ملخص
يقول متخصصون إن بعض مراكز الشباب بالمحافظات المصرية تحوّلت إلى "لافتات مدون عليها أسماء فقط من دون أنشطة أو خدمات أو عمالة إدارية بها"، ووزارة الرياضة المصرية ترد: أسهمنا في حل 90 في المئة من مشكلات وأزمات مراكز الشباب... فهل تمارس الرياضة حقاً في مراكز الشباب بمصر؟
خاض الرجل الخمسيني إسماعيل طنطاوي، محاسب بإحدى شركات الأغذية، جولة شاقة على عدد من الأندية الرياضية القريبة من محيط مسكنه، وكذلك المجاورة لمكان عمله، من أجل إلحاق أسرته بعضوية أحدها بكلفة تناسب إمكاناته المادية. غير أنه فوجئ بغلاء أسعار غالب اشتراكات العضوية بصورة تفوق قدراته المادية، وتضاعف الأعباء على موازنة أسرته في المستقبل، بخلاف الإجراءات الروتينية المطلوبة، مثل المقابلات لتقييم الوضع الاجتماعي والمؤهلات ورسوم التجديد السنوية، التي أصبحت "غالية الكلفة" أيضاً.
أمام إلحاح الزوجة والأبناء (بنتان وولد)، حاول طنطاوي، المقيم بمحافظة الشرقية (شمال مصر)، البحث عن منفذ بديل يحقق للأسرة مبتغاها بالحصول على خدمات اجتماعية ملائمة والاشتراك للأبناء في الأنشطة الرياضية والألعاب الترفيهية وضمان اللعب واللهو من دون أخطار.
بعد استشارة أسرته وزملائه بالعمل، وجه الرجل الخمسيني بوصلته صوب مراكز الشباب أملاً في العثور على ضالته، كونها زهيدة الكلفة مقارنة بالأندية، إلا أنه لاحظ بعد جولة ميدانية أجراها على أكثر من مركز أنها ضيقة المساحة، وتفتقر إلى عدد من الإمكانات والأنشطة الرياضية، والألعاب الترفيهية، وكذلك الأماكن المخصصة للجلوس والاستراحة وتناول الأطعمة والمشروبات.
إلى جانب كذلك نقص وسائل الأمان الكافية لتأمين ابنتيه أثناء ممارسة الرياضة، علاوة على قلة أعداد العائلات المترددة عليها باستمرار واقتصارها على الشباب الذكور فقط الوافدين لممارسة رياضة كرة القدم في الملاعب الخماسية، فضلاً عن تهالك البنية التحتية في بعض أجزاء المباني، بسبب عدم إجراء الصيانة الدورية بصورة مستمرة لها، فتراجع عن تلك الفكرة، مفضلاً الاكتفاء بزيارتها في فترات المواسم والأعياد فقط كوسيلة للتسلية وتمضية وقت مع الأسرة، بحسب ما أخبرنا به.
يقول طنطاوي "شعرت أن مراكز الشباب تناسب الشباب الذكور أكثر من الإناث، تخوفت على ابنتي لعدم وجود أماکن مناسبة لممارسة أي نشاط رياضي، ونظراً إلى بعد مسافة غالب المراكز عن النطاق السكني لنا وخشية تأخرهما ليلاً، كما أن نظرة المجتمع لدينا تعتبر أن تلك المراكز مكاناً ذكورياً أكثر لا مكان للإناث فيه".
متنفس زهيد الكلفة
فيما اقتصرت تجربة الشاب العشريني محمد المنصوري، الذي يقطن حي إمبابة بالجيزة مع مراكز الشباب على ممارسة رياضة كرة القدم فقط، إذ اعتاد مع حلول الإجازة الدراسية كل عام، الذهاب رفقة زملائه بالمدرسة وجيرانه بالحي نفسه، لحجز إيجار ملعب خماسي كرة قدم ساعتين على مدار ثلاثة أيام أسبوعياً بكلفة لا تتخطى في كثير من الأحيان 200 جنيه (4.13 دولار أميركي) تمثل حصة كل فرد من المشاركين في حجز الملعب.
لجأ المنصوري إلى تلك الوسيلة باعتبارها المتنفس الوحيد زهيد الكلفة للاستمتاع برياضته المفضلة التي يعشقها منذ الصغر وورث حبه لها عن والده ووسيلة لتفريغ طاقته والهرب من ضغوط الدراسة، واعتبرها بديلاً مناسباً عن الجلوس على المقاهي الشعبية أو اللجوء للعب في ساحات الشوارع والميادين المفتوحة، التي كثيراً ما تواجه بالرفض من سكان تلك المناطق، بسبب الضوضاء الناجمة عنها أو التعرض للحوادث الخطرة بسبب السيارات المارة على جوانب الطريق.
يقول الشاب العشريني، لـ"اندبندنت عربية، "كنت أحلم بالانضمام إلى أحد الأندية الرياضية بسبب تزايد مجالات الترفيه والأنشطة الرياضية والخدمات وتوافر وسائل الأمان، لكن غلاء أسعارها الذي بلغ أرقاماً خيالية حال دون ذلك فأصبحت تلائم الطبقات الغنية أكثر، حاولت كثيراً إجراء اختبارات للالتحاق بفرق كرة القدم ولكن لم أوفق، مما جعلني ألجأ إلى مركز الشباب للاستمتاع برياضتي المفضلة، لكن في اعتقادي أنه ينقصها كثير من الخدمات والإمكانات والألعاب التي أرغب في ممارستها".
ويظهر مسح ميداني أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهة حكومية)، وفقاً لوجود عضوية في ناد أو مركز شباب بحسب النوع (مصر 2023)، أن نسبة كبيرة من الأفراد ليس لديهم عضوية في النوادي أو مراكز الشباب، بلغت 95.8 في المئة، وارتفعت تلك النسبة في الريف لتصل إلى 98.6 في المئة، في مقابل 92.1 في المئة بالحضر، كما ارتفعت النسبة للإناث لتصل إلى 96.8 في المئة، في مقابل 94.8 في المئة للذكور. وبحسب تصريحات متلفزة لوزير الشباب والرياضة المصري أشرف صبحي في يوليو (تموز) الماضي، فإن مصر تملك 5 آلاف مركز شباب على مستوى الجمهورية و1200 ناد رياضي.
وخلال جولة ميدانية أجرتها "اندبندنت عربية" واستبيان آراء عدد من مسؤولي مراكز الشباب في محافظات مختلفة، رصدت تفاوتاً في أسعار اشتراكات مراكز الشباب، بحسب اتساع المساحة وحجم الأنشطة والخدمات وأعداد المشتركين، إذ تتراوح الأسعار في مراكز المناطق الشعبية والقرى ما بين خمسة جنيهات إلى 30 جنيهاً (0.62 دولار)، وهو يمثل السمة الغالبة لكثير من مراكز الشباب على مستوى الجمهورية، بينما هناك مراكز متوسطة الكلفة في بعض المناطق مثل حي الهرم، بلغت كلفة الاشتراك فيها نحو 1000 جنيه (20.62 دولار)، وتزيد نسبياً في مراكز أخرى بالمنطقة نفسه، وهناك مراكز بلغت كلفة الاشتراك فيها ما يراوح بين 5 آلاف (103.09 دولار) إلى 10 آلاف جنيه (206.19 دولار)، مثل مركز شباب الجزيرة والتجمع.
تغيير الثقافة المجتمعية
وفي شأن نسب الإقبال على مراكز الشباب، يقر مسؤول سابق بوزارة الشباب والرياضة المصرية على دراية بالملف، طلب عدم الافصاح عن اسمه، أن المراكز بالقرى والأرياف "لا تزال تفتقر للإمكانات والخدمات والأنشطة الجاذبة، لا سيما للإناث عكس مراكز شباب المدن البالغ عددها ما يزيد على 285 مركزاً التي تكثر بها الأنشطة والخدمات الرياضية والترفيهية"، مشيراً إلى أن هناك ما يزيد على 4 آلاف مركز شباب تتمركز في 5500 قرية على مستوى الجمهورية بحاجة إلى دعم واهتمام على كل المستويات والأصعدة.
ويضيف المسؤول، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "التطوير في مراكز شباب القرى يقتصر فقط على إنشاء ملاعب لممارسة الذكور رياضة كرة القدم، وجرى إغفال بقية الخدمات والأنشطة الجاذبة للفتيات"، جازماً أن تطوير مراكز الشباب لا سيما في المناطق الريفية والحدودية يتطلب في المقام الأول "تغيير الثقافة المجتمعية، بداية من التربية في المنزل وصولاً إلى العمدة بالقرية".
وفي تقدير المسؤول فإن بعض المراكز بالمحافظات تحولت إلى "لافتات مدون عليها أسماء فقط من دون أنشطة أو خدمات أو عمالة إدارية بها"، مردفاً "أتذكر حينما اتخذ وزير الشباب والرياضة السابق الدكتور خالد عبدالعزيز أثناء توليه مسؤولية الوزارة قراراً بإلغاء 180 مركز شباب دفعة واحدة، بعد أن وجد أنها لا تستوفي الشروط والالتزامات المحددة".
ويرى المسؤول المصري أن كثيراً من مراكز الشباب بالمناطق الحدودية مثل مطروح أو سيناء وغيرها لا تزال تواجه عراقيل واضحة في معدلات جذب المشاركة الشبابية، مرجعاً ذلك إلى بعد المسافة بين التجمعات السكنية وتلك المراكز، التي تصل في بعض الأحيان إلى 20 كيلومتراً، إلى جانب عدم امتلاك بعض الأسر في تلك المحافظات سيارات لتوصيل أبنائهم للمراكز، علاوة على الأفكار الاجتماعية السائدة في تلك المحافظات التي تعتبر أن مشاركة الإناث أمر غير محبب.
وأقرت المادة (84) من الدستور المصري أن "ممارسة الرياضة حق للجميع، وعلى مؤسسات الدولة والمجتمع اكتشاف الموهوبين رياضياً ورعايتهم، واتخاذ ما يلزم من تدابير لتشجيع ممارسة الرياضة".
"التطوير لم يطل القاعدة الشبابية في الريف المصري"، بتلك الكلمات يعقب نقيب المهن الاجتماعية عبدالحميد زيد، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، موضحاً أنه على رغم الجهود الحكومية الهادفة إلى تطوير تلك المراكز على مدار فترات زمنية مختلفة، فإنها لم تحقق إنجازاً ملموساً على أرض الواقع حتى الآن.
وفي اعتقاد زيد، فإن الشباب حالياً أصبحوا قادرين على الفرز والتجريب من خلال قراءتهم لمصادر معلومات مختلفة من السوشيال ميديا، لذلك ينبغي أن تكون هناك برامج محفزة لتشجيعهم على المشاركة في مراكز الشباب، مثل دورات في اللغات أو البرمجة أو ندوات علمية وغيرها، مشيراً إلى أن عزوف الفتيات عن مراكز الشباب حقيقة مؤكدة، وهو ما يتطلب ضرورة إعداد دراسات اجتماعية عن أسباب تلك الظاهرة وكيفية وضع حلول جذرية لها وأسباب عدم تقبل الأهل لارتياد بناتهن هذه المراكز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تقدير نقيب الاجتماعيين، فإن روشتة الحل تكمن في زيادة الأنشطة الجاذبة للفتيات وتوفير الخصوصية لهن في غرف خلع الملابس والحمامات وصالات الجيم، وتجديد الدماء بتعيين إداريين جدد قادرين على طرح رؤى وأفكار تواكب المتغيرات الحديثة، وتكون قادرة على استقطاب الشباب، علاوة على تدريب العاملين بالمراكز على كيفية احتواء الشباب والتواصل معهم وفهم رغباتهم، ووضع برامج تسويقية قادرة على استقطاب الشباب بالأساليب المنهجية الحديثة ومتناسبة مع التطور الرقمي الحالي، مردفاً "أساليب العصر تغيرت والشباب أصبح لديهم لغة جديدة وهو ما يتطلب مواكبة ذلك التطور".
وخلال الآونة الماضية، تعالت استغاثات عدد من نواب البرلمان للمطالبة بإصلاح أوضاع مراكز الشباب، ففي يونيو (حزيران) الماضي تقدم البرلماني المصري حسن المير بطلب إحاطة يشكو الإهمال الشديد بمراكز الشباب، وأنها تفتقر إلى الصيانة والتجهيزات الأساسية، وتعاني تهالك المباني والملاعب، وضعفاً في الأنشطة، إلى جانب غياب الكوادر المتخصصة في إدارة وتفعيل هذه المراكز، مما أفقدها دورها الحيوي في خدمة شباب القرى، كما أن كثيراً من هذه المراكز أصبحت مغلقة أو مهجورة، أو تدار بصورة شكلية من دون فاعلية.
وفي يناير (كانون الثاني) 2021، وجه نواب البرلمان انتقادات لاذعة لوزير الشباب والرياضة الدكتور أشرف صبحي، بسبب تردي أوضاع مراكز الشباب، واعترف الوزير خلال الجلسة بوجود نموذج فيلم "التجربة الدنماركية" للفنان عادل إمام وإغلاقه مراكز شباب بسبب تردي الخدمة، وفي سبتمبر (أيلول) عام 2020 تقدم البرلماني المصري طارق متولي بطلب إحاطة، شاكياً من أن معظم مراكز الشباب بالمحافظات الحدودية تعانى الإهمال وقلة الإمكانات، ومبانيها آيلة للسقوط، لعدم وجود موارد مالية لصيانتها، إلى جانب انتشار البلطجة والمخدرات في المهجور منها، فتحولت إلى "خرابة تسكنها الأشباح، مع عدم وجود أية صالات وملاعب رياضية".
ماذا قدمت وزارة الرياضة المصرية؟
توجهت "اندبندنت عربية" بتساؤلاتها لمتحدث وزارة الشباب والرياضة المصرية الدكتور محمد الشاذلي، الذي أكد أن إجراءات الوزارة أسهمت في حل 90 في المئة من مشكلات وأزمات مراكز الشباب السابقة، إذ قامت بجهود مكثفة لإيجاد حلول لأزمة عزوف الشباب عن المشاركة تتمثل في إنشاء ملاعب خماسية بجميع مراكز الشباب لممارسة كرة القدم، وكذلك إضافة مزيد من الصالات الخاصة بممارسة الألعاب الفردية، لا سيما في القرى والأرياف مثل "الملاكمة والمصارعة ورفع الأثقال"، نظراً إلى كون القرى أصبحت المورد الرئيس للمواهب في تلك القطاعات مقارنة بالأندية الرياضية التي تحجم عن الدخول بقوة فيها، إضافة إلى إنشاء مناطق مخصصة لألعاب الأطفال لتوفير خدمات لهم، كما أصدرت الوزارة قرارات بأن تكون كل القرارات "لا مركزية" يشارك فيها كل مراكز الشباب.
ورداً على الشكاوى في شأن غياب مراكز الشباب لا سيما في المناطق الحدودية، يقول الشاذلي "هذا الكلام غير دقيق، لأن أول محافظة اكتملت بها أعمال التطوير بنسبة 100 في المئة كانت محافظة شمال سيناء، كما جرى إنشاء مراكز شباب في حلايب وشلاتين وافتتح الوزير عدداً من الملاعب بها، مردفاً "على رغم يقيننا بأن نسبة المشاركة لن تتجاوز 10 في المئة سنوياً من السكان كونها تحوى أعداداً صغيرة من الأسر والعائلات، إلا أننا قررنا وتمسكنا بإقامة ملاعب بها لجذب الشباب على ممارسة الأنشطة الرياضية".
وفي مارس (آذار) الماضي، أعلن وزير الشباب والرياضة المصري الدكتور أشرف صبحي أن الوزارة نفذت طفرة كبيرة في تطوير مراكز الشباب، في إطار المبادرة الرئاسية "حياة كريمة"، شملت تطوير 1028 مركزاً ضمن المرحلة الأولى، وجار إنشاء 266 مركزاً جديداً بالمرحلة الثانية، إضافة إلى تطوير 760 مركز شباب إضافياً لـ"توفير بيئة رياضية متكاملة للشباب في جميع أنحاء الجمهورية".
وتشريعياً، عكفت الوزارة على إصدار قانون خاص بمراكز الشباب في مجلس النواب له إطار تشريعي مستقل ولوائح خاصة بخلاف اللوائح التنفيذية، وهو قانون الهيئات الشبابية، الذي تمثل فيه مراكز الشباب بنسبة تزيد على 80 في المئة.
ورداً على مخاوف بعضهم من تغول القطاع الخاص في مراكز الشباب ورفع الكلفة على المواطنين، يقول الشاذلي إن تلك المخاوف في غير محلها، مشيراً إلى أن تلك الخطوة كانت ضرورة حتمية ومن دون هذه الشراكة لم نكن سنحقق 10 في المئة مما جرى إنجازه حالياً، واستطعنا في خمس سنوات تحقيق كل متطلبات مراكز الشباب، وتطوير 95 في المئة منها.
وفي أبريل (نيسان) الماضي، أعلن وزير الشباب والرياضة في تصريحات متلفزة، أن القطاع الخاص ضخ خلال السنوات الست الماضية استثمارات تجاوزت 4 مليارات جنيه في قطاع مراكز الشباب، وأسهم في إحداث طفرة حقيقية في هذا المجال.