ملخص
عودة النازحين السودانيين إلى قُراهم أعادت إلى الواجهة مطالبات قديمة بالملكية والميراث مضت عليها أعوام من دون تطبيق واضح أو حل، بالتالي نشأت بسبب ضعف التوثيق وضياع السجلات وتداخل الاختصاصات القضائية نزاعات عديدة وصلت إلى المحاكم، مما كشف عن هشاشة الأطر القانونية والإدارية في حماية الحقوق العقارية والعائلية للمواطنين.
منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في أبريل (نيسان) 2023 تجاوز عدد النازحين داخل السودان 9 ملايين شخص، بينما فر نحو مليونين لدول الجوار، لكن غالبية النازحين من مناطق الصراع، بخاصة العاصمة الخرطوم، اختاروا العودة لموطنهم الأصلي في مختلف الأقاليم الآمنة، مما أعاد إلى الواجهة مطالبات قديمة بالملكية والميراث مضت عليها أعوام من دون تطبيق واضح أو حل، بالتالي نشأت بسبب ضعف التوثيق وضياع السجلات وتداخل الاختصاصات القضائية نزاعات عديدة وصلت إلى المحاكم، مما كشف عن هشاشة الأطر القانونية والإدارية في حماية الحقوق العقارية والعائلية للمواطنين.
يقول المواطن السوداني أحمد عيسى "بعد عام قضيناه في النزوح عدت مع أسرتي إلى قريتنا في ولاية الجزيرة، لكن عودتنا لم تكن كما تمنيت، إذ فوجئت بأن عمي استولى على معظم الأرض الزراعية التي ورثناها عن والدي، وكان عذره أنه أراد الحفاظ عليها من الإهمال، غير أنني رأيت في ذلك اعتداءً صريحاً على حقي وحق إخوتي، وسرعان ما تحول الخلاف بيننا إلى مشادات عنيفة داخل الأسرة، مما أدى إلى انقسام أسرتنا إلى طرفين، بعضهم معي ومع إخوتي، وآخرون وقفوا مع عمي".
وأضاف عيسى "شعرت حينها أن الروابط التي كانت تجمعنا بدأت تتفكك أمام عيني، وفي النهاية، لم أجد خياراً سوى اللجوء إلى المحكمة ورفع دعوى قضائية ضد عمي، لكن القضية ما زالت عالقة حتى اليوم، وكلما تأخر الفصل فيها ازداد الشرخ داخل الأسرة واتسعت الفجوة بيننا".
في حين ذكرت فاطمة عبدالله "غادرت منزلي في أم درمان بعد اندلاع الحرب في العاصمة بستة أشهر، وعدت إلى قريتي في شمال كردفان، إذ كنت اعتمد طوال السنوات الماضية على دخل إيجار منزل ورثته من والدي، لكن أثناء غيابي استولى عليه أحد أقاربي، وأجّره لصالحه، وبعد عودتي للقرية دخلت في نزاع طويل لإثبات حقي، وبسبب غياب الأوراق الرسمية وضياع بعض السجلات أصبحت عاجزة عن استرداد حقي ورزقي الأساس، مما جعلني أعيش على المساعدات، بينما بات المنزل الذي يعد بمثابة الضامن الاقتصادي عبئاً قضائياً".
قضايا معقدة
المحامي خالد سلامة قال "من خلال عملي في المحاكم خلال الفترة الأخيرة، أستطيع القول إن قضايا الميراث والملكية أصبحت من أعقد القضايا التي أفرزتها الحرب، فالغالبية العظمى من الأسر فقدت مستنداتها الرسمية أثناء النزوح مثل شهادات البحث والعقود وأوراق القسمة الشرعية، فإما احترقت مع المنازل، أو نهبت من مكاتب الأراضي والمحاكم، هكذا يجد المتقاضي نفسه في وضع يملك فيه القصة والحق، لكنه لا يملك الإثبات".
ويضيف سلامة "عند غياب المستندات، نلجأ إلى الشهود، لكن الأمر لا يخلو من صعوبات، بعض الشهود توفوا، وبعضهم نزح ولا يمكن الوصول إليهم، ومن بقي فإن شهاداتهم في كثير من الأحيان متعارضة بسبب خلافات قديمة، وهذا يضع القاضي أمام روايات متناقضة لا يستطيع الفصل بينها من دون سند مكتوب، نتيجة لذلك، صارت المحاكم مثقلة بملفات متراكمة تؤجل أشهراً وسنين، لأن البينات غير كافية للحسم".
وتابع المحامي، "الأخطر من ذلك أن هذا الفراغ القانوني فتح الباب واسعاً أمام الاستغلال، فقد ظهرت حالات تزوير صريحة، إذ استغل بعض الأشخاص غياب الرقابة وأصدروا أوراق ملكية جديدة لأراضٍ متنازع عليها، خصوصاً في فترة الفوضى الأمنية بالخرطوم ودارفور، وأحياناً نجد قطعة أرض واحدة لها أكثر من شهادة بحث، وهو ما يشكل كارثة قانونية".
وزاد المحامي، "النظام القانوني الحالي ليس مهيأً للتعامل مع هذا الحجم من النزاعات، فلا توجد آلية استثنائية للتسريع، ولا محاكم خاصة بقضايا النزوح، والنتيجة أن المتضررين الذين غالبيتهم من النساء والأطفال الورثة، يبقون في انتظار طويل يستهلك أعمارهم ومواردهم، وفي المقابل، هناك أسر ذات نفوذ أو مال قادرة على استغلال الثغرات للسيطرة على ممتلكات ليست لها، هذا وضع غير عادل يهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي على المدى الطويل".
انعدام الثقة
في السياق ذاته أوضح المحامي طارق السيد قائلاً "ظللنا كمحامين نستقبل عشرات القضايا المتعلقة بحقوق الملكية والميراث يومياً، فالنزوح أعاد الناس إلى أراضيهم وقُراهم، لكنه أخرج إلى السطح خلافات قديمة حول الميراث كانت مغطاة أو مؤجلة لسنوات، وفي الغالب فإن النزاع لا يكون بسبب فقدان المستندات فحسب، بل بسبب انعدام الثقة بين أفراد الأسرة، ورغبة كل طرف في الاستئثار بالنصيب الأكبر".
واستطرد السيد، "المشكلة أن هذه الخلافات تمزق النسيج الاجتماعي للأسرة والقبيلة، وتحول الأقارب إلى خصوم، إذ إن بعض القضايا تصل إلى حد القطيعة أو حتى العنف الجسدي، وفي نظري إن الحل لا يكمن فقط في المحاكم، لأن المحاكم بطيئة ومثقلة بالقضايا، فلا بد من تفعيل آليات الصلح عبر لجان الأجاويد والإدارة الأهلية، مع إعطاء النساء حقهن الكامل في الميراث لأن كثيراً من النزاعات تنشأ من حرمانهن، كما يجب التفكير في إنشاء محاكم أو دوائر متخصصة بقضايا النزوح والميراث لتسريع الحسم وتقليل الخسائر الاجتماعية، فالأسرة التي تخسر وحدتها بسبب نزاع إرث، تخسر أكثر من الأرض نفسها".
إجراءات دقيقة
من جانبه أفاد الزبير مصطفى، وهو موظف في سجلات الأراضي، قائلاً "لا شك أن الحرب تسببت في أضرار بالغة، وضياع سجلات في بعض المناطق خاصة في أطراف الخرطوم، لكن الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي ولايات مثل القضارف وسنار وبورتسودان وأجزاء من الجزيرة، ما زالت السجلات محفوظة، وبعضها نسخ إلكترونياً، هناك أرشيف مركزي في وزارة العدل والمسجل العام تراجع فيه الملفات بصورة دورية وتحفظ نسخ احتياطية، فعندما يأتي مواطن ويدعي فقدان أوراقه لا نعتمد على أقواله وحدها، إذ لدينا إجراءات دقيقة، كما نعود إلى الأرشيف لمراجعة سجلات القطعة أو العقار، ونتحقق من الملكية، ثم نصدر شهادة بحث بديلة، بالتالي ليس من السهل أن يستولي أحد على أرض ليست له".
وواصل مصطفى حديثه، "المشكلة الكبرى التي نراها لا تكمن في التوثيق بحد ذاته، بل في النزاعات الأسرية، فالنزوح أعاد الناس إلى قراهم بعد سنين طويلة، وظهرت الخلافات القديمة إلى السطح، هناك أخوات يطالبن بحقوقهن الشرعية بعدما كن مهمشات، وأبناء عم يتنافسون على الأرض ذاتها، أو ورثة يختلفون حول القسمة، فمثل هذه القضايا حتى لو كانت الأوراق مكتملة، لا تحسم إلا عبر المحاكم الشرعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأردف المتحدث، "بخصوص الحديث عن الفساد أو التزوير، صحيح هناك محاولات تمت في هذا الخصوص، لكن نظامنا الرقابي يعتمد على تعدد مراحل التوثيق، وأي شهادة بحث يمكن مراجعتها ومطابقتها مع النسخ الأصلية"، مؤكداً أن "الحرب عطلت الرقابة في بعض المناطق، لكن المؤسسات تعمل بجهد كبير لمنع التجاوزات".
ومضى الموظف في سجلات الأراضي في القول "الأزمة الحالية ليست انهياراً تاماً للنظام العقاري بقدر ما هي انعكاس لظرف استثنائي تمر به البلاد، وفي تقديري الحل يكمن في تعزيز التنسيق بين المحاكم الشرعية ومكاتب الأراضي والإدارات الأهلية، حتى تحل النزاعات بسرعة وتحفظ حقوق الأسر، ودورنا كمؤسسة هو حماية السجلات وتوفير الإثبات، لكن الكلمة الأخيرة تبقى للقضاء".
انعكاسات خطرة
من جهته يشير الباحث الاقتصادي محمد سالم إلى أن "ما يحدث في قضايا الميراث ليس مجرد خلافات قانونية أو اجتماعية، بل له انعكاسات خطرة على الاقتصاد الكلي، فالأراضي والممتلكات الموروثة تمثل رأس المال الأساس للأسر، خصوصاً في الأرياف، وعندما تتحول هذه الأصول إلى نزاعات غير محسومة، تتعطل الاستفادة منها في الزراعة أو السكن أو الاستثمار".
وأردف سالم، "هناك آلاف الفدادين من الأراضي الزراعية متوقفة لأنها محل نزاع، ومئات المنازل في المدن الكبرى غير مستغلة بسبب قضايا ملكية، فهذا الأمر يعمق حال الفقر، ويجعل الأسر النازحة أكثر اعتماداً على المساعدات".
ولفت الباحث الاقتصادي إلى أن "الحلول الاقتصادية يمكن أن تكون عبر إطلاق مبادرة لتسوية النزاعات خارج المحاكم، أو إنشاء صندوق خاص بدعم المتضررين لحين حسم قضاياهم، كذلك من المهم رقمنة السجلات العقارية بصورة كاملة لأنها أمر ضروري، فلا يمكن أن يتعافى الاقتصاد بينما أصوله الأساسية مجمدة في أروقة المحاكم".
انهيار البنية
القاضي السابق فيصل جلال قال إن "القضاء السوداني يعيش الآن تحت ضغط غير مسبوق نتيجة تراكم القضايا المرتبطة بالميراث والملكية عقب النزوح، فطبيعة هذه القضايا معقدة، لأنها لا تتعلق فقط بأوراق ملكية، بل بمصائر أسر ممتدة وأجيال، نحن أمام معضلات حقيقية، مستندات ضاعت أثناء الحرب، شهود توفوا أو تفرقوا في النزوح، وأراضٍ ظلت لسنوات طويلة بلا إدارة رسمية، فأصبحت عرضة للاستيلاء، فالقاضي في هذه الحالة يواجه معضلة، هل يعتمد على شهادة متناقضة؟ هل يحكم بالعرف؟ أم يترك الأمر بلا حسم، الواقع أن القوانين الحالية لم تصمم لمواجهة ظرف استثنائي كالذي نعيشه".
وزاد جلال، "النصوص القانونية تفترض وجود سجلات محفوظة ودولة مستقرة، بينما نحن أمام وضع انهارت فيه البنية التحتية للمؤسسات العدلية، لهذا، أرى أن الحل يبدأ من تعديل تشريعي عاجل يضع إطاراً خاصاً لقضايا النزوح والميراث، بحيث يسمح باستخدام القرائن والأعراف الموثوقة كوسيلة إثبات، من دون أن يكون ذلك على حساب العدالة، كما نحن في حاجة إلى دوائر قضائية متخصصة بهذه النوعية من القضايا، تعمل بسرعة وتخصص، بدلاً من إدخالها في روتين المحاكم العادية".
ودعا القاضي السابق إلى ضرورة تدريب القضاة على خصوصية قضايا الملكية في النزوح، لأن المسألة لم تعد نزاعاً مدنياً بسيطاً، بل قضية اجتماعية واقتصادية تهدد استقرار المجتمعات، بالتالي إذا لم نسرع العدالة، فإن هذه الخلافات قد تتحول إلى صراعات قبلية أو حتى نزاعات مسلحة صغيرة على الأراضي.
حملات توعية
أما المتخصصة في المجتمع المدني نهال محمد فقالت، "القانون وحده لا يكفي أبداً، وهذا واحد من أهم الدروس التي كشفت عنها الحرب، نحن أمام مجتمع خرج من النزوح وهو مثقل بالشكوك والخلافات، فالأسرة الواحدة قد تنقسم بسبب ميراث بيت أو قطعة أرض، والقبيلة الواحدة قد تتنازع على حدود ملكية قديمة، إذا لم نتعامل مع هذه القضايا برؤية شاملة، فسنظل ندور في حلقة مفرغة من النزاعات، فدور المجتمع المدني هنا أساسي، أولاً، في التوعية لأن كثير من النساء في السودان ما زلن يحرمن من الميراث بسبب الأعراف الذكورية، وهذا الحرمان هو الشرارة التي تشعل صراعات داخلية، لذلك نحتاج إلى حملات توعية واسعة بأن حق المرأة في الميراث ليس منة، بل هو قانون وشرع".
وأضافت، "نعمل على إنشاء لجان صلح محلية تضم زعماء أهليين، ورجال دين، ومحامين متطوعين، للتدخل قبل أن تصل القضايا إلى المحاكم، فهذه الآلية تتيح حلولاً أسرع، وتحافظ على العلاقات الاجتماعية، كن الإصلاح على المدى البعيد يتطلب شيئاً أكبر، كبناء نظام توثيق عقاري حديث وشفاف، هذه الحرب أثبتت أن الاعتماد على الورق كارثة، وأي حريق أو فقدان للملفات يضيع حقوق عشرات العائلات، لهذا نحن في حاجة إلى رقمنة كاملة للسجلات مرتبطة بقاعدة بيانات وطنية محمية، تمكن أي شخص من إثبات ملكيته حتى في حال النزوح".
وختمت المتخصصة في المجتمع المدني، "كذلك، يجب التفكير في آلية دعم اقتصادي للمتضررين من نزاعات الميراث، كصندوق طوارئ أو مساعدات موقتة، لأن الأسرة التي تفقد مصدر رزقها بسبب نزاع على الميراث تصبح أكثر عرضة للفقر والعنف، في النهاية، هذه ليست فقط قضية ملكية، بل قضية استقرار مجتمع بأكمله، إذا نجحنا في إصلاح هذه المنظومة، سنكون قد وضعنا أساساً متيناً للتعافي بعد الحرب، وإذا فشلنا فستظل المحاكم والساحات مكتظة بالخصومات لعقود".