ملخص
صراحة متبادلة كان اللقاء الأول بين الجامعي الشاب جان بول والصبية الحسناء سيمون، يوم الثامن من يوليو 1928، وبدلاً من أن يسجل ذلك اللقاء نوعاً من "الحب من النظرة الأولى" بين الاثنين، على الطريقة التي تبدأ بها حكايات الحب عادة، خلق على الفور بينهما ما سيسميه كلاهما لاحقاً وكل على طريقته، الانطباع بأن كل واحد منهما وجد في الآخر من يمكنه أن يكون قريناً له.
يقيناً، إنه ما من رجل وامرأة ارتبطا طوال القرن الـ20 ببعضهما بعضاً ارتباط الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 - 1980) بامرأته الكاتبة والمفكرة سيمون دي بوفوار (1908 - 1986).
فهما، ومن دون أن يعلن أي منهما حبه للآخر كما يمكن للحب أن يكون، عاشا معاً، وأمضيا نصف قرن وأكثر معاً من دون رابط حب أو زواج، بل حتى من دون أي نوع من وفاء واحدهما للآخر، إذ إن الثنائي الذي كوناه، ومن دون أن يكون أسطورياً، أو مضرباً للأمثال، أصرت بلدية الدائرة السادسة في باريس أن تخلدهما تخليداً فريداً من نوعه، ففي تلك الساحة الواقعة بين كاتدرائية سان جيرمان ومقهيي "دو ماغو" و"فلور"، وسط تلك الدائرة ثمة اليوم يافطة تحمل الاسم الذي اختارته البلدية للساحة مكتوب عليها "ساحة جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار"، مما جعل للساحة، إضافة إلى قيمتها السياحية، قيمة معرفية، نادرة في الجغرافيا الباريسية وربما في جغرافية أية مدينة على الإطلاق، فالمدن لم تعتد أن تجعل لشارع أو ساحة اسماً مزدوجاً، والبلديات لم تعتد أن تكون كريمة إلى هذا الحد مع ثنائي رفض طوال عمره أن يتزوج بمعرفتها، مفضلاً الارتباط الحر. فلماذا كانت هذه التسمية؟ ببساطة وكما نعرف، لأن سارتر ودي بوفوار عاشا في تلك الزاوية من باريس بجوار الكاتدرائية، من دون أن يدخلاها أبداً لأسباب دينية في الأقل، واختارا المقهيين المذكورين ميداناً لتحركهما الباريسي إضافة إلى مقهى ثالث هو "البونابرت" غير بعيد منهما في الساحة نفسها. ومن هنا يبدو الأمر طبيعياً، ولكن على عكس تلك العلاقة التي جمعت الكاتب والكاتبة لتؤبدها من خلال قرار البلدية معطية تلك الساحة معنى بالغ الأهمية ومفعماً بالحنين، ولكن يبقى السؤال الأساس: كيف ولماذا عاش ارتباط ذلك الثنائي كل تلك الحقبة ليتواصل، بقرار بلدي، بعد رحيلهما بفارق ست سنوات؟
صراحة متبادلة كان اللقاء الأول بين الجامعي الشاب جان بول والصبية الحسناء سيمون، يوم الثامن من يوليو (تموز) 1928، وبدلاً من أن يسجل ذلك اللقاء نوعاً من "الحب من النظرة الأولى" بين الاثنين، على الطريقة التي تبدأ بها حكايات الحب عادةً، خلق على الفور بينهما ما سيسميه كلاهما لاحقاً وكل على طريقته، الانطباع بأن كل واحد منهما وجد في الآخر من يمكنه أن يكون قريناً له. فلأن "كيوبيد"، إله الحب في الأساطير الإغريقية، كان كثير الانشغال في ذلك اليوم الصيفي البهيج، تركهما من دون أن يصيبهما بسهامه، فكان أن قامت بين الاثنين علاقة فريدة من نوعها: علاقة ستتواصل أكثر من نصف قرن بعد ذلك، لن ينفصلا حقاً خلاله، ولكن من دون أن يصرح أيهما بحبه للآخر أو افتتانه به. بدلاً من ذلك، وكما تقول الحكاية، أتت عبارات الإعجاب المتبادل خلال اللقاءات الأولى، مزيجاً من السجالات الثقافية والمبادلات الفلسفية. وكان من نتيجة ذلك أن كل واحد منهما شعر أنه مُساوٍ للآخر، وحر في التعاطي معه، بل حتى حر في كيفية العيش معه إذا قررا أن يعيشا معاً ويفكرا معاً، حتى ولو حدث لأحدهما أن ارتبط عاطفياً بطرف ثالث، ذلك الحب الذي سيسميه سارتر لاحقاً "حب الضرورة"، تحدث هو عنه بوصفه حباً يوحي بكل أنوع الشفافية، ويكاد يكون المرء فيه أشبه بحكواتي ينتمي إلى عالم آفاق جون ميلتون سينغ، الكاتب المسرحي الإيرلندي صاحب المسرحية الشهيرة "آفاق العالم الغربي"، الذي لا يقر له قرار ولا يحب أن يستريح في مكان، ولا يهمه أن يتقاسم حياته مع أي شخص آخر.
ففي النهاية أعلن سارتر، على الفور، أنه ليس من أنصار العيش مع زوجة أو حتى امرأة لا يبدلها ويكون وفياً تجاهها. وهو وجد تفاهماً وتفهماً على الفور من سيمون، ليكتشف كل منهما أن الآخر عاش ولا يزال يعيش "حتى الآن"، علاقات أخرى "قد لا تكون عميقة فكرياً، لكنها تريحه ويجب ألا تؤثر في علاقتهما الجديدة".
"سيوافق على زواجي!"، فهل نقول إن هذه الصراحة التي بها افتتحا حياتهما المشتركة الجديدة، كانت الخلفية الحقيقية التي انبنت عليها علاقة ستقوم حتى رحيل سارتر لتتواصل شبحاً يخيم على حياة دي بوفوار بعد رحيل رجل حياتها عنها، لتجمعهما في اسم ساحة مشترك بقرار بلدي بعد رحيلها هي الأخرى؟ حسناً، لقد قلنا هذا وإن بطريقة مختلفة بعض الشيء في أول هذا الكلام، وبقي هنا أن نتابع الحكاية من خلال ما يقوله، أو يكتبه بالأحرى صاحبا العلاقة، بل حتى العلاقات التي لم يُخفها أيهما عن الثاني، ولا سيما سيمون التي تحكي ذلك كله مراراً وتكراراً في نصوص كتبتها وروايات دبجتها ورسائل بعثتها إلى جان بول وغيره، بخاصة في دفاتر يومياتها الخاصة بها. وهنا بلغة مليئة بالود والشغف بصديقها الجديد، إذ تفصل لنفسها كيف تم أول اللقاءات في أول المواعيد، ولا سيما منها تلك التي تلت نجاحها في الاختبارات الجامعية وزيارات سارتر لها في مكان سكنها في منطقة "كوريز"، حيث كانت البداية الأولى لتجربة عيشهما معاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهي تكتب عن ذلك في يومياتها الخاصة على سبيل المثال "يوم 30 يوليو 1930: ها أنا أنتظر النتائج. أشعر بالسحر يغمرني وأنا محاطة بسارتر من ناحية وبول نيزان، صديقه الأقرب، من ناحية ثانية. ومبهورة لكوني قد قبلت جامعياً بفارق درجتين فقط عن سارتر، وأن أذهب برفقته عند تلك السيدة مدام مور التي تثير إعجابي هي وجيل. أحس أنهما يستلطفانني، وأن سارتر بينهما وكأنه في بيته الخاص. أشعر بقدر كبير من التحنان تجاهه، وأصرح له بذلك (...). الآن نحن جالسان على مقعد عريض واحد عند ضفاف نهر السين. يا للعذوبة الغامرة! ها هو سارتر يحدثني عن مستقبلنا حديث محب يعرف مسبقاً أنه سيكون حاضراً إلى جاني دائماً، بل يحدثني عن أي عرس سيكون قريباً من نصيبي، ولكن كما لو أن ذلك سيكون أهون الشرور التي ستحل بي، ويعلن أنه سيوافق عليه".
من هو سارتر يا ترى؟ وتتساءل سيمون في دفترها الخاص: من هو هذا الرجل يا ترى؟ ثم تخبرنا أنها تطرح السؤال على نفسها وهما يسيران معاً في أحد الشوارع يتحدثان عن علاقتهما فتسأل نفسها: أي رجل هو هذا الرجل يا ترى؟ وما سر سلوكه معها؟ مما يدفعها إلى أن تسأل نفسها بالتالي عمن تكون هي نفسها؟ ومن هي تلك الفتاة الصغيرة الواضعة رأسها بين يديه باطمئنان غريب ضائعة بين حنانه المطلق وأفكارها المسبقة؟ هنا تكتب، بصراحة، أنها باتت تشعر أنها تحبه أكثر مما فعلت في أي وقت مضى. فهل ترى حبها له سيكون الآن أكثر منه في أي وقت مقبل؟ إنها أسئلة تخبرنا أنها تطرحها كثيراً على نفسها، ولا سيما "ونحن نتمشى معاً على امتداد جادة سان جيرمان من أرصفة السين إلى الأنفاليد وصولاً إلى بيتي".
وتسمعه يقول بما يشبه الهمس وكأنه لا يريدها أن تسمعه "لقد آثرت إعجابي حقاً اليوم. أشعر أنك الصبية الأكثر عذوبة وحناناً في هذا العالم، والأكثر عمقاً ووفاء... بل ربما الصبية الأكثر بساطة التي عرفتها حتى الآن". واللافت أن سارتر يترك يدها هنا بالذات، وقد وصلا إلى مدخل بيتها ليقول لها، بكل هدوء وثقة "إلى اللقاء!"، ثم يعود أدراجه، فيما هي تفاجأ، لكنها تعتبر شعورها بالمفاجأة "الجزء الأكثر جمالاً في تلك العشية..."، كما تخبرنا.