ملخص
ينبغي على حكومات دول النيل إضافة إلى جهودها الدبلوماسية الرسمية، أن تراهن على الشعوب في القيام بدور التعاون في ما بينها. وفي الموازاة يقدم آبي أحمد نفسه كنموذج للزعامة الأفريقية الحديثة، زعيم يقود بلاده من إرث الفقر إلى آفاق التنمية، لكنه خلال الوقت نفسه وضعها أمام اختبار عسير تجاه التعاون.
رسم واقع "سد النهضة" مساراً طموحاً نشطاً لأهداف تعدها إثيوبيا مضافة لأولويتها، بينما ينتهج رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد درب زعامات معاصرة صنعت مستقبلاً لشعوبها عبر نظريات تتخطى الواقع. فبعدما ظلت إثيوبيا تعيش وريثة فقر وتبعات حاضر صعب، هل يرسم واقع "سد النهضة" طريقاً إلى مستقبل مرجو؟ وإلى أي مدى تستطيع إثيوبيا التوفيق بين طموحها وحقوق الآخرين في الجوار الإقليمي؟
وكان آبي أحمد أكد أن بلاده لن تبقى أسيرة للجغرافيا إلى الأبد، مشدداً على أن إثيوبيا ستخوض حربها ضد الفقر ومن أجل السلام. وأشار إلى أن بلاده ستفتح أبوابها لا محالة. وأضاف "قد لا نعيش نحن لنشهد ذلك، لكن أبناءنا لن يكونوا فقراء في بلد مغلق، بل سيكونون صناع تاريخ يتجاوزون ذواتهم ويساعدون الدول الأخرى"، مؤكداً أن "إثيوبيا لا ترى أن الحرب وسيلة ضرورية للوصول إلى البحر، بل تتمسك بالحلول السلمية"، مشدداً على أن "جيلاً خائفاً أو متردداً في شأن المنفذ لا ينبغي أن يوجد".
جاء حديث رئيس الوزراء الإثيوبي خلال مناسبة توقيع كتابه الرابع بعنوان "حكومة ميديمير" (المعنى من اللغة الأمهرية: حكومة التضافر). ونحى أحمد خلال الحفل باتجاه التطمينات، إذ إن "التمسك بالحلول السلمية"، يقع ضمن أسلوب مصالح الجهات الإقليمية، مبتعداً من الظروف التي اتسمت بها الأشهر والأسابيع الماضية، ضمن المجادلات حول "سد النهضة"، وقضية المنفذ البحري التي فجرتها مذكرة التفاهم المتبادلة مع "صوماليلاند" (إقليم أرض الصومال) وما تبع ذلك من تطورات قادت إلى استفزازات مع بعض دول الجوار الإقليمي.
وكانت الجارة الشمالية إريتريا عدت أن رسائل وجهتها إثيوبيا إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وعدد من قادة الدول، تتهمها فيها بممارسة "الاستفزازات المتكررة والتعدي على السيادة الإثيوبية"، بمثابة "حيلة مكشوفة" تسعى من خلالها أديس أبابا إلى "تبرير أجندتها الحربية طويلة الأمد"، وفق بيان رسمي للحكومة الإريترية. وقال الرئيس الإريتري أسياس أفورقي ضمن لقاء تلفزيوني خلال يوليو (تموز) الماضي، "إذا اعتقدت إثيوبيا أنها قادرة على إغراق القوات الإريترية بهجوم بموجات بشرية فهي مخطئة".
واتهم أفورقي الحكومة الإثيوبية بالتضليل، معتبراً أن رسائلها "صبيانية" وتعكس محاولة "حزب الازدهار" الحاكم (حزب آبي أحمد) التغطية على ما عدتها "استعدادات حربية".
وكان رئيس الوزراء الإثيوبي تحدث ضمن كلامه حول أهمية المنفذ البحري، عن "أخطاء تاريخية في التخلي عن ساحل البحر الأحمر". وقال خلال الأول من سبتمبر (أيلول) الجاري، ضمن حديثه حول إنجاز "سد النهضة" الذي تعتبره إثيوبيا "نجاحاً استراتيجياً"، إنه "لمدة ألف عام لم نتمكن من الاستفادة من نهر النيل وما يجب أن يوفره من خدمات، وبالمثل كنا نملك الوصول إلى البحر الأحمر منذ 30 عاماً، ذلك الوجود كان حديثاً، كان بالأمس من الناحية التاريخية. الخطأ الذي ارتكب أمس سيُصحح غداً وهذا ليس أمراً صعباً".
تحول وقيادة
وشكل إنجاز "سد النهضة منعطفاً تاريخياً في مسار السياسة الإثيوبية والإقليمية، وتبنى عهد آبي أحمد "قضية الماءين"، ماء النيل الذي يسميه الإثيوبيون "أباي"، وقضية المنفذ البحري على البحر الأحمر. وبعد النجاح في إنجاز "سد النهضة"، يدفع الواقع الجديد خطى القيادة الإثيوبية نحو هدف المنفذ البحري. ويبرز إصرار رئيس الوزراء الإثيوبي في توجهاته ونهجه وخطبه المحفزة نحو المستقبل، وتقديمه فلسفة سياسية واجتماعية تدعو إلى التآلف والتآزر لتحقيق الغايات، في ظل خلافات تعيشها إثيوبيا مع جهات سياسية وقومية في مقدمها "جماعة الفانو" التي لا تزال تحارب الحكومة.
وضمن سلسلة كتبه، حمل كتابه الأول عنوان "ميديمير" بمعنى "التآزر" وينادي بالدعوة إلى العمل الجماعي والوحدة الوطنية، بينما يمثل كتابه الثاني بعنوان "رحلة ميديمير" متابعة وتوسيعاً لفكرة "ميديمير"، بالتركيز على كيفية تطبيق الفلسفة عملياً في المجتمع والسياسة، ومواجهة العقبات التي تظهر أثناء تنفيذ الفكرة.
أما الكتاب الثالث فهو بعنوان "جيل ميديمير" ويهتم بالتركيز على دور الجيل الجديد من الشباب في حمل الأفكار الوطنية إلى المستقبل.
ويأتي كتاب "دولة ميديمير" ككتاب رابع وخاتم للفكرة التي يتبناها آبي أحمد ويهتم فيها بالانتقال من الفلسفة النظرية إلى السياسات، والمؤسسات وصياغة نموذج لإثيوبيا كدولة حديثة قائمة على "التآلف".
ووفق ما نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية (فانا) خلال الـ17 من سبتمبر الجاري، قال أحمد إن "حكومة ميديمير تفضل اتباع المسار غير المتبع"، مؤكداً أن إنجازاتها تمثل خطوات نحو صنع التاريخ، لا مجرد تكرار لما سبق. وقال خلال تدشين كتابه الجديد "حكومة ميديمير"، إن الكتاب "أعد برسالة مفادها أننا صناع تاريخ، لا مجرد معيدين لسرده". وأضاف أن "الحكومة اختارت مساراً غير تقليدي"، مشيراً إلى "سد النهضة الإثيوبي الكبير وتجربة السودان كمثالين على هذه المسيرة التي اتبعتها حكومة ميديمير". وأوضح أن "السودان كان بلداً مسالماً خلال وقت سابق، لكن القرارات غير المنظمة هناك أدت إلى أضرار ملموسة، مثل تدمير مطار الخرطوم الدولي الذي شيد بمجهودات أبنائه".
وأكد آبي أحمد أن "حكومة ميديمير تعاملت مع التحديات السابقة بإكمال المشاريع التي كانت غير مستغلة من حيث الموارد والأفكار والممارسات، مثل سد النهضة"، معتبراً أن إتمام هذه المشاريع أثار جدلاً حول من أنجزها، نظراً إلى أنها حققت نجاحات ملموسة". وأضاف أن "سد النهضة كان ثمرة نضال جماعي وانتصاراً حققه الإثيوبيون معاً"، معتبراً أن "الوقت الحالي لا يعد مناسبة للاحتفال بنجاح الحكومة بقدر ما هو لحث الإثيوبيين على الاستمرار في بناء مستقبلهم". واختتم رئيس الوزراء حديثه بالتشديد على أن كتاب "حكومة ميديمير" يعكس رسالة واضحة "إثيوبيا صانعة لتاريخها ومستعدة لمواصلة مسارها الفريد وغير المتبع في مواجهة التحديات".
وتعد كتب "ميديمير" الأربعة أفكار قيادة تطورت إلى أن أصبحت رؤية دولة، وأتت مصاحبة لظروف يعيشها الداخل الإثيوبي ضمن ما تتبناه إثيوبيا في مسيرة "حوار السلام" في ظل واقع سياسي داخلي يحتاج إلى التوافق بشدة، فضلاً عن محيط إقليمي متوتر، إثر عدم التوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب، مصر والسودان، في حيثيات بناء وملء "سد النهضة"، إلى جانب قضية المنفذ البحري الذي لا يزال يشكل هاجساً، ولم تتضح الرؤية حوله ما بين إثيوبيا والأطراف الإقليمية الأخرى.
خيار معقول
يقول السفير السوداني السابق لدى واشنطن خضر هارون إن "العالم في ظل التغير المناخي الفظيع بدأ يتجه إلى الطاقة الجديدة والمتجددة – السدود المائية بدأ يتفق على أن تكون أصغر حجماً كي لا تشكل أخطاراً محلية بسبب التصدع والانهيارات". ويضيف أن "مستقبل سد النهضة مربوط بالتعاون، الذي هو طلب كل من مصر والسودان وفق اتفاق المبادئ خلال عام 2015، أي أن يكون لهم حضور مشارك في السد نفسه عبر فنيين سودانيين ومصريين يسهمون في إدارة السد بما لا يحدث ضرراً بالنسبة إلى السودان ومصر من ناحية الزراعة، ومن ناحية الفيضانات، ولاعتبارات فنية كثيرة. وأعتقد أن المجال لنزع فتيل الغضب والتوجس مفتوح، ويتحقق في أن توافق إثيوبيا على إشراك الطرفين".
وتابع هارون "ينبغي ألا تتوقع إثيوبيا أن إنشاء السد وإصرارها عليه وحتى ونجاحها في افتتاحه هو نهاية المشوار، فالسد وما صاحبه من خلافات سيخلق نوعاً من التوجس يتبعه نوع من الاستعدادات العسكرية والتخابر بين الدول، مما يعني أن الجو لن يكون مناسباً للنهضة والتنمية، بل ستسيطر ظلال الحرب على الأجواء، لذلك وتفادياً لهذا المناخ غير الصحي يجب استدراك خطأ إصرار إثيوبيا على ملء الخزان مرة واثنتين دون إشراك طرفي المصب عبر الوصول إلى اتفاق وتراضٍ وتعاون بين الأطراف".
وزاد لأنه "أما في ما يتعلق بكتاب ’حكومة ميديمير‘ ووفق قراءة سريعة فهو كتاب شامل وواضح الرؤية كونه يجمع ما بين الإنجاز في التاريخ الإثيوبي والطموح المستقبلي الذي تجسده رؤية رئيس الوزراء آبي أحمد في الوحدة والتآزر الداخلي، وهي رؤية واقعية للمشكل الأفريقي عامة تصاحبها تحديات الجوار الإقليمي الذي يتأثر به الداخل الإثيوبي، سواء ما يتعلق بسد النهضة أو المنفذ البحري الذي تطالب به إثيوبيا".
ورأى السفير السابق أنه "من الواجب أن تتبع إثيوبيا طريق التعاون في قضية سد النهضة مع دولتي المصب، ومشاركتهما في إدارته وتسييره، وتحقيق المنفعة الجماعية منه، لتعلو قيم التعاون الحقيقي والسلام بين دول الجوار وبخاصة في مجال المياه التي هي عصب الحياة".
دبلوماسية أكثر مرونة
من جهة أخرى، اعتبر الباحث الإثيوبي المتخصص في الشؤون الدولية علي حسين يمر أن "منذ عقود، عانت إثيوبيا فقراً مزمناً وبنية تحتية ضعيفة وتاريخاً طويلاً من الأزمات الداخلية. غير أن مشروع سد النهضة شكل نقطة تحول بارزة في مسار الدولة، إذ لم يعد مجرد مشروع مائي لتوليد الطاقة، بل رمزاً لطموحات البلاد الوطنية والإقليمية. فمع اكتماله، باتت إثيوبيا تطمح لأن تصبح مركزاً إقليمياً لتوليد الكهرباء وتصديرها، وتقديم نفسها كقوة ناشئة في شرق أفريقيا. لكن هذه الطموحات لا تمر دون عقبات، فالمخاوف أتت من بعض دول الجوار بسبب تأثير السد في حصصها من المياه مما يولد توتراً إقليمياً، وجعل إثيوبيا في قلب نزاع معقد يجمع بين التنمية والحقوق التاريخية لدولتي المصب. وأن الضغوط الدولية ما زالت حاضرة للبحث عن صيغة توازن بين الحق في التنمية وضرورات الأمن المائي. وفي هذا الإطار، يبقى مستقبل السد مرهوناً بمدى قدرة إثيوبيا على تبني دبلوماسية أكثر مرونة، تقوم على الشفافية، وتطرح المياه كوسيلة تعاون بدلاً من أن تكون سبباً للصراع".
وتابع "إلى جانب ذلك، حاول رئيس الوزراء آبي أحمد أن يمنح مشروع سد النهضة بعداً سياسياً وفكرياً عبر نظريته ’مديمير‘، أي التضافر أو التكامل. هذه النظرية تقوم على فكرة أن النهضة لا بد أن تكون جماعية، وأن إثيوبيا لن تتقدم إلا إذا تجاوزت انقساماتها الداخلية العرقية والسياسية، وبنت مشروعاً وطنياً جامعاً. غير أن ترجمة هذه النظرية على أرض الواقع ما زالت تواجه تحديات قاسية، وبخاصة مع استمرار الأزمات الداخلية، وأوضاع اقتصادية خانقة تعوق الانطلاقة الكبرى". ويشير الباحث إلى أن "التجارب العالمية تعطي نماذج ملهمة يمكن الاستفادة منها. فقد نجح لي كوان يو في تحويل سنغافورة من جزيرة فقيرة إلى مركز عالمي بفضل القيادة الصارمة والرؤية الاستراتيجية. وفي أفريقيا، تمكن نيلسون مانديلا من صياغة تجربة فريدة في بناء الدولة على أساس المصالحة. هذه النماذج تؤكد أن القيادة الرشيدة تجمع بين الطموح والواقع، وتربط النظرية بالفعل الملموس". وأوضح أن "آبي أحمد يحاول أن يقدم نفسه نموذجاً للزعامة الأفريقية الحديثة، زعيم يقود بلاده من إرث الفقر إلى آفاق جديدة من التنمية، لكن نجاحه يظل مشروطاً بقدرته على تحقيق التوازن بين الطموحات الكبرى والواقع الداخلي المعقد، وبين متطلبات التنمية وضرورات التعاون مع الجوار الإقليمي. فإثيوبيا، على رغم قوتها السكانية ومكانتها الجغرافية، لا يمكنها أن تنهض منفردة أو تتجاهل مصالح جيرانها، خصوصاً في قضايا المياه والطاقة والأمن".
خلاصة الأمر بحسب علي حسين يمر أن "سد النهضة فتح أمام إثيوبيا أبواباً واسعة للطموح، لكنه خلال الوقت ذاته وضعها أمام اختبار عسير، فإما أن تتحول إلى منصة للتعاون الإقليمي والنهوض الوطني، وإما أن تظل مصدر توتر يبدد هذه الطموحات. وهنا يبرز الدور المحوري لقيادة آبي أحمد، فهل ينجح في تحويل نظرياته إلى واقع ملموس، وفي إرساء شراكات سلمية مع الجوار، أم أن طموحات إثيوبيا ستظل محصورة بين النظرية وصعوبة الواقع المحيط؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، يرى الباحث في شؤون القرن الأفريقي عبدالرحمن أحمد أن "سد النهضة يحول الطموح الإثيوبي من مجرد نظرية وحلم على الورق إلى واقع ملموس تصبح البلاد بفعله قوة جيوسياسية فاعلة. ولم يعد الطموح مقصوراً على توليد الكهرباء فحسب، بل تجاوزه إلى أبعاد اقتصادية وسياسية واستراتيجية أوسع، وتتطلع إثيوبيا إلى تعاون إقليمي في الاستفادة من مياه النيل ولذلك سعت لكي يكون هناك إطار قانوني جامع لكل دول الحوض، في ما يعرف باتفاق عنتيبي".
أما عن المنفذ البحري فيقول الباحث في شؤون القرن الأفريقي "تاريخياً كان لإثيوبيا منفذ على البحر الأحمر مثل ميناءي عصب ومصوع واستمر ذلك لقرون طويلة، ولكنها فقدتهما بعد انفصال إريتريا وتحولت إلى دولة حبيسة مما جعلها تعتمد على جيرانها للوصول إلى البحر، مما كلفها مليارات الدولارات. وبعد وصول آبي أحمد إلى السلطة تعالت الأصوات التي تطالب بحق إثيوبيا في الوصول إلى البحر، وتزايدت هذه المطالبات بعد الانتهاء من سد النهضة".
ويضيف عبدالرحمن "حقيقة، مستقبل إثيوبيا مبهر كما يجمع كثر لكن هناك تحديات داخلية وخارجية، أما التحدي الداخلي فيتمثل بالنزاعات والفقر والتغير المناخي، بينما تتمثل التحديات الخارجية في عدم الاستقرار السياسي على المستوى الدولي، وكذلك التعامل مع مصر والسودان في ما يخص سد النهضة ومياه النيل وقضية المنفذ البحري، وهذه أشياء تحتاج إلى حلول وتوافقات مع تلك الجهات المتعددة، وهي تمثل عقبات نحو أي استقرار أو طموح تجاه تطور".
ليس أمراً صعباً
من جهته، يعد رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية يس أحمد أن "القارة الأفريقية تحتاج إلى قيادات أفريقية ناشطة لمواجهة مشكلاتها، المتمثلة بالفقر والصراعات والاستهداف من الجهات الاستعمارية الطامعة. ويجب أن تعمل هذه القيادات أولاً في جمع الصف وتحقيق السلام المحلي، وتفعيل ما تمتلكه الدول الأفريقية من إمكانات متعددة وثروات، وإذا تحقق شيء من ذلك فهو بداية الطريق نحو النجاح، وإثيوبيا كونها تمثل أفريقيا مصغرة بحكم تعداد شعبها الذي يتجاوز الـ125 مليون نسمة يتوزعون على القوميات المتعددة، نهجت نحو السلام المحلي عبر الحوار الوطني إلى جانب التنمية، وهو ما تتبناه حكومة آبي أحمد المدرك لمشكلات بلده". وأضاف أن "إثيوبيا تدعو إلى تعاون حقيقي تتكامل فيه المصالح، ولا يصعب عليها أن تجعل من السد مكسباً إقليمياً، وشرعت في ذلك بالفعل من خلال مدها لعدد من دول الجوار بالكهرباء، وتسخير مواردها مع قدرة كهرومائية تقارب الـ5000 ميغاوات ينتجها سد النهضة الكبير. وحالياً تتلقى كل من جيبوتي والسودان وكينيا الكهرباء الإثيوبية، إلى جانب دول أخرى كجنوب السودان وتنزانيا وغيرها".
واعتبر المتحدث ذاته أن التوصل إلى اتفاق بين إثيوبيا ودولتي المصب "ليس بالأمر الصعب، وبخاصة في ظل الواقع الإقليمي الجديد الذي تعيشه دول وشعوب المنطقة التي تتزايد حاجاتها جميعاً إلى المياه، وفي ظل ما يمثله اتفاق عنتيبي من مرجعية حديثة متفق عليها بين دول النيل". ورأى أنه "ينبغي على حكومات دول النيل إضافة إلى جهودها الدبلوماسية الرسمية أن تراهن على الشعوب في القيام بدور التعاون، وإفساح المجال أمامها، إذ تمثل الثقة الفطرية بين الشعوب أولى العتبات تجاه التعاون والتكامل، وتمثل إرادتها إذا وظفت توظيفاً فاعلاً عبر الدبلوماسية الشعبية في التبادل الثقافي والاجتماعي والرياضي وغيره، وسيلة ليعم السلام ويتحقق عبرها التآزر نحو التنمية المتكاملة بين الدول".
بداية نزاعات
من ناحية أخرى، تقول الأستاذة الجامعية الخبيرة في شؤون القارة الأفريقية نجلاء مرعي، إن "واقع سد النهضة يدون مرحلة تاريخية جديدة في معادلة مياه نهر النيل بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، وهو بداية لفصل جديد من النزاع حول الموارد المائية، ويعكس نهجاً إثيوبياً قائماً على فكر يسعى إلى محاولات فرض الهيمنة المائية بدل تبني مبدأ الشراكة والتعاون، حيث الانزلاق العالمي نحو سياسة ’القوة هي الحق‘ يشجع بعض على السعي وراء طموحات إقليمية تحت غطاء الفوضى العالمية". وتضيف "هنا يمكن القول، إن إثيوبيا تعمل على توظيف السياقين الدولي والإقليمي لصالحها، فعلى الصعيد الدولي توظف إثيوبيا حال التعارض في المصالح الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، وبخاصة في ظل السعي إلى السيطرة الجيوستراتيجية على القارة الأفريقية من خلال تمكين بعض القوى الإقليمية (إسرائيل وإثيوبيا) من لعب أدوار إقليمية فاعلة، تمهد لإعادة النفوذ الأميركي في مواجهة التمدد الصيني والروسي في البحر الأحمر، إذ استخدمت إثيوبيا في مراحل تصميم وبناء سد النهضة عدداً من التكتيكات المراوغة للتوظيف السياسي لدعم مكانتها الإقليمية والدولية، ومنها الاعتماد على ’الرواية الواحدة‘ التي تصور السد على أنه مشروع تنموي إقليمي، إذ روجت النخبة السياسية الحاكمة في إثيوبيا، ولا تزال، فكرة أن المشروع لن يتسبب بأي ضرر جسيم لدولتي المصب بل سيحقق فوائد للمنطقة، ويضمن حق إثيوبيا في التنمية". وتوضح "لكن فشل سد النهضة في تحقيق أهدافه المعلنة، إذ لم يولد سوى 1800 ميغاوات من أصل 5600 مستهدفة عبر ستة توربينات فقط من بين 16 توربيناً كان مقرراً تشغيلها، وهو ما قد يضعف موقف أديس أبابا ويمنح القاهرة هامشاً أوسع للتحرك مع شركاء حوض النيل الذين كانوا يراهنون على كهرباء رخيصة من إثيوبيا، لكنهم أعادوا النظر بعد تعثر المشروع". وتتابع "لذا، أعتقد أنه ربما تذهب سمات المرحلة المقبلة إلى تشكيل تحالفات ثنائية أو ثلاثية، أو ربما يظل التفكير الأحادي هو المسيطر على صورة العلاقة بين دول الإقليم، ولا أظن أن سد النهضة على أهميته هو نقطة الخلاف الأساس، إذ يظل عدد من الملفات المعلقة سواء الخلافات الحدودية أو ملف الموانئ وأمن البحر الأحمر والتنافس على الريادة في الإقليم مع وجود قوى خارجية تستفيد من الفوضى، لرسم خريطة جديدة للمنطقة وإنتاج واقع جيوسياسي جديد".