ملخص
كتابا سارتر التأسيسيان "المتخيل" و"المخيلة" منطبعان بفلسفة هاسرل إلى درجة مدهشة ولا يحاول سارتر أن يخفيها، ولن يحاول ذلك لاحقاً بالطبع. وهنا لا بد من القول إن مجمل فلسفة سارتر وحتى سنواته الأخيرة التي عبرتها تقلبات لا تعد ولا تحصى، تبقى ذات جذور راسخة وصلبة يحملها هذان الكتابان.
كان ذلك في وقت مبكر أي قبل أن يتجاوز المفكر والكاتب الفرنسي، جان بول سارتر (1905- 1980)، الـ25 من عمره، في زمن كان عليه وقد آثر خوض الدراسة الفلسفية بديلاً عن أي توجه آخر له، كان عليه أن يختار أي اتجاه فلسفي يتعين عليه أن يتخذ من بين عدد لا يحصى من اتجاهات مطروحة أمامه وكانت سائدة ومتدافعة في ما بينها خلال الربع الثاني من القرن الـ20.
وهو سيتحدث عن هذا الأمر بالتحديد في إحدى فقرات الكتاب الذي أصدره خلال النصف الأول من سنوات الـ40 وقد جاوز الـ35، بعنوان "كراسات حرب غريبة" حيث أعاد الإفصاح عن الكيفية التي اختار بها ظواهرية الفيلسوف الألماني ادموند هاسرل بديلاً عن أي توجه فلسفي آخر، "لقد استحوذ على فكر هاسرل تماماً في ذلك الحين، إلى درجة أنني لم أعد قادراً على النظر إلى أي شيء إلا عبر منظوره، بخاصة من منظور فلسفته التي بدت لي أنها في متناول يدي أكثر من أية فلسفة أخرى، لا سيما من ناحية كونها ديكارتية المنحى. فبت أرى نفسي في ذلك الحين هاسرلياً وسأبقى كذلك لفترة طويلة تالية"، وبالتحديد حتى الحقبة التي سيكتشف فيها الماركسية ويسهم انطلاقاً منها، في إبداع الوجودية.
غير أن سارتر لم يكن قد اكتشف هذه التوجهات لديه بالتأكيد حين وضع اثنين من كتبه الأولى عند بداية الثلاثينيات، تحت مظلة سيد الفلسفة الظواهرية الألماني، الذي سيظل يقول حتى بعدما ابتعد من فلسفته أنه يدين له بكثير، وهما كتاباه التأسيسيان، "المتخيل" و"المخيلة"، اللذان إذا كان ثانيهما قد صدر بالفعل إثر إنجازه في ذلك الوقت المبكر، فإن الآخر الذي كان تمهيداً جامعياً للأول، لن يصدر إلا عام 1940 عن منشورات غاليمار التي أضحت ناشره الرسمي منذ بات له اسم معروف في عالم الكتابة.
ومن نافل القول هنا بالتالي، إن الكتابين المبكرين المذكورين، والمتكاملين على أية حال، منطبعان بفلسفة هاسرل إلى درجة مدهشة ولا يحاول سارتر أن يخفيها، ولن يحاول ذلك لاحقاً بالطبع. وهنا لا بد من القول إن مجمل فلسفة سارتر وحتى سنواته الأخيرة والتي عبرتها تقلبات لا تعد ولا تحصى، تبقى ذات جذور راسخة وصلبة يحملها هذان الكتابان.
وعلم النفس هنا على الخط بالنسبة إلى أول الكتابين وعنوانه "المتخيل" لا بد من أن نذكر أن له عنواناً ثانوياً يكاد يفتح كثيراً عن التوجهات الأولية للجامعي الشاب، ويفصح بالتالي عن كثير من أفكاره وتوجهاته اللاحقة، وهو "سيكولوجية المخيلة الظواهرية" مما يعني أنه إنما يسير على الخط الفكري الذي سيتبعه سارتر طوال سنوات الـ30. بحيث إن الباحث يهدف هنا إلى توصيف المخيلة مرتكزاً إلى نظرية مأثورة عن هاسرل نفسه تنظر إلى الوعي بكونه غاية لغرض ما، فيقول إن "من طبيعة الوعي أن يكون غائياً، فإن لم يكن كذلك سيكف عن أن يكون وعياً بشيء ما بالتالي ستنتهي كينونته كوعي وينتهي وجوده".
بيد أن الوعي الذي يتخيله سارتر هنا، إنما هو وعي يملك القدرة على فرض غاية غير واقعية أي غاية تكون قادرة على الانعتاق من أي واقع "ما يؤدي بنا إلى القول إن فرض صورة معينة ليس سوى تكوين لغرض معين على هامش كلية الواقع، أي بالتالي هنا أيضاً، إبقاء الواقعي بعيداً والتحرر منه. وباختصار ’إنكار وجوده’". وهو ما يعني أن المخيلة لا يمكنها أن تكون إمكانية بين إمكانات أخرى، بل إنها بنية مكونة للوعي البشري الذي لا يمكنه أن يكون شيئاً آخر غير الحرية". فلكي يتمكن وعي ما من التخيل، يتعين عليه أن يفلت من أسار العالم متكلاً على طبيعته نفسها. يتعين عليه أن يتخذ لنفسه منطلق انسحاب تجاه العالم، وبكلمة واحدة، يتعين عليه أن يكون حراً".
ماذا عن المخيلة ذاتها؟ الحقيقة أن سارتر إذ وصل هنا إلى هذا الاستنتاج المرتبط لديه كلياً بمفهوم الحرية وعلاقتها بالمتخيل، وجد نفسه ينساق هذه المرة لتعريف المخيلة نفسها، في ارتباطها البديهي بالمتخيل. ومن هنا كان عمله الكبير الذي سيحمل عنوان "المخيلة" والذي سيشكل كما نعرف القسم الأول من كتاب ضخم كان يزمع إنجازه تحت عنوان جامع هو "الصورة" أو "العوالم المتخيلة" بوصفه على أية حال مقدمة لكتاب "المتخيل" السابق الذكر، والذي سيصدر بعد أربعة أعوام عن غاليمار كما أشرنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحقيقة أن "المخيلة" كما انتهت صياغته، سيكون عملاً أكاديمياً ينضوي ضمن إطار بحث سارتري حول مفهوم الصورة والوعي، كان الباحث الشاب قد شرع في العمل عليه منذ عام 1927 بالتواكب مع إنجازه دبلوماً في الدراسات العليا عنوانه "الصورة في الحياة السيكولوجية: دورها وطبيعتها".
ولقد انطلق سارتر في هذا العمل من انتقاد حاد لما سماه "ميتافيزيقا الصورة الساذجة" أي تلك الميتافيزيقا التي ترى أن الصورة الذهنية يمكنها أن توجد بوصفها غرضاً، مستنداً من جديد إلى أشغال هاسرل ليؤكد بالتعارض مع تلك الميتافيزيقا أنه "لا يوجد ولا يمكن أبداً أن يوجد صور في الوعي. وبالتحديد لأن الصورة هي في حد ذاتها نوع من الوعي. الصورة فعل وليست شيئاً. الصورة هي وعي بشيء ما".
وهنا قد يكون من المهم أن نذكر أن سارتر وبناء على طلب من المشرف على رسالته الجامعية (دبلوم دراسته العليا)، البروفيسور ديلاكروا، قد صاغ للناشر فيليكس آلكان، الجزء النقدي، من كتابه حول "المخيلة"، لينشره هذا ضمن إطار "الموسوعة الفلسفية الجديدة". لكنه كان في الوقت نفسه قد شرع في إنجاز جزء آخر من الكتاب نفسه يبدو أنه كان أكثر أصالة وجدة من الأول بكثير، حيث استعاد هنا من الجذور، مسألة الصورة ولكن من خلال استخدامه مفاهيم الغائية الظواهرية. وهو بالتالي صاغ للمرة الأولى أولى أفكاره الأساسية المتعلقة بالفلسفة في انطلاقتها من الخواء المطلق للوعي وقدرته على مقاربة العدم. وهي الأفكار التي سنجدها مسهبة ولكن مدونة بلغة بالغة الصعوبة، لاحقاً في كتابه العمدة "الوجود والعدم" الذي يشكل مع ذلك نوعاً من قطيعة تكاد تكون معلنة مع هاسرل وأفكاره!