ملخص
على رغم شح المصادر يتناول كتاب جديد حياة قسطنطين كفافيس من قبيل مطامحه الأدبية وحياته الخالية من الحب ليظهر في صورة شاعر ناضج تنتصر على صورة الشاب الدافئ المحب العاطفي غير أنه يبقى، شأن أبي الهول، بعيد المنال.
50 عاماً مضت ولم تصدر سيرة جديدة لحياة قسطنطين كفافيس، الشاعر اليوناني، السكندري إن شئتم، الذي اكتسب من الشهرة بعد وفاته ما لم يتصوره في حياته التي عاشها وحيداً في شقة صغيرة بمدينة الإسكندرية المصرية، وموظفاً بسيطاً في وزارة الري المصرية، وشاعراً لا يكاد يعرفه أحد إلا في دائرة من النخبة الثقافية للجالية اليونانية في مصر خلال القرنين الـ19 والـ20.
بل إنه، على رغم قيمته الشعرية التي لا تزال تتأكد كلما مرت السنون، لم يلفت نظر النخبة الثقافية المصرية آنذاك على الإطلاق، أو لنقل إنه ما من دليل لدينا على أن الوسط الأدبي المصري قد انتبه إلى وجود تلك القامة الأدبية الكبرى على بعد ساعتين بالقطار من القاهرة.
بعد 50 عاماً من صدور آخر سيرة لحياة كفافيس، تصدر الآن في 560 صفحة سيرة جديدة بعنوان "أبو الهول السكندري: الحياة الخفية لقسطنطين كفافيس" كتبها الأكاديميان بيتر جيفريز وغريغوري جوسدانيس، متحديين مأزقاً سيظل يواجه كل من يحاول الاقتراب من شاعر الإسكندرية الأكبر ألا وهو "غياب الأرشيف".
في استعراضه للكتاب على صفحات صحيفة الغارديان المنشور في الـ11 من أغسطس (آب) الماضي، يكتب مايكل نوت أن التحديات التي يواجهها كاتبا هذه السيرة كثيرة "منها نقص الرسائل، والروتين اليومي ’العادي‘ لحياة كفافيس، والغياب شبه الكامل للمعلومات عن حياته الرومانتيكية (والقصائد في هذا هي المصدر الرئيس)" حتى إن الكاتبين يميلان إلى أن "أرشيف الشاعر ربما تعرض للتلاعب العمدي بهدف إزالة مواد مسيئة، سواء أتم هذا التلاعب على يدي كفافيس نفسه أم على يد الوصيين على تركته أليكسوس وريكا سينغوبولوس".
ويشير نوت إلى أنه لم يبق من مراسلات الشاعر إلا ما حفظه بعض أصدقائه، ومنهم الروائي البريطاني إي إم فورستر، لكن رسالته إليه لا تكاد تشفي غليلاً، فقد كتب رداً على تلقيه رواية (الطريق إلى الهند) فلم يزد على قوله إنها، "عمل مثير للإعجاب، مبهج القراءة، أعجبني الأسلوب، وأعجبتني الشخصيات، وأعجبني تصوير البيئة" وذلك ما يصفه نوت بالرد البيروقراطي.
يرى نوت أن هذه العراقيل هي التي فرضت على (أبي الهول السكندري) "بنية غير معهودة، إذ اجتنب الكاتبان البنية المعهودة المتمثلة في تتبع الحياة من المهد إلى اللحد، ومن أجل تعويض ’فجوات‘ الأرشيف و’عمق غياب المعلومات‘ فقد تحتم مثلما كتب جوسدانيس عام 2018 ’على كاتب سيرة كفافيس أن يعمل عمل الروائي، فيخمن المشاهد ويعيد خلقها ويملأ الفجوات‘، لذلك يبدأ الكتاب بوفاة كفافيس وينتهي بها، وما بين البداية والنهاية يحصل القارئ على ’سردية دائرية لمواضيع معينة‘ عبر فصول متقطعة تتناول أسرة كفافيس وأصدقاءه ومدينته وشعره ومحاولاته المحمومة لتحقيق مكانة أدبية".
يسعى أنطوني ساتان إلى تعويض ذلك في مقالة عن الكتاب منشورة في "ذي نيوستيتسمان" في الثالث من سبتمبر (أيلول) الجاري إذ يحاول أن يقيم الحياة التي عاشها كفافيس قدر الإمكان، غير أنه يبدأ بعيداً من كفافيس، فبطله هو إي إم فورستر الذي "وصل إلى مصر عام 1915، خلال الحرب العالمية الأولى، إذ كان رافضاً للتجنيد لأسباب ضميرية، ومثلياً جنسياً متخفياً، وقد قدم إلى مصر ’باحثاً‘ لحساب (قسم تحقيقات الجرحى والمفقودين) التابع للصليب الأحمر، مكلفاً بإجراء مقابلات مع الجنود المصابين للعثور على آخرين مفقودين، لكنه في ثنايا ذلك اكتشف أكثر مما كان يتوقع، ففي عشاء بمطعم نادي محمد علي الفاخر، تعرف إلى الشاعر اليوناني المصري قسطنطين كفافيس".
"كان كفافيس في الخمسينيات من عمره وقد بدأ نشر شعره عندما كان فورستر محض طفل في السابعة، لكن عند التقائهما، كان فورستر معروفاً عالمياً بينما كان كفافيس غير معروف إلا في جزء صغير من العالم الهيليني الذي كان يتألف آنذاك من اليونان وتركيا ومصر، وكان يعمل آنذاك في وظيفة غريبة في وزارة الري المصرية"، وهذه وظيفة مملة بالنسبة إلى عقل متقد كما يقول مايكل نوت، لكنه بقي يشغلها لثلاثة عقود "لتوفيرها له الكثير من الوقت والطاقة لحياته الإبداعية المثيرة".
يكتب أنطوني ساتان أن لقاء كفافيس بفورستر "ساعد في توسيع قاعدة قرائه التي كان يرى أن أعماله تستحقها، وإن حدث ذلك بعد وفاته، بنشر أوائل دواوينه باللغتين اليونانية والإنجليزية، واستمرت القاعدة في التنامي حتى زماننا هذا، لدرجة أن أعلنت منظمة اليونسكو عام 2013 ، التي حلت فيها الذكرى الـ150 لميلاده ، ’سنة كفافيس‘، ولدرجة أن الزوار الرومانتيكيين اليوم لا يصلون إلى الإسكندرية إلا ومعهم في الأقل أحد ثلاثة كتب، إما قصائد كفافيس أو كتاب فورستر عن الإسكندرية أو (رباعية الإسكندرية) للورنس داريل، والثلاثة مجتمعين يجسدون ببراعة تلك اللحظة الكوزموبوليتانية الفريدة في تاريخ مصر".
ولد كفافيس في الإسكندرية عام 1863، فكان الأصغر ضمن تسعة أبناء للأب بيتر جون اليوناني العثماني، وكان من مواليد القسطنطينية، أي إسطنبول حالياً، وحصل على الجنسية البريطانية لانتشار تجارة عائلته في مدن عدة منها ليفربول ولندن والإسكندرية، وكانت الأسرة تتحدث الإنجليزية واليونانية، ونشأ قسطنطين تنتظره حياة رغدة مريحة، لولا أن حدث على غير توقع أن توفي والده ولم يتجاوز كفافيس من العمر سبع سنوات.
"كانت عواقب الوفاة المالية أوضح، وإن لم تكن أشد وقعاً من العواقب العاطفية، فبعد عامين من فقدانها زوجها، انتقلت والدة كفافيس واسمها هاريكليا بالأسرة إلى ليفربول، ولم يكن الأب قد ترك لأسرته ثروة كبيرة، وفي إنجلترا، قام اثنان من إخوة كفافيس الكبار باستثمارات خائبة أدت إلى انهيار نشاطهما عام 1876، وفي مواجهة فضيحة اجتماعية بسبب تواضع الحال، رجعت الأسرة عام 1877 إلى الإسكندرية التي كانت تنتمي إلى نخبتها، وساءت حال الأسرة على رغم ذلك حينما أدت انتفاضة قام بها ضباط الجيش المصري [وعرفت بالثورة العرابية نسبة إلى زعيمها أحمد عرابي] إلى قصف البريطانيين للمدينة، فهرب آل كفافيس إلى إسطنبول".
ثم في عام 1885، أي بعد ثلاثة أعوام من الثورة العرابية واحتلال إنجلترا لمصر، "رجع كفافيس إلى مصر، لكن لم تكن له علاقة تذكر بالمصريين، إذ كان أكثر ارتكازاً على هويته اليونانية، ومع ذلك كان يتكلم اليونانية بلكنة إنجليزية خفيفة، وكانت له أخلاق ابن الأثرياء وسماتهم، لكن أصدقاءه اليونانيين كانوا يعلمون أن أسرته باتت حطاماً... ومثلما وصفه فوستر فأحسن وصفه كان كفافيس ’يقف بلا حراك، ناظراً إلى الكون، بزاوية مائلة‘، وبلا حراك، انغمس كفافيس في المكان الذي شهد ظهور عبقريته ووقع أيضاً في شركه، فكتب عام 1894 في قصيدة ’المدينة‘ يقول، ’ستسير في الشوارع نفسها، وتشيخ في الأحياء نفسها، ويشيب شعرك في البيوت نفسها، وستنتهي دائماً في هذه المدينة، فلا ترجُ شيئاً في مكان آخر، لأنه ما من سفينة لك، أو طريق‘".
يحدد كتاب (أبو الهول السكندري) بدايات كفافيس الشعرية في آخر ثلاثة أعوام من مراهقته ومطلع العشرينيات من عمره، حينما كان يعيش، بعيداً من الإسكندرية التي قصفها الإنجليز، في بيت جدته لأمه بالقسطنطينية التي يشير مايكل نوت إلى أن كفافيس التحق فيها بالمدرسة و"ربما عرف فيها أولى تجاربه الجنسية".
يشير ساتان إلى أن إرهاصات كفافيس الشعرية ترجع إلى عام 1884 وأنه استلهم في البداية شخصيات تاريخية عثمانية من البلاط السلطاني والحريم و"سوف يطلق كفافيس لاحقاً على هذه القصائد الأولى وصف ’القمامة البائسة‘، لكن حتى تلك المحاولات الأولى تنم عن سمة دائمة في شعره، فقد كان يكتب غالباً في زمن الماضي وإن تناول الحاضر فما ذلك إلا ليراه انعكاساً لما كان من آمال تبددت وثروات ضاعت وأحلام تلاشت وأجسام ذوت، ويظهر في أعماله تلك أيضاً جانب المفارقة التي سيصقلها العمل 30 عاماً في وزارة الري المصرية".
"كان كفافيس يكتب ببطء وتروٍّ، ويعيد الكتابة أكثر مما يكتب، ويتألف مجمل أعماله المعتمد من 154 قصيدة، وذلك أقل مما يتوقع المرء، ومن عناصر عمله عنصر يتعذر على القارئ الإنجليزي تذوقه وهو الاستعمال الفريد لليونانية، فعندما أراد فورستر أن يقرأ قصيدة من أجمل قصائد كفافيس وهي ’الرب يتخلى عن أنطونيو‘ قال له إنه ’ليس بوسعك أن تفهم شعري، يا عزيزي فورستر، مطلقاً‘، كان فورستر قد نجح آنذاك في قراءة بعض الأبيات مستعيناً بما وصفه بـ’يونانية مدرستي الحكومية‘، لكن التجربة كانت معقدة"، وذلك بسبب وجود مستويين من اليونانية عند كفافيس: مستوى أدبي يرجع إلى اليونانية الكلاسيكية، ومستوى الخطاب اليومي الذي كان استعماله يتزايد على أيدي الكتاب المحدثين، وكان من "منجزات كفافيس أن ابتدع مزيجاً فريداً من المستويين".
"كان لقصائد كفافيس موضوعان رئيسان، كان يكتب عن الإغريق في ما بعد العصر الكلاسيكي وعن عظمة بيزنطة، منجذباً إلى ذلك المجد الذاوي، والحال المتردية، معيداً البحث في قصصهم بحماس مؤرخ شره، محتفياً بتفاصيل من قبيل إمبراطور جواهره زائفة، أو آخر يجلس لدى بوابة المدينة لكي يسلمها لبرابرة لا يصلون أبداً". ويكتب نوت أن كفافيس "لو لم يكن شاعراً، لكان مؤرخاً، وقد ألهمه اهتمامه على مدى عمره بالتاريخ البيزنطي والهلليني الكثير من أعماله، وهو مثلما قال عنه الشاعر الأميركي الراحل تشارلز سيميك ’شاعرُ عالمٍ ضائع‘، وأيضاً هو شاعر تاريخٍ ضائع، فالحوادث الصغيرة، والشخصيات المنسية، والهوامش كانت مواضيع قصائده، فقصيدة ’قيصريون‘ على سبيل المثال التي كتبها عشية الحرب العالمية الأولى صدمت معاصريه لا لأنها أظهرت جهله بالأحداث المعاصرة وحسب، ولكن أيضاً لأنها ’ركزت على الانجذاب الجنسي والإبداع الشعري، وربطت الإيروتيكية المثلية بالإلهام الفني‘، وفي ضجر من أثينا وإسبرطة، تطاول اهتمام كفافيس إلى الماضي الأقل شهرة وبطولة باحثاً فيه عن نماذج يكتب عنها".
وكان يكتب أيضاً، بحسب ساتان، "عن حب الرجال للرجال، وبصراحة، في مطلع القرن الـ20، حينما كانت المثلية الجنسية محظورة بموجب القانون في المملكة المتحدة ومستهجنة في مصر، ولم يكن فورستر معلن المثلية حينما قابل كفافيس... فانبهر بانفتاح كفافيس، وبصراحة قصائده المثلية" لكن نوت يلاحظ أن "الإسكندرية الكوزموبوليتانية كانت أيضاً مدينة للتلصص من وراء الستائر وعبر ثقوب المفاتيح، فخوفاً من الرفض الاجتماعي والنفي من المدينة التي أحبها، صار كفافيس أشد تحفظاً وتقليدية، ويذهب المؤلفان إلى أن ’الاعتراف بالمثلية الجنسية في شعره وفرضه على نفسه رقابة ذاتية في حياته كانا سبباً في بقاء شعره‘".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول ساتان إنه على رغم قصة الحياة الاستثنائية التي يحكيها كتاب (أبو الهول السكندري)، "فقد يكون الكتاب محبط القراءة، فهو من تأليف أستاذين يبدو أن كل واحد فيهما لم يبال بما كتبه الآخر، ولا أجد غير هذا تفسيراً لكل ما في الكتاب من التكرارات والتباينات، ودأبا طوال عقود على التنقيب في الأراشيف وقراءة السير السابقة".
يكتب مايكل نوت أن المؤلفين "أعادا في كتابهما الرائع خلق عالم كفافيس، وبخاصة بفصلين في الكتاب عن الإسكندرية، وبحثا مكانته فيه، خصوصاً أن كفافيس بقي لغزاً منذ وفاته عام 1933 وهو في الـ70 من عمره، ويقول أيضاً إنه لا يوجد شاعر يضاهي كفافيس فهو "مقتضب، ساخر في الغالب، بسيط الأسلوب، نثري، خال من الاستعارات والتشبيهات والقافية أو المفردات الخصبة، وهو ليس بالشاعر الذي يسهل أن يتذوقه الجميع".
"وعلى رغم شح المصادر، يكشف الكتاب الكثير عن كفافيس من قبيل ’مطامحه الأدبية الجامحة، وتركيزه التنسكي على صنعته، وحياته الخالية من الحب‘، وأخيراً، يبدو أن صورة الشاعر العظيم الاهتمام بذاته، العظيم الاستغراق فيها، الخمسيني الناضج، قد انتصرت على صورة ’الشاب الدافئ المحب العاطفي‘، غير أنه يبقى، شأن أبي الهول، بعيد المنال، فلا يبقى لنا إلا التعاطف مع ضيوفه الكثر الذين كان يستقبلهم في غسق شقته الغريبة ومنهم الشاعرة اليونانية ميرتيوتيسا التي تقول، ’لقد شعرت أن الزيارة كلها غير واقعية‘ وبدأت وهي تنزل الدرج راجعة إلى الإسكندرية الحارة الصاخبة تشك في أن تكون قد تكلمت معه أو التقت به أصلاً".
لقد كتب أورهان باموق عن كفافيس قائلاً إن "الشعراء العظام يمكن أن يحكوا قصصاً عظيمة دون أن يستعملوا (الأنا) ولو مرة واحدة، وهم بعملهم هذا يمنحون أصواتهم للإنسانية كلها"، وهذا ما فعله كفافيس، إذ اختفى لا وراء عشرات من عظماء التاريخ ونكراته، وإنما فيهم، فلم يرجعوا إلى الحياة وينهضوا من قبورهم إلا بروحه هو التي باتت تسكنهم إذ يسكنون قصائده، وإذا كان كفافيس قد قضى العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، في شقته البسيطة، فكان على مقربة منه كما يلاحظ مايكل نوت كل ما يحتاج إليه: فأسفل الشقة الماخور، وعلى أول الشارع الكنيسة التي يمكنه أن يطلب فيها غفران خطاياه، وفي موضع متقدم من الشارع المستشفى الذي سيموت فيه في عيد ميلاده الـ70، هذه الشقة الآن مزار ومتحف، يحج إليها محبو الشاعر، فقد يتنفسون أثراً مما تنفس من هواء، وقد تقع أعينهم على ما وقعت عليه عيناه من جدران، لكنني أحسب أنهم لا يعرفون جديداً عن الشاعر من هذه الشقة أو حتى من (أبي الهول السكندري)، فما من جديد عن كفافيس، أو ثمين، إلا الذي تكشفه مع كل قراءة لها قصائدُه نفسها.
عنوان الكتاب: Alexandrian Sphinx: The Hidden Life of Constantine Cavafy
تأليف: Peter Jeffreys - Gregory Jusdanis
الناشر: Summit Books