تحديد المسار المستقبلي لهذا الملف.
على المستوى العسكري يبرز دور القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) كفاعل غير مباشر في هذه المعادلة. فالأجندة الأمنية لـ"أفريكوم" شهدت توسعاً ملحوظاً خلال العقد الأخير، حيث لم تعد تقتصر على مكافحة الإرهاب، بل شملت حماية الممرات البحرية، ومراقبة النفوذ الصيني المتنامي، وإدارة التنافس الدولي في القارة. في هذا السياق، تكتسب الموانئ الواقعة على خليج عدن أهمية متزايدة، ليس فقط كنقاط لوجيستية، بل كعقد استخباراتية. الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال قد يسهل دمج هذا الإقليم في ترتيبات أمنية جديدة، سواء بصورة مباشرة أو عبر وسطاء، بما يغير من طبيعة الانتشار العسكري والاستخباراتي في المنطقة.
لكن هذا التحرك يحمل في طياته أخطاراً بنيوية على النظام الإقليمي الأفريقي. فالاعتراف بكيان انفصالي من دون موافقة الدولة الأم يضرب في صميم المبدأ الذي قام عليه الاتحاد الأفريقي منذ تأسيسه، وهو مبدأ احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار. هذا المبدأ، على رغم ما يحمله من إشكاليات، مثل أحد أعمدة الاستقرار النسبي في القارة، ومنع انزلاقها إلى موجات تفكك شاملة. كسره في حال أرض الصومال قد يشجع قوى أخرى، سواء في القرن الأفريقي أو الساحل أو وسط أفريقيا، على إعادة طرح مطالب انفصالية، ما يفتح الباب أمام إعادة رسم الخريطة الأفريقية على أسس عرقية أو قبلية أو جهوية.
بالنسبة إلى الصومال يشكل الاعتراف الإسرائيلي تحدياً وجودياً. فالدولة الصومالية التي ما زالت في طور إعادة بناء مؤسساتها تجد نفسها أمام سابقة تضعف سيادتها، وتقلص قدرتها على التفاوض مع الأطراف المحلية، إضافة إلى أن الاعتراف الخارجي بأرض الصومال قد يعمق الانقسامات الداخلية، ويمنح شرعية دولية لمسار التفكك، بدلاً من دعم جهود إعادة توحيد الدولة. هذا الوضع ينذر بإطالة أمد الأزمة الصومالية، ويجعلها أكثر قابلية للتدويل.
تداعيات إقليمية
التداعيات الإقليمية لا تتوقف عند حدود الصومال. فمصر، التي تتابع من كثب التحولات في القرن الأفريقي، تنظر إلى هذا التطور من زاوية أمن البحر الأحمر، واستقرار الممرات البحرية الحيوية، وتأثير ذلك في قناة السويس. القاهرة تدرك أن تفكيك الدول في محيط البحر الأحمر سيؤدي إلى بيئة أمنية أكثر هشاشة، تزداد فيها أدوار الفاعلين غير الدوليين، وتتراجع فيها قدرة الدول على التنسيق. ومن ثم، جاء الموقف المصري الرافض الاعتراف منسجماً مع رؤية أوسع تدافع عن وحدة الدول، ليس فقط لأسباب قانونية، بل لحسابات أمن قومي مباشرة. وفي الخليج العربي، تسعى السعودية إلى ترسيخ الاستقرار في البحر الأحمر ضمن رؤيتها الاقتصادية والأمنية، بالتالي تفتيت الدول يتناقض مع خطاب الاستقرار الإقليمي الذي تتبناه الرياض.
أحد أكثر أبعاد هذا القرار حساسية يتعلق بتأثيره في القضية الفلسطينية. فالاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال يخلق سابقة قانونية وأخلاقية يصعب تجاهلها في النقاش الدولي حول حق الفلسطينيين في تقرير المصير. إسرائيل، التي طالما رفضت الاعتراف بالدولة الفلسطينية بحجج تتعلق بالأمن والسيادة، تجد نفسها اليوم تعترف بكيان انفصالي نشأ دون موافقة الدولة الأم. هذا التناقض يوفر مادة قوية للخطاب الدبلوماسي المناهض إسرائيل، وقد ينعكس في مواقف دولية أكثر جرأة تجاه الاعتراف بفلسطين.
إجمالاً، يمثل الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال نقطة تحول في تفاعلات القرن الأفريقي، واختباراً حقيقياً لقدرة النظام الدولي على الحفاظ على قواعده في ظل تصاعد منطق القوة والبراغماتية، حيث تبقى السيناريوهات المستقبلية مفتوحة: إما أن يبقى الاعتراف خطوة رمزية محدودة التأثير، أو أن يتحول إلى بداية مسار أوسع يعيد رسم خريطة النفوذ والشرعية في أفريقيا. وفي كلتا الحالتين، فإن ما جرى يكشف عن مرحلة جديدة تتآكل فيها القواعد القديمة، دون أن تتبلور بعد بدائل مستقرة، في عالم باتت فيه الجغرافيا السياسية أكثر سيولة، والدولة الوطنية أكثر هشاشة.