Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تتدفق الأموال سرا بين الكوريتين؟

بين مطرقة القمع في الجنوب وسندان العزلة في الشمال ينهار آخر جسر إنساني صامت بينهما

في 2023 بدأت كوريا الجنوبية بالتحقيق في شبكات تحويل الأموال إلى بيونغ يانغ (أ ف ب)

ملخص

تتم عملية التحويل عبر مراحل معقدة، إذ يسلم الفارون من كوريا الشمالية في الجنوب الأموال إلى وسطاء الذين بدورهم يحولون الأموال إلى العملة الصينية قبل أن تمر الأموال عبر وسطاء صينيين لتهريبها عبر الحدود إلى داخل كوريا الشمالية.

وسط العزلة القاسية والرقابة المشددة تمثل التحويلات المالية السرية من كوريا الجنوبية شريان الحياة لآلاف العائلات في الشمال، لكن هذه الشبكات، التي ازدهرت عقوداً على رغم الأخطار، تواجه اليوم انهياراً متسارعاً بفعل حملات القمع القانونية وتضييق الخناق على المنشقين. في ظل غياب البدائل القانونية، يجد منشقون مثل بارك أنفسهم عاجزين عن دعم أحبائهم، وسط شعور عميق بالذنب والخوف من أن تفقد عائلاتهم آخر مصدر للبقاء.

فعندما يجد بارك سيونغ هوان وقتاً لنفسه، يفتح تطبيق "غوغل إيرث" ليبحث عن منزل عائلته، فالشاب البالغ من العمر 30 سنة اعتاد أن يطمئن إلى أن سقف المنزل قد تم إصلاحه وأن المحاصيل ما زالت تنمو، وهو ما يمثل له دليلاً ملموساً على أن الأموال التي كان يرسلها وصلت بأمان إلى أسرته.

ويقول بارك الذي غيرت صحيفة الـ"غارديان" اسمه لحماية هويته، "إرسال المال كان أبسط وسيلة لأشعر بأنني ما زلت مرتبطاً بعائلتي"، مضيفاً أنه يخشى أنه من دون تلك الأموال قد يتم تجنيد شقيقه وإرساله للقتال في روسيا، لأن الأسرة لن تكون قادرة على دفع الرشى المطلوبة للإعفاء من الخدمة.

الشاب الذي فرّ من كوريا الشمالية عام 2012 ويعيش الآن في سيول، كان يعتمد على واحد من أخطر مسارات التحويلات المالية في العالم، عبر شبكة سرية كادت تمحى بفعل إغلاق الحدود خلال جائحة كورونا، لكن ومع حملة القمع غير المسبوقة في كوريا الجنوبية وتزايد أخطار الاحتيال، لم يتمكن من إرسال المال إلى عائلته منذ عامين.

كيف يتم تحويل الأموال من سيول إلى بيونغ يانغ؟

ووفقاً للصحيفة، تتم عملية التحويل عبر مراحل معقدة، إذ يسلم الفارون من كوريا الشمالية في الجنوب الأموال إلى وسطاء (غالباً منشقين آخرين) الذين بدورهم يحولون الوون (العملة المحلية لكوريا الجنوبية) إلى عملة صينية، ثم تمر الأموال عبر وسطاء صينيين قبل أن تهرب عبر الحدود إلى داخل كوريا الشمالية، إذ يتولى وسطاء محليون إيصالها إلى العائلات.

وتعتمد الاتصالات في هذه العمليات على هواتف صينية تعمل قرب الحدود، إذ تلجأ العائلات أحياناً إلى إرسال مقاطع فيديو تظهر فيها وهي تعد النقود لتأكيد تسلمها.

وتقول جو سو يون، التي تدعي مع زوجها أنهما ساعدا أكثر من 2500 كوري شمالي على الفرار من الصين إلى كوريا الجنوبية، ثم قاما لاحقاً بترتيب التحويلات المالية لعائلاتهم، "مع تزايد أعداد الكوريين الشماليين الذين فروا من الصين إلى الجنوب، ارتفع عدد الراغبين في إرسال الأموال إلى أسرهم".

وأظهر مسح شمل 362 منشقاً أجراه مركز قاعدة بيانات حقوق الإنسان في كوريا الشمالية "NKDB" أن 40 في المئة منهم أرسلوا أموالاً إلى بلادهم خلال الأعوام الخمسة الماضية.

وتقدر جو سو يون أن ما يقارب 60 في المئة فحسب من تلك الأموال تصل فعلياً إلى العائلات بعد اقتطاع العمولات والرشى.

بارك، الذي يعمل حالياً في قطاع الإعلام، كان يرسل عادة ما بين مليونين و3 ملايين وون (بين 1451 و2170 دولاراً) في كل مرة، وهو مبلغ يكفي، كما يقول "ليتناول أفراد أسرتي الرز الأبيض طوال عام كامل، وهو في كوريا الشمالية أكبر رمز للامتياز والاستقرار". وتحدث عن فترة دراسته الجامعية "أعتقد أنني جربت كل أنواع الوظائف الجزئية، وأي مبلغ إضافي كنت أحصل عليه كنت أدخره لإرساله إلى عائلتي"، مشيراً إلى أن ذلك غالباً كان يعني قلة النوم وصعوبة التركيز على دراستي.

كيف دمرت حملة سيول على شبكات تحويل الأموال طرقاً عمرها عقود من الزمن؟

بعد أعوام من غض الطرف، بدأت الشرطة في كوريا الجنوبية عام 2023 بالتحقيق في شبكات تحويل الأموال إلى كوريا الشمالية.

وانطلقت كثير من التحقيقات عندما لاحظ ضباط الحماية المكلفون بمتابعة المنشقين أنهم يرسلون أموالاً إلى ذويهم، وما بدأ كتحقيقات مرتبطة بالأمن القومي تحول لاحقاً إلى قضايا جنائية مالية، بعدما تبين غياب أي أدلة على التجسس.

وبموجب القانون الكوري الجنوبي، يتعين على شركات الصرافة تسجيل أنشطتها لدى الحكومة، وهو أمر غير ممكن في حال التحويلات إلى كوريا الشمالية، لغياب أي قنوات قانونية بين بلدين لا يزالان من الناحية الرسمية في حال حرب.

وحتى الآن، خضع ما لا يقل عن 10 أشخاص للتحقيق للاشتباه في مشاركتهم بهذه التحويلات، فيما يواجه ثلاثة منهم محاكمات بتهم انتهاك قوانين الصرف الأجنبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم أن الشرطة توقفت، وفقاً للتقارير، عن فتح تحقيقات جديدة، فإن المحاكم ما زالت تصدر أحكاماً بالإدانة في القضايا الجارية.

وتقول جو سو يون "نحو 70 في المئة من المسارات والشبكات التي كنا نعتمد عليها اختفت تماماً، وسيكون من الصعب، بل شبه المستحيل، إعادة بنائها واستعادتها".

أما بارك، الذي لم يتمكن من إرسال الأموال منذ عامين بعدما توقف الوسطاء الذين كان يثق بهم عن العمل، فيقول "أخشى أنه إذا لجأت إلى شبكة جديدة، فإنهم قد يكذبون علي".

وإدراكاً لحجم الأزمة، يسعى بعض السياسيين إلى إدخال تعديلات تشريعية، إذ يعمل النائب أين يو هان، من حزب "قوة الشعب" المعارض، على إعداد مشروع قانون يهدف إلى تقنين التحويلات المالية الصغيرة لأغراض إنسانية.

البعد الإنساني

وأقر مسؤول في وزارة التوحيد بالقيود القانونية، قائلاً إن "القضية يجب التعامل معها بحذر، مع الأخذ في الاعتبار التزام قانون المعاملات بالعملة الأجنبية، إلى جانب البعد الإنساني المتعلق بدعم سبل عيش العائلات".

وتثير التداعيات الأوسع قلق أولئك الذين كرسوا حياتهم لهذا العمل، ففي ظل أسوأ توتر في العلاقات بين الكوريتين منذ أعوام، تمثل شبكات التحويل غير الرسمية واحدة من آخر النوافذ القليلة المطلة على الحياة اليومية في كوريا الشمالية.

وقد اعتمدت أجهزة الاستخبارات الكورية الجنوبية طويلاً على المعلومات التي تتدفق بصورة طبيعية عبر هذه القنوات.

وتقول جو سو يون "مع كل تغيير في الإدارة في كوريا الجنوبية كانوا يستخدموننا، لمجرد أننا نعتبر كوريا الشمالية وطننا، لا يعني ذلك أن من حقهم معاملتنا كجواسيس كلما اقتضت مصالحهم السياسية".

أما بارك، فالقضية بالنسبة إليه شديدة الخصوصية، فقد تزوج أخيراً، لكن عائلته لا تعلم شيئاً عن الأمر، وما زال يأمل في أن يجد وسيلة لإرسال المال والبشرى السارة لمناسبة عيد الحصاد (تشوسوك) المقبل. وقال أيضاً "في الأعوام الأولى بعد وصولي إلى كوريا الجنوبية، كنت أعيش بإحساس ساحق بالذنب لأنني تركتهم خلفي، وإرسال المال هو طريقتي في التخفيف من هذا الذنب، ورعايتهم حتى وأنا بعيد عنهم".

اقرأ المزيد