في إطار سلسلة إصدارات تحت عنوان "العام الثقافي المصري اليوناني"، أعادت الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة طباعة كتاب "قصائد من كفافيس" ويتضمن ترجمة المصري نعيم عطية قصائد للشاعر السكندري اليوناني قسطنطين كفافيس من اليونانية إلى العربية. وسبق للهيئة نفسها أن أصدرت الأعمال الكاملة للشاعر الكبير نفسه بترجمة الشاعر المصري الراحل رفعت سلام وقد ترجمها إلى العربية عن لغة وسيطة هي الإنجليزية. ويمكن التعاطي مع هذا الاهتمام المصري المتواصل بالأدب اليوناني عموماً وقصائد كفافيس على وجه الخصوص، في إطار رؤية لطالما تبناها مثقفون مصريون، في مقدمتهم عميد الأدب العربي طه حسين الذي ناقش باستفاضة كبيرة في كتابه "مستقل الثقافة في مصر"، مسألة العلاقة الثقافية بين مصر واليونان، موضحاً "لما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية، واستقرار حلفائه في هذه البلاد، اشتد اتصال الشرق بحضارة اليونان، واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوع خاص، وأصبحت مصر دولة يونانية أو كاليونانية، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض، ومصدراً من مصادر الثقافة اليونانية للعالم القديم، بل أعظم مصدر لهذه الثقافة في ذلك الوقت".
ومعروف أن قسطنطين كفافيس (1863 – 1933) ولد وعاش وتوفي في الإسكندرية وما زال يحظى بمكانة كبيرة، سواء في اليونان أو في مصر، وأثر ممتد في شعراء وحتى روائيين، من أجيال وثقافات مختلفة بوصفه من رواد شعر الحداثة، على المستوى العالمي.
ويرى الناقد والشاعر المصري محمد السيد إسماعيل أن الشعراء الثمانينيات في مصر كانوا الأكثر تأثراً به مقارنة بشعراء السبعينيات الذين تأثروا بشكل أكبر بشعراء مثل رامبو. فجملة كفافيس الشعرية بسيطة متخففة إلى حد كبير من المجاز، مشيراً إلى أن ديوانه "تدريبات يومية" يمثل روح كفافيس. ويلمح هذا الصدى والتأثر عند الشاعرين المصريين عماد أبو صالح وإبراهيم داود، ومن الشعراء العرب الذين تأثروا به– على سبيل المثال وديع سعادة، كما استحضره الشاعر العراقي المقيم في ألمانيا نعيم عبد مهلهل في ديوانه "شامة على خد كفافيس"، واستحضره الروائي المصري طارق إمام في روايته "الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس"، كما يظهر أيضاً في عدد من أعمال الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد.
الإسكندرية اليونانية
يرى طه حسين أن بنظرة يسيرة في أيسر الكتب التي تدرس التاريخ السياسي والثقافي في ذروة الوجود اليوناني في مصر، يتبين أن الإسكندرية لم تكن مدينة شرقية بالمعنى الذي يفهم الآن من هذه الكلمة، وإنما كانت مدينة يونانية بأدق معاني هذه الكلمة وأصدقها وأجلاها. وهو ما يتجلى ويظهر بوضوح في قصائد كفافيس التي تؤكد أنه كان يعيش في إسكندرية اليونان لا الإسكندرية المعاصرة التي حولت الشقة التي كان يعيش فيها إلى متحف يضم مقتنياته ويزوره سياح من مختلف أنحاء العالم. عاش كفافيس في الإسكندرية ورفض أن يغادرها وقال فيها "إن قلبي مدفون في الإسكندرية منغرس فيها، فأينما جلت بعيني رأيت العديد من سني حياتي التي قضيتها وبددتها فيها، وتحدثني نفسي قائلة: لن تجد بلداناً ولا بحوراً أخرى، ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها، وتدركك الشيخوخة في هذه الأحياء بعينها".
ترجمت قصائد كفافيس إلى العربية، في مصر، مرتين على الأقل، الأولى قام بها نعيم عطية وتتميز بأنها نقلت عن اليونانية مباشرة، وأعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر نشرها أخيراً، وقد نشرت للمرة الأولى عام 1993 في دار سعاد الصباح، تحت عنوان "ديوان كفافيس شاعر الإسكندرية"، ونشرها المركز القومي المصري للترجمة بعد ذلك مرتين، مما يدل على أنها بين الأكثر مبيعاً. أما الترجمة الثانية فكانت للشاعر المصري الراحل رفعت سلام ونشرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة في 2011 تحت عنوان "الأعمال الشعرية الكاملة لقسطنطين كفافيس"، وضمت قصائد لم تترجم من قبل إلى العربية ومجموعة من الدراسات والحواشي، فجاء حجمها ضعف حجم ترجمة عطية.
يوناني الهوية
ولد كفافيس (1863 – 1933) في الإسكندرية الكوزموبوليتية وقضى فيها حياته حتى مات ودفن فيها. وينسب إليه القول: "إن قلبي مدفون بالإسكندرية منغرس فيها، فأينما جلت بعيني رأيت العديد من سني حياتي التي قضيتها وبددتها فيها، وتحدثني نفسي قائلة: لن تجد بلداناً ولا بحوراً أخرى، ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها، وتدركك الشيخوخة في هذه الأحياء بعينها، وفي البيوت ذاتها سيدب الشيب في رأسك". وكثيراً ما كان يستحضر في شعره "الإسكندرية اليونانية"، بأعلامها وأحداثها وأساطيرها. فكفافيس وإن كان إسكندري المولد والنشأة إلا أن هويته كما تبرز في قصائده كانت يونانية تماماً. تلك الهوية كان يحاول استعادتها في فضاء شعره بما أنه لم يكن يستطيع أن يستعيدها في الواقع. ويحضر ذلك بوضوح في قصيدة يقول فيها: "من هذه الحملة التي لم يسبق لها مثيل، خرجنا نحن السكندريين وأهل أنطاكيا وربوع الشام وعديد غيرنا من يونانيي مصر وسوريا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ترجع مكانة كفافيس في الإبداع العالمي إلى كونه واحداً من أهم شعراء الحداثة التي كان يبحث مبدعوها في فنهم عن الإمساك بالحقائق الخالدة التي لا تتبدل، وترك ما هو عارض وزائل. وهو ما يتجلى في إنتاجه الشعري الذي يحاول أن يستجلي الحقيقة الدائمة التي يشترك فيها الإنسان عبر العصور ولا تتغير. فالأديب أو الفنان الحداثي يبحث عن التقاط جوهر الأشياء، وما يضمن خلود أعماله. ووظيفة الفن في حقبة الحداثة هي التقاط الثابت من المتحول وإعطاء اهتمام للشكل الجوهري الذي يعبر عن الصفات والمعاني والمضامين الكامنة وراء الشكل الخارجي. وينطلق ذلك من الإيمان بأن الحقيقة الظاهرة للأشياء قابلة للتحول، وعرضة للزوال والتغيير، أما الحقيقة المطلقة فهي خالدة. وهو ما يتجلى في أعمال كفافيس الذي استعانت بالتاريخ باحثة فيه عما هو دائم ويتكرر ويحدث حتى الآن، مثلما يشير في قصيدته "الطرواديون" التي يتناول فيها الدفاع عن الوطن باعتباره يكاد يكون غريزة حاضرة في كل زمان ومكان.
انتظار الغائب
ناقشت قصائده كذلك أزمة الحداثة كما هو الحال في قصيدته الشهيرة "في انتظار البرابرة"، التي تحيل إلى حقيقة إنسانية متجددة وهي الانتظار المحبط لما ليس يجيء. وتلك الأزمة عبرت عنها مسرحية صمويل بيكيت "في انتظار غودو" التي نشرت عام 1952، 1953. كتب كفافيس قصيدته تلك قبل عام 1911، ليعبر عن أزمة ستتعمق أكثر مع الحربين العالميتين، ويخرج من رحمها ما يطلق عليه فكر ما بعد الحداثة الذي دعا إلى رفض السرديات الكبرى. فهذه القصيدة فارقة وتشير إلى مدى حساسية كفافيس وقدرته على قراءة الواقع بذكاء شديد. ويذكر نعيم عطية أن كفافيس كانت تؤرقه فكرة المدينة الحديثة التي لم تعط للإنسان ما كان يتوق إليه من السعادة، فانتظر أهلها حضور البرابرة ليحلوا لهم مشكلاتهم، فيما هؤلاء لم يعد لهم وجود. يستحضر في مشهد خيالي مدينة تقليدية من مدن الدولة الرومانية التي دب فيها الفساد، ويحيل بذلك على الواقع الذي يعيشه العالم - العالم الغربي - الذي كان مطلعاً عليه وعلى علاته، حيث كان يجيد أكثر من لغة... "لأن الليل قد أقبل ولم يحضر البرابرة، ووصل البعض من الحدود، وقالوا إنه ما عاد للبرابرة وجود، ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟ لقد كان هؤلاء الناس حلاً من الحلول". وهكذا تحيل القصيدة إلى قضية انتظار البطل المخلص الموجودة في أغلب الثقافات بأسماء مختلفة.
العودة إلى التاريخ
وعرف كفافيس في قصائده بعودته إلى التاريخ، وتلك واحدة من تجليات الأزمات، وهو ما أشار إليه جورج لوكاتش الذي يرى أن الصياغات الأدبية التاريخية تبين باستمرار كيف أن الأزمات الكبرى والثورات، توقظ قدرات وطاقات مختزنة. فالحقائق التاريخية العميقة تعطي الأزمات المصوغة قاعها الاجتماعي والإنساني، وبفضلها نستطيع أن نعايش الواقع. وفي قصائد كفافيس عموماً، التاريخ ليس مجرد أحداث مضت، بل هو طاقة لا تستنفد أن تبعث الحياة في الماضي والحاضر، كما أن في عودة كفافيس إلى الماضي نوعاً من الاعتزاز بهويته اليونانية التي كادت تذوب. وهكذا نجده يتغنى ببطولة أهل طروادة في الدفاع عن أرضهم على الرغم من معرفتهم أنهم مقدمون على هزيمة حتمية. ويشير نعيم عطية إلى هذا المعنى بقوله: "إن كفافيس شعر بين أحضان هذا الماضي وكأنه في بيته، لأنه عرف أنه ينتمي إلى هذا الماضي، وأنه يتحدث بلغته، وأنه يشارك في شمسه وهوائه، وأن مخزون هذا الماضي، هو مخزونه هو وعليه العمل على إعادة تشكيله".
واهتم كفافيس في قصائده بالتفاصيل الصغيرة، وبالشخوص التاريخية حتى ولو كانت لأناس عاديين متخيلين، تؤثر فيهم التقلبات السياسية. ويرى البعض أن قصائده جاءت كمرثية للإنسان أكثر منها تمجيداً لبطولاته. أما عن أسلوبه في صياغة أفكاره فكان يتجنب الكلمات الضخمة ويتحاشى الخطابة اللفظية ويكاد أسلوبه يقترب من النثر الخالي من الافتعال والحذلقة كما يذكر نعيم عطية في ترجمته له.