ملخص
أطلقت المؤسسة العامة للسينما تظاهرة "أفلام الثورة السورية"، وضمت 20 فيلماً وثائقياً وروائياً من بين 56 فيلماً تقدمت للمشاركة في هذه التظاهرة التي تقام للمرة الأولى بعد سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.
توزعت عروض الأفلام المشاركة في التظاهرة على خمس صالات في العاصمة، هي "دار الأوبرا" و"كندي دمشق" و"كندي دمر"، إضافة إلى عروض مفتوحة في كل من "المتحف الوطني" و"مدينة المعارض القديمة". تحفل الأشرطة المشاركة بمعالجتها الملتزمة قضايا الثورة والحرية والعدالة، فهي نقلت ووثقت ما واجهه نازحون ولاجئون من أهوال وأخطار في رحلتهم نحو بلاد اللجوء، وألقت الضوء على معاناة الأطفال والنساء في الحروب والنزاعات الأهلية، والظروف القاسية التي عاشتها عائلات سورية تحت القصف والحصار من قبل قوات النظام السوري البائد.
وكان لافتاً في حفلة افتتاح هذه التظاهرة تخصيص المؤسسة العامة للسينما ثلاثة مقاعد شرفية وضعت عليها صور كل من غياث مطر وحمزة الخطيب وباسل شحادة، كتحية لأرواح شهداء قضوا في أحداث الثورة السورية.
"نزوح" كان عنوان فيلم الافتتاح الذي عرض في قاعة الدراما في دار الأوبرا السورية، ويروي هذا الشريط الروائي الطويل (إنتاج 2022) لمخرجته ومؤلفته سؤدد كعدان، حكاية عائلة يرفض الأب (سامر المصري) فيها أن يغادر البلاد حتى بعد تعرض سقف بيته للقصف بقذيفة صاروخية، فهو كما يقدمه الفيلم ابن عائلة دمشقية عريقة، ولن يكون سهلاً عليه أن يصبح لاجئاً، ويترك إرث أبيه في العاصمة، مما يدفع إلى مواجهة بينه وبين الأم (كندة علوش). في المقابل تدور قصة حب طفولية بين ابنتهما المراهقة وابن الجيران وسط أجواء حالمة، مما يدفع الأب إلى قرار تزويجها، في حين يلقى ذلك معارضة شرسة من الأم التي لا ترى حلاً إلا بمغادرة البلاد.
أفلام أجنبية
يحضر في قائمة الأفلام الروائية كثير من التجارب التي حققها مخرجون أجانب مع ممثلين سوريين، وقد تم إنتاجها خلال أعوام الثورة، ومعظمها ناقش الظروف الصعبة التي عاشها لاجئون في بلاد المغترب، ولعل أبرزها فيلم "باتجاه القبلة"- (إنتاج 2017) للمخرج السويسري جان إيريك ماك. يروي الشريط (27 دقيقة) المستمد من قصة واقعية حكاية فريد (جهاد عبده) اللاجئ السوري الذي يصطدم بالقوانين السويسرية أثناء محاولته دفن زوجته بحسب الشريعة الإسلامية، وضمناً تهيئة قبر لها يتجه نحو الكعبة المشرفة (القبلة)، مما يدخله في إجراءات بيروقراطية في بلاد لا توجد فيها مقابر مخصصة للمسلمين، لكن رولي الرجل السويسري المسن يساعد فريد في نيل حقوقه الدينية، ويمكنه أخيراً بعد سلسلة من الإجراءات الروتينية مع البلديات، من تحقيق رغبته.
كان لحضور فيلم "قضية الغرباء" للمخرج براندت أندرسن أثر كبير لدى جمهور التظاهرة، وقد استند فيه السيناريست والمخرج الأميركي على نص مسرحي يعتقد الباحثون أنه يعود لوليام شكسبير، وفيه نقل الشاعر الإنجليزي خطاباً وجهه فيلسوف يدعى توماس مور، للدفاع عن حق اللاجئين في حياة كريمة، ويدعو عبره قبل أكثر من أربعة قرون إلى تجريم تهجير اللاجئين وطردهم من البلاد التي فروا إليها. ينطلق مخرج "قضية الغرباء" - (جائزة منظمة العفو الدولية - مهرجان برلين السينمائي 2024) من هذا الخطاب الإنساني في صيغته المسرحية لملاحقة قصة أميرة (ياسمين المصري)، طبيبة الأطفال وابنتها اللتين فرتا من حلب أثناء تعرضها للقصف الوحشي. ويتابع مؤلف هذا الشريط الروائي ومخرجه ضمن سرد درامي محكم حكاية هذه العائلة، والظروف المعقدة لتهريب البشر، وما يواجهه هؤلاء من عواقب وأخطار أثناء هربهم إلى مخيم للاجئين في تركيا، ومن ثم إلى اليونان عبر زوارق مطاطية. لعب بطولة هذا الشريط الروائي الطويل كل من عمر سي ويحيى مهايني وجهاد عبده وفارس الحلو وجايسون بيجي، وقسطنطين ماركولاكيس.
العنف المتعدد
يعرض معظم أفلام التظاهرة للعنف الممارس على النوع الاجتماعي، ولا سيما النساء، وفي هذا السياق يأتي فيلم "قتل معلن" لمؤلفته ومخرجته واحة الراهب كأبرز هذه الأشرطة. يخوض الفيلم الروائي القصير (15 دقيقة) في أحلام طفلة (ماري الصفدي) أقرب إلى كوابيس، وتعكس عنفاً مادياً ولفظياً ومعنوياً تعيشه وتشاهده الفتاة (11 سنة) في مخيم للاجئين السوريين في لبنان. أب يحرم ابنته من ركوب الدراجة ويعطيها لابنه، وزوج يضرب زوجته ويغتصبها، ومعلم يعاقب طلابه. أحداث تسردها الراهب في حكاية أب شبه عاجز (مكسيم خليل) عن تدبير أجرة الخيمة التي يسكنها هو وعائلته، في حين نرى الأم (نجلاء خمري) تواجه ظروف القهر والحرمان أثناء فترة حملها ومحاولتها تدبر شؤون عائلتها.
ومن بين الأفلام الروائية المشاركة تبرز أفلام حققها صانعوها كمشاريع تخرج، ولعل أبرزها فيلم "فقدان" لمؤلفه ومخرجه رامي القصاب خريج المعهد العالي للفنون السينمائية في القاهرة. قصة الشريط الروائي القصير مع أنها - كما يذكر صناع الفيلم - مستقاة من أحداث حقيقية حدثت عام 2017، إلا أنها تحاكي رواية "رجال في الشمس" للأديب الفلسطيني غسان كنفاني التي حققها المخرج المصري توفيق صالح فيلماً عام 1972. يروي "فقدان" حكاية مجموعة من المهاجرين السوريين الذين يتم تهريبهم داخل صندوق سيارة شحن في الصحراء، لكن السيارة تصطدم بصخرة، مما يضع الشخصيات جميعها في ظروف نفسية مركبة.
تجربة مماثلة حققها المخرج عمرو علي في فيلمه "ومضة"، وهو الاسم نفسه لمشروع مسرح الشارع الذي أطلقته الفنانة نغم ناعسة عام 2013 في شوارع دمشق احتجاجاً على الحرب، وكان يظهر فريق هذا المشروع فجأة بين المارة في شوارع دمشق ليؤدي رقصات وأغنيات ومشاهد مسرحية لما يسمى جمهور الصدفة، يوثق عمرو هذا المشروع في فيلمه التسجيلي القصير، ويرصد إيقاع الشارع في أحياء دمشقية من مثل الصالحية والشعلان في قلب العاصمة السورية.
سينما توثيقية
وتحضر مجموعة من الأفلام الوثائقية الطويلة والقصيرة في تظاهرة أفلام السينما السورية، التي عكف مخرجوها على توثيق مقاطع نادرة من معاناة السوريين، لا سيما شريحة الأطفال، إذ ركز كثير من الأشرطة المشاركة على هذه الشريحة العمرية، وما تركته ظروف الحرب والحصار والتهجير على كثير منهم. يحضر هنا فيلم "التغريبة السورية" (71 دقيقة) لمخرجه نزار الحصان، الذي قام بتصوير شريطه في ستة بلدان هي سوريا وتركيا واليونان وصربيا والنمسا وهنغاريا، وفيها يوثق الحصان لقاءاته مع 12 طفلاً سورياً يسردون شهاداتهم العفوية عن اللجوء، وما رافق رحلتهم إلى بلاد المنفى من صعوبات وأحداث طريفة. دمج مخرج الفيلم شهاداته الصادمة مع رسومات الأطفال، بالتوازي مع توظيفه هذه الرسومات في صيغة (الإنيميشن)، إذ حرص المخرج السوري على أبعاد جمالية وتشكيلية لشريطه الذي يعتبر الجزء الأول من التجربة التي سيستكملها مع الأطفال ذاتهم بعد عقد من تحقيق هذا الوثائقي.
ومن الأفلام التي تناولت واقع الأطفال في الثورة يبرز فيلمان هما "الأطفال يصعدون إلى السماء" و"طائر النار" والشريطان بتوقيع المخرج وليد قوتلي، الذي يعد من أبرز مخرجي المسرح في سوريا، لكنه انتقل للعمل في السينما الوثائقية بعد مغادرته البلاد عام 2011. سجل قوتلي بكاميرته الواقع الصحي والنفسي لعشرات من الأطفال السوريين في بلاد اللجوء، وما تركته الحرب من كدمات لا تمحى على الصغار وآبائهم على حد السواء. يخوض الفيلمان في عوالم الأطفال عبر رواياتهم الشخصية عن مآسي التهجير القسري والنزوح والمعارك الدامية، وذلك عبر لغة بصرية ترصد تفاصيل مؤلمة عن حياة اللجوء.
مأساة فيلم
ومن أبرز الأفلام الوثائقية في التظاهرة السورية فيلم "العودة إلى حمص" للمخرج طلال ديركي، وفيه ترافق كاميرا المخرج السوري - الكردي يوميات كل من لاعب كرة القدم عبدالباسط الساروت وكيف أصبح من قادة الثورة، والصحافي والناشط أسامة الهبالي (قدمه الفيلم باسم أسامة الحمصي). يرصد الفيلم بلغة تسجيلية وقائع حصار قوات النظام السوري البلدة القديمة، وخروج مقاتلي الجيش الحر من المدينة عام 2014. الفيلم الحائز جائزة مهرجان سندانس الكبرى لأفضل فيلم تسجيلي عالمي، قدم مشاهد نادرة تعتبر اليوم من أرشيف الثورة السورية، لكن ذلك لم يمنع من توجيه انتقادات لاذعة للفيلم، لا سيما من عائلة بطله الصحافي والناشط أسامة الهبالي، الذي تعرف النظام إلى شخصيته بعد عرض الفيلم على قناة "العربية"، إذ تم اعتقاله أثناء محاولته الهرب إلى لبنان، ومات تحت التعذيب في سجن صيدنايا العسكري عام 2015.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن معظم أفلام التظاهرة السورية عرضت في غياب مخرجيها والعاملين فيها، فإنها قدمت كثيراً من الأشرطة الروائية والوثائقية اللافتة لجهة تعدد الأساليب الإخراجية، فبدت النزعة النضالية الملتزمة في بعض منها، فيما حافظت أشرطة أخرى على أبعادها الجمالية البصرية. وكان منها "هذا البحر لي" لمخرجه محمود حسن، وفيه يسجل حسن شهادات صادمة لستة من الناجين السوريين، الذين تمكنوا من بلوغ بلاد اللجوء في أوروبا بعد رحلة خطرة غرق فيها كثير من أحبتهم، وكان البحر المتوسط هو السبيل الوحيد لهم للخلاص من أشباح الحرب ومآسيها. ينجح حسن في هذه التجربة في تقليب ذاكرة كل من شخصياته الست، وذلك بعد عمله أعواماً في التقاط قصص كثير من اللاجئين، ولا سيما في فيلمه "رسالة من تحت الماء".
وفي سياق آخر نجحت المخرجة والناشطة السورية وعد الخطيب في فيلمها الوثائقي الطويل "من أجل سما" في رصد لحظات مؤثرة من حياتها في مدينة حلب، وتمكنت من دمج الشخصي مع الموضوعي، عبر رسالة كتبتها لابنتها الصغيرة، وكيف كافحت للبقاء على قيد الحياة وسط أجواء من القصف والدمار في عاصمة الشمال السورية، إذ كانت وعد دائماً بين خيارين: إما أن تغادر المدينة خوفاً على حياة طفلتها، أو تواصل نضالها من أجل الحرية. في هذا الشريط الأول للخطيب يمكن التقاط ملامح تجربة سينمائية خاصة، إذ بدأت السيدة الحلبية بتوثيق أحداث من داخل المستشفى الذي يعمل فيها زوجها كطبيب. استخدمت في البداية كاميرا هاتفها المحمول، ثم انتقلت للعمل بمعدات أكثر احترافية، ولكن بعد اضطرارها إلى مغادرة مدينتها إلى تركيا ومنها إلى لندن، قامت بتحرير عشرات الساعات التي صورتها بمساعدة من المخرج البريطاني إدوارد واتس، ومن ثم الخلاص إلى وثيقتها البصرية التي نالت عليها كثيراً من الجوائز العالمية.