ملخص
يتناول المقال فكرة فقدان الوطن وانعكاسها في الأدب والسينما، حيث تبتكر يوكو تاوادا في روايتها "مبعثرون في أرجاء الأرض" وطناً لغوياً بديلاً، بينما يجسد أمير كوستاريكا في "أندرغراوند" وعبد اللطيف عبد الحميد في "العاشق" مأساة انهيار الشعارات السياسية وتفتت الأوطان.
الرسالة الأساسية أن ضياع الوطن لا يقتصر على الخرائط والسياسة، بل يترك ندوباً إنسانية عميقة تدفع الأفراد إلى البحث عن بدائل متخيلة أو رمزية للاستمرار.
ماذا يصيب الإنسان إذا فقد وطنه؟ ما البدائل؟ وكيف للمنفى أن يكون؟ اليابانية يوكو تاوادا في روايتها "مبعثرون في أرجاء الأرض" تجد في اللغة وطناً متخيلاً لمن تلاشت أوطانهم جراء التغير المناخي وعبث الإنسان بالطبيعة! بينما يصل فيلم أمير كوستاريكا "أندرغراوند" إلى القول: "كان يا ما كان هناك وطن" في فيلمه "أندرغراوند"، وقد انهار شعار جوزيف تيتو في "الأخوة والوحدة" كما هو شعار "أمة عربية واحدة ..." في فيلم "العاشق" لعبداللطيف عبدالحميد.
هذا الوطن لم يعد من وجود له على خريطة هذا العالم! لم يعد لاسمه أن يدل على وجهة، وجواز السفر الذي يحمل اسمه اختفى، أو أصبح له اسم آخر، أو توزع في أسماء أخرى بعد تقسيمه.
يمكن لما تقدم أن يقرأ كحدث سياسي أو تاريخي، نقطة تحول، انتصار طرف على طرف آخر، انهيار منظومة سياسية ديكتاتورية أطبقت على الوطن وصاغته بحسب مشيئتها بشعارات ديماغوجية ورفض لأي واقع ما لم يكن واقع القائد والحزب والجماعة! وهنا يبدو الأمر أشبه بتغيير في الخرائط، أو انتقال من منظومة إلى أخرى، ومن كان عدو الأمس يمسي صديق اليوم وهكذا مقاربات بعيدة كل البعد من الإنساني، من الفرد في المتغير السياسي والجغرافي، وبالتالي مآسيه على شتى الصعد، وسبل مواصلة العيش إن بقي على قيد الحياة بعد اقتتال مديد يسبق اندثار الأوطان، ومن ثم ممارساته على صعيد التأقلم، خلله الوجداني والنفسي، فهو مطالب بأن يهجر الماضي ليواصل حياته، وأن يتطلع إلى مستقبل يجهله تماماً، وقد أصبح منتمياً إلى وطن جديد، من دون أن يشارك لا من قريب ولا من بعيد بتقرير هذا المصير.
رواية يابانية
تقودني رواية اليابانية يوكو تاوادا "مبعثرون في أرجاء الأرض" Scattered All Over the Earth (2021)، إلى هكذا مقاربات، وتترامى وتمتد إلى ما يتخطى خيالها المستقبلي، إلى ما له أن يكون هاجساً في منطقتنا والحديث عن إعادة رسم الخرائط وتقسيم المقسم ونحو ذلك مما يتردد ليل نهار، فيبدو ما يصيب هيروكو بطلة الراوية فسحة متخيلة تقارب مؤلفتها من خلالها اللجوء والمنفى مستقبلياً ربما! متخذة من واقعهما منطلقاً يتخطى الحدود والجغرافيا، عبر لغة تخترعها هيروكو وتسميها "بانسكا" Panska، وهي حصيلة لغات البلدان التي لجأت إليها، وفي غالبها بلدان إسكندنافية، وعليه فإنها تعيش في هذه اللغة كوطن، لغة للاجئين والمنفيين، وذلك بعد أن اختفى وطنها من على سطح الأرض، فمع خيالات تاوادا وأسلوبها التجريبي، سيتخطى الأمر الخرائط والتقسيمات السياسية، إذ إن وطن هيروكو يتلاشى على هذا النحو:
"لسبب ما، كان غالب سكان بلد هيروكو يعتبرون المدن أفضل من المناطق الريفية، حتى أن كلمة ’ريف‘ كانت تحمل دلالات سلبية. أدى هذا المناخ الثقافي إلى أن يكرس رجل حياته بأكملها لخطة سخيفة تسعى إلى تغيير المنطقة الريفية بالكامل، بحيث لا تبقى "ريفية" بعد الآن. كان هذا الرجل مخلصاً ومجتهداً بلا أدنى شك، لكن الإخلاص والاجتهاد المفرطين يمكن أن يخلقا مشكلات فظيعة للبشر. ولأن سلسلة الجبال كانت الشيء الوحيد الذي يفصل المنطقة الشمالية التي نشأت فيها هيروكو عن المدينة الكبيرة، قرر هذا الرجل إزالة هذا العائق وربط الريف بالمدينة عن طريق إزالة قمم الجبال كلها بواسطة جرافة. اعتقد أنه إذا تمكن من تسوية الجبال بهذه الطريقة، فإن المنطقة بأكملها ستجتاحها رياح شتوية رطبة تهب من الكتلة الشيوعية، ولن يسقط الثلج بعد الآن. اشترى جرافة ضخمة بأموال عامة وبدأ في العمل، وكان هذا جيداً إلى حد ما، لكن تسوية الجبال أصبحت ممتعة جداً لدرجة أنه لم يستطع التوقف. ومع ارتفاع منسوب المياه جراء الاحتباس الحراري وانخفاض الجبال أكثر فأكثر، غرقت الجزيرة بأكملها أخيراً بعد أن سويت تماماً في المحيط الهادئ".
لا تجد هيروكو في ما تقدم "مأساة وطنية"، ولا تبالي بذلك! كل ما يهمها هو الجبال التي دمرت، غير مكترثة بما يسمى "أمة" أو "قومية"، فهي لا تستطيع مسامحة السياسيين لا لشيء سوى كونهم "لا يحترمون الجبال". تركز رواية تاوادا عن أولئك المبعثرين في أرجاء الأرض، وبالتالي فإنهم لم يعودوا ضمن "جماعات متخيلة"، عنوان كتاب بندكت أندرسن وتوصيفه للقومية والأمة، على اعتبار أن "الأمة جماعة سياسية متخيلة، إذ يشمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلاً"، وبالتالي فإن هذا المفهوم في "المبعثرون في أرجاء الأرض" يصير إلى إنسان / فرد متخيل ربما! إنسان يتخطى المحددات يتنقل بين الهويات والبلدان والجغرافيات، لا بل يتمكن من صوغ لغته الخاصة، ويوجد في تبعثره في أرجاء الأرض هويته.
تؤسس أومادا في بداية الرواية منطلقها التاريخي نحو الخيالي، من خلال مشاهدة الراوي على التلفاز برنامجاً حوارياً لأساتذة جامعيين وباحثين ينتمون لبلدان لم تعد موجودة، مثل ألمانيا الشرقية ويوغسلافيا والاتحاد السوفياتي، وليضاف إليهم عالم في "أركولوجيا البحار"، يكون متخصصاً بالبحث عن آثار الإمبراطوريات المتلاشية في أعماق البحار والمحيطات، ولتتوصل محاورته إلى أن إحياء الامبراطوريات أمر سيئ!
كان يا ما كان هناك وطن
في هذا المنطلق التاريخي لرواية "المبعثرون في أرجاء الأرض" يوجد معبر إلى الأوطان السابقة، أو تلك التي لم تعد موجودة في الماضي القريب، وهنا يطل برأسه فيلم أمير كوستاريكا "أندرغراوند" (1995)، بوصفه سردية وطن سابق، وطن تقسم ولم يعد موجوداً. وإن كان كوستاريكا قدم قصة مدهشة قائمة على أخوين واحد يعمل فوق الأرض وآخر تحت الأرض، فإنه بهذا المجاز أسس لمعبر إبداعي وتوثيق جمالي استثنائي لتاريخ يوغسلافيا الوجيز التي تقسمت إلى سبع دول، ولعل هذا التقسيم، وفقاً للفيلم، وفي مسعى تأويلي من كاتب هذه السطور، متناغم مع الانقسام بين من هم تحت الأرض ومن هم فوقها، بين من يواصل النضال واهماً ومضللاً تحت الأرض، وذاك الذي يمعن في الفساد والثراء والمكتسبات فوقها، وكلاهما يعشق المرأة ذاتها، كما لو أنهما يؤسسان لحرب أهلية!
لا يستعين كوستاريكا بمادة أرشيفية في الفيلم سوى لقطات من مراسم تشييع مؤسس يوغسلافيا الزعيم جوزيف تيتو الذي توفي عام 1980، كما ليقول إن وفاته كانت بمثابة إعلان موت يوغسلافيا، على رغم أن ذلك لم يحدث إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدءاً من إعلان كرواتيا وسلوفينيا الاستقلال عام 1991، لكن كوستاريكا دقيق جداً باستعانته بهذه المادة الأرشيفية، فمع وفاة تيتو بدأ التصدع، فهو قائد الوطن ومؤسسه والقابض على كل ذرة من ترابه، وكل نفس من أنفاس مواطنيه، بحيث إن شعاره "الأخوة والوحدة" ومسعاه إلى تخطي الانقسامات القومية والعرقية بين شعوب البلقان، وإقامة دولة اشتراكية موحدة، ارتبط بالمطلق به، إذ إنه هو الوطن والوطن هو، وبرحيله تحول شعاره إلى "العداوة والانقسام"، وعاد البلقان لقومياته وأعراقه وصراعاته.
لندع تلك التفاصيل التاريخية، ونمضي إلى نهاية فيلم كوستاريكا وبلاغة المونولوغ الختامي، بوصفه تكثيفاً لمصاب الإنسان العادي حين يفقد وطنه، إذ يجتمع كل الأخوة الأعداء على قطعة منفصلة عن الأرض تمسي جزيرة صغيرة طافية على سطح البحر، بينما نسمع: "شيدنا هنا بيوتاً جديدة بسقوف حمراء ومداخن ستعشش فيها اللقالق، مع أبواب مشرعة أمام ضيوفنا. سنشكر التربة على أنها حررتنا، والشمس على منحها الدفء، بينما ستذكرنا الحقول بألم وأسى وفرح بعشب الوطن الأخضر، سنتذكر وطننا وسنروي لأطفالنا حكايات أشبه بالحكايات الخرافية تبدأ بـ: كان يا ما كان هناك وطن...".
أمة عربية واحدة
يقودني شعار تيتو "الأخوة والوحدة"، إلى شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" في فيلم "العاشق" (2012) للمخرج السوري عبداللطيف عبدالحميد (1954 – 2024)، الذي أنجزه إبان اندلاع التظاهرات المناهضة للنظام السوري السابق عام 2011، وقد كان على شيء من السيرة الذاتية لمخرجه، إذ يجسد عبدالحميد شخصية أبو نزار والد المخرج في الفيلم، الذي يعقد الاجتماعات الحزبية في بيته، مما يتطلب من زوجته وابنته الانشغال الدائم بإعداد الطعام والشاي والقهوة للرفاق، ولا يجد من عزاء لهما سوى القول لزوجته "تخيلي يا أم نزار الأمة العربية من المحيط إلى الخليج دولة واحدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثمة لازمة تتردد في الفيلم وهي ترديد شعار حزب البعث، فحين يكتشف مدير مدرسة القرية (كاتب التقارير الأمنية ونقيض أبو نزار البعثي البسيط) قوة صوت أبو نزار، يطلب من هذا الأخير ترديد شعار الحزب في المدرسة، فنراه على نحو متكرر يردد "أمة عربية واحدة" فيصل صوته إلى الطلاب المجتمعين في ساحة المدرسة على مسافة ثلاثة كيلومترات من بيته أعلى الجبل، فيجيبون: "ذات رسالة خالدة"، إلى أن نصل إلى اللحظة التي يقول فيها أبو نزار "أمة عربية واحدة..."، فيكون الجواب "واحد واحد الشعب السوري واحد..."، مستخدماً أصوات المتظاهرين حينها في المدن السورية.
المفارقة واضحة جداً، فسطوة الشعار الذي أمسى أجوف، وانفصاله عن الواقع جلي، وقد انحسرت وظيفته في تقديم غطاء ديماغوجي على الهزائم المتلاحقة، وتمزيق الوطن بالعسف والقمع والاستبداد، بحيث يكون الحديث عن أمة واحدة متاحاً بينما أحد بلدان هذه الأمة (سورية) بحاجة إلى من يوحده ويجمع شعبه على كلمة سواء، لئلا يقال: "كان يا ما كان هناك وطن".