Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيضانات كردستان تكشف اختلالا في إدارة الموارد وأخطار الاحتباس الحراري

من العطش صيفاً إلى الغرق شتاء... مختصون يحذرون من تبعات الفشل في التكيف مع تحولات المناخ

ملخص

يقع قضاء جمجمال في منخفض محاط بالجبال، مما يجعله عرضة لموجات السيول القادمة من المناطق المرتفعة. ووفق مديرية الأرصاد الجوية الحكومية، سجلت الأمطار الأخيرة في القضاء ما يربو على نصف المعدل السنوي البالغ نحو 450 ملم خلال فترة زمنية قصيرة، وهو نمط يرتبط مباشرة بظاهرة الاحتباس الحراري. كما أن عوامل أخرى مؤثرة فاقمت الفيضان بحسب متخصصين، من خلال التوسع العمراني العشوائي على المسار الطبيعي للمياه وتقصير حكومي في الإدامة وتطوير البنية التحتية، بما يوائم متطلبات مواجهة انعكاسات تغير المناخ.

بعد انقضاء واحدة من أكثر السنوات جفافاً، شهدت بعض مدن إقليم كردستان، مثل بقية المناطق العراقية في الأسبوع الثاني من الشهر الجاري، تقلباً مناخياً حاداً ولد موجة مطرية غزيرة خلفت وراءها فيضانات وسيول لتجتاح أحياء ومناطق سكنية بالكامل ملحقة خسائر غير مسبوقة، كان لقضاء جمجمال غرب محافظة السليمانية النصيب الأكبر، في كارثة كشفت عن هشاشة في البنية التحتية والإدارية، وسط تضارب السياسة مع إدارة ملف الأزمات.
لم تكن موجة الفيضانات هذه مفاجئة، بل أتت ضمن سلسلة كوارث مماثلة شهدها الإقليم الكردي خلال السنوات القليلة الماضية، تكررت بصور عدة لكنها تشترك في الأسباب، وأبرزها تقصير حكومي في مواجهة تبعات التغير المناخي، والتجاوز على الممرات المائية الطبيعية بفعل النشاط العمراني، في موازاة صراع حزبي بلغ مستوى توظيف الأزمات سياسياً.

خلال بضع ساعات غمرت المياه أحياء سكنية في جمجمال، وألحقت أضراراً جسمية في البنى التحتية والمؤسسات. وأفادت آخر حصيلة رسمية للأضرار في مختلف مدن الإقليم من ضمنها محافظة كركوك المتنازع عليها بين حكومتي أربيل وبغداد، عن مصرع خمسة أشخاص وإصابة 19 آخرين، وتضرر أكثر من 2200 منزل، وأكثر من 200 محل تجاري ونحو 500 مشروع. كما ألحقت خسائر فادحة بالممتلكات والثروة الحيوانية، غير أن وسائل إعلام محلية أفادت بأن حجم الأضرار يفوق ما ورد من أرقام في البيانات الرسمية، وسط احتدام الجدل حول الأسباب المباشرة لوقوع الكارثة.

عوامل حاسمة

يقع قضاء جمجمال في منخفض محاط بالجبال، مما يجعله عرضة لموجات السيول القادمة من المناطق المرتفعة. ووفق مديرية الأرصاد الجوية الحكومية، سجلت الأمطار الأخيرة في القضاء ما يربو على نصف المعدل السنوي البالغ نحو 450 ملم خلال فترة زمنية قصيرة، وهو نمط يرتبط مباشرة بظاهرة الاحتباس الحراري. كما أن عوامل أخرى مؤثرة فاقمت الفيضان بحسب متخصصين، من خلال التوسع العمراني العشوائي على المسار الطبيعي للمياه وتقصير حكومي في الإدامة وتطوير البنية التحتية، بما يوائم متطلبات مواجهة انعكاسات تغير المناخ.  

استقالات بالجملة

وفي أعقاب موجة الغضب الشعبي، أعلنت السلطات فتح تحقيقات مع مسؤولين محليين، أسفرت عن تقديم أربعة مسؤولين طلبات للاستقالة، بينهم قائم مقام قضاء جمجمال ومديرو البلدية والتربية ومدير إحدى النواحي، إلى جانب اتخاذ إجراءات قانونية في حق مدير ناحية رفض تقديم استقالته. وفي موقف لافت، قال نائب رئيس حكومة إقليم كردستان عن حزب "الاتحاد الوطني" قوباد طالباني إن أسباب الكارثة "طبيعية بالدرجة الأولى"، لكنه أقر بأنه "كان بالإمكان تقليل الخسائر لو اتخذت الاحتياطات اللازمة"، مؤكداً أن تقييم اللجنة المختصة أظهر وجود تجاوزات بشرية كانت من بين أسباب الفيضان، مما يستوجب "أخذ العبرة لمنع تكرار ما حدث".

في المقابل، كشف مدير تربية جمجمال عبدالله كاكا، وهو أحد المسؤولين المستقيلين، خلال مؤتمر صحافي، أن محافظ السليمانية كان رفض في وقت متأخر من الليل طلباً لإعلان عطلة رسمية في القضاء ضمن إجراءات الطوارئ، مما أثار جدلاً حول آلية اتخاذ القرار في لحظات الأزمات.

عوامل حاسمة

ويجمع خبراء في المجال البيئي على عدم إمكان فصل تكرار مثل أزمة جمجمال عن السياق البيئي العام في البلاد، فبحسب الأمم المتحدة يصنف العراق ضمن أكثر خمس دول تأثراً بالتغير المناخي، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وتراجع الموارد المائية، وتزايد الظواهر المناخية المتطرفة، من جفاف حاد في الصيف وفيضانات في الشتاء.
غير أن النشاط البشري غير المنضبط يمثل سبباً مؤثراً في تفاقم الكوارث البيئية، وفي هذا الجانب ألقى بحث أعدته مؤسسة "دراو" الإعلامية الكردية، المدعومة من الصندوق الوطني الأميركي للديمقراطية، جزءاً أساسياً من المسؤولية على النشاط البشري، مثل تغيير المجرى الطبيعي للمياه، وحفر خنادق أو وضع حواجز وبناء سدود وقناطر غير مستندة إلى دراسات هيدرولوجية دقيقة، وردم أودية طبيعية لإقامة مشاريع سكنية واستثمارية. وحذر البحث من حتمية تكرار الكارثة في حال عدم تدارك الأسباب، وإن كان بمعدل أمطار أقل.
وعلى رغم أن جمجمال تعد واحدة من أكثر مناطق الإقليم أهمية من الناحية الاقتصادية، لاحتضانها أحد أكبر احتياطات الغاز الطبيعي على مستوى البلاد، فضلاً عن وجود حقول نفطية واعدة، فإن واقع الخدمات بدا متردياً، فبحسب مسؤولين محليين فإن دائرة بلدية القضاء كانت تعاني أصلاً شحاً في التخصيصات المالية، بموازنة لا تتجاوز 8 ملايين دينار عراقي (نحو 5700 دولار)، وهو مبلغ بالكاد يكفي لتغطية النفقات التشغيلية الأساسية، فضلاً على نقص حاد في الآليات والمعدات اللازمة لتنفيذ أعمال الصيانة الدورية أو مواجهة الفيضانات والكوارث الطبيعية.

للتكيف مع التقلبات شروط

من جهته يرى الصحافي المتخصص في شؤون البيئة خالد سليمان أن العلة تكمن في تغير أنماط الهطول المطري بالدرجة الأولى، موضحاً أن "الأمطار لم تعد تهطل كما في السابق على فترات طويلة وبوتيرة هادئة، بل باتت غزيرة ومركزة خلال فترات قصيرة"،  ويضيف أن البنية التحتية لتصريف المياه وشبكات الصرف الصحي، ليس في إقليم كردستان فقط بل في معظم دول المنطقة، "لم تعد قادرة على تقليل تبعات التغير المناخي، خصوصاً مع التوسع العمراني العشوائي الذي لم يراع متطلبات البنية التحتية، لا سيما في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية". وحذر من ظاهرة "اللاعدالة البيئية"، إذ تتحمل الفئات ذات الدخل المحدود العبء الأكبر من تداعيات الكوارث، وشدد على ضرورة إعادة التفكير جذرياً في تخطيط المدن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تجاذب سياسي

ولم تلبث الكارثة أن تحولت إلى ساحة سجال سياسي وإعلامي بين الحزبين الحاكمين في الإقليم المنقسم على نفوذ مناطقي، "الحزب الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني في أربيل ودهوك، وشريكه في الحكم "الاتحاد الوطني" المتحكم بالقرار في السليمانية ومناطق جنوب الإقليم وشرقه.
وتجدر الإشارة إلى أن محافظتي أربيل ودهوك لم تسجلا هذه المرة فيضانات، جراء التفاوت في نسبة الهطول المطري مع السليمانية، وإنشاء مجموعة من الحواجز وسدود صغيرة ومتوسطة، واتخاذ إجراءات احترازية مسبقة من خلال القيام بحملة تنظيف المجاري وتوسعة مسار المياه.
وضمن هذا السياق، برزت أصوات صحافية محلية ناقدة، من بينها رسالة للصحافي بارام صبحي وجهها إلى قوباد طالباني، قال فيها إن "جمجمال تواقة للخدمات، لا إلى أشخاص جعلوها عطشى في الصيف وحولوها إلى بحيرة في الشتاء"، مؤكداً أن ما جرى "كان نتيجة للإهمال لا الأمطار"، فيما أكد اتحاد منظمات المجتمع المدني في بيان شديد اللهجة أنه كان حذر منذ سنوات من وقوع الكارثة، منتقداً "فشل المؤسسات المعنية في تقديم جهود الإغاثة، وتسييس الأحزاب للمساعدات الإنسانية وسط طغيان الصراع الحزبي والمزايدات السياسية على العمل المؤسساتي".

قرائن لإثبات قطعي

النائب في برلمان الإقليم كاوه علي رأى من جانبه أن "مقارنة صور الأقمار الاصطناعية لعام 2010 مع الواقع الحالي تثير الشكوك والغموض"، لافتاً إلى أن "تحويل مسارات المياه كان محور اتهامات متبادلة، في ظل غياب مختصين عن اللجان التحقيقية". ودعا إلى الاعتماد على صور الأقمار الاصطناعية ولجان محايدة متخصصة للتثبت من التجاوزات، محذراً من توجيه اتهامات من دون أدلة، كما شدد على "ضرورة القلق على مستقبل المدن والاستعداد لمنع تكرار الكارثة".
وكان لغزارة الأمطار وقع أيضاً على مناطق واسعة في محافظة كركوك المجاورة لجمجمال، وبدى المشهد في بعض المناطق هناك مشابهاً من حيث الأضرار، وكذلك على مستوى التحقيق في الأسباب، إذ اتهم محافظها وهو عضو بارز في حزب طالباني من وصفها بـ"المافيات" ببيع أراضي تقع ضمن الأودية والممرات المائية لأغراض تشييد مصانع وبيوت سكنية. وقال إن "الفيضان نجم عن تجاوزات على هذه الممرات، وتعهد بإعادة تأهيل أحد المجاري الرئيسة ومنع التجاوز على أي من الممرات".

حلول ملحة

وللحيلولة دون تكرار الفيضانات، اقترح خبير الأرصاد الجوية، عضو الجمعية الفلكية في ولاية تكساس الأميركية لقمان حويز حزمة مقترحات، في مقدمها وضع خطط قصيرة وطويلة الأمد للتكيف مع التغير المناخي، وإنشاء نظام إنذار مبكر حكومي شامل، وتحديد الممرات الطبيعية للمياه ومنع ردمها أو البناء عليها، مع أهمية تشييد سدود وحواجز مائية صغيرة ومتوسطة، فضلاً عن الفصل بين شبكات الصرف الصحي ومياه الأمطار، وأخيراً تبني مخطط عمراني يمتد لثلاثة عقود في الأقل". ونوه حويز إلى أن ما جرى في جمجمال "يشبه فيضانات أربيل في عام 2021"، مبيناً أن دولاً مثل الولايات المتحدة اضطرت إلى إزالة أحياء كاملة، كما حدث في هيوستن بعد إعصار هارفي في عام 2017، عندما تغيرت الحسابات المناخية التقليدية".

اقرأ المزيد

المزيد من متابعات