ملخص
كل شيء يجرحه غير أن ليليانا تنبهنا إلى أن صراع فليني مع الوقت لا يمكنه وحده أن يفسّر لنا جوهر الصخب الداخلي الكامن في وجود هذا المبدع الكبير، حتى وإن كنا نتحدث هنا عن وجوده العادي، "فهناك أيضاً حساسيته المفرطة حيث أن لكل ما يراه أو يسمعه أو يسمع به صدى في حياته بل يمسّه بصورة مباشرة. كل شيء يجرحه. ومن هنا نراه يعيش على مستويات عدة ويقوم بعشرات النشاطات والأعمال في وقت واحد، ويقفز من عمل ومهمة إلى آخرى".
عندما رحل السينمائي الإيطالي فيديريكو فليني عن عالمنا في اليوم الأخير من شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1993، كان منهكاً وتعباً وغير راغب في أن يقرأ شيئاً أو يحدث أحداً عن أي شيء، لكنه مع ذلك كان يجد قبل ذلك بقليل متسعاً من الوقت للحديث عن كتاب كان صدر عنه منذ فترة، وقال دائماً إنه أحبه كثيراً، بل وجده وكأنه هو كاتبه، وفي الوقت نفسه كان يشير إلى مساعدته وصديقته وصديقة زوجته الفنانة جولييتا ماسينا، الكاتبة والسينمائية ليليانا بيتي قائلاً "لقد سرقت حياتي واستولت على مشروعي وكتبت عني بأفضل مما كان بوسعي أن أفعل"، وذلك بالتحديد لأن الكتاب كان من تأليف تلك الصديقة والمساعدة المخلصة التي رافقته عائلياً وفنياً وعملياً طوال الربع الأخير من حياته، فطلعت من ذلك بكتاب في نحو 300 صفحة عنوانه بكل بساطة "فليني".
صحيح أن هذا الكتاب أتى لينضاف إلى عشرات الكتب ومئات بل ربما آلاف الدراسات التي وضعت عن ذلك السينمائي الكبير طوال حياته جاعلة منه من أكثر السينمائيين حظوة لدى الكتاب والمؤلفين، وفي عدد كبير من اللغات، لكن ذلك الكتاب كانت له نكهة أخرى، بل نكهات متعددة كما سيقول صاحب العلاقة نفسه مبتسماً بسعادة، بل إنه هو الذي كان يعدد النكهات على الشكل التالي في ارتباط الكتاب بمؤلفته: فهي أولاً تعرف موضوعها وصاحب هذا الموضوع عن قرب من خلال عملها معه عقدين ونصف العقد من السنين. وهي كانت مشاهدة أولى ومميزة لأفلامه حتى من قبل أن تتعرف إليه وتنضم إلى حياته العملية والعائلية. وهي كانت ذات موهبة لغوية وروائية نادرة جعلته يعتمد عليها في قراءة سيناريوهات. وكانت سينيفيلية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ثم أكثر من ذلك كله كان تكوينها الدراسي في مجال التحليل النفسي.
داخل حميمية المايسترو فإذا أضفنا إلى ذلك كله فضولها الذي لا يضاهيه إلا فضول فليني، يمكننا أن ندرك عمق الأسباب التي جعلت كتابها، وفي رأي المخرج الكبير تحديداً، الكتاب الذي يضعه إلى جانب سريره ويعود إلى قراءته مرات ومرات وينصح من يسأله عن حياته وأعماله بقراءته. والحقيقة أننا لئن كنا قد فصلنا في ثنايا السطور السابقة ما جعل لكتاب ليليانا بيتي، وعلى الأقل في نظر فليني، كل تلك النكهات، يبقى أن نتساءل وبكل بساطة: فماذا في هذا الكتاب إذاً؟
فيه أنه أولاً وأخيراً يحمل نظرة سكرتيرة ومساعدة مبدع عبقري استثنائي، تتفتح أمامها يومياً عبقرية "معلمها"، وتتكشف لها تلك الأبعاد التي تتجلى حتى في إلقائه تحية الصباح، كما تقول في ثنايا حديثها عن الكتاب. وفي العادة أنه حين يحدث لمثل تلك المساعدة في حالات مشابهة أن تكتب عن "المعلم" قد يحدث أن تتسم الكتابة برغبة في الفضح وتسجيل النقاط وربما الثأر من لحظات معينة، لكن لا شيء من هذا في كتاب "فليني"، بل حتى ليس ثمة ذلك الإعجاب المطلق والانبهار الأعمى الذي يطبع، من ناحية أخرى، مشاريع مشابهة. ففي كتاب ليليانا الذي قرئ على نطاق واسع منذ صدر في أصله الإيطالي، ثم في ترجماته المتعددة في أنحاء عديدة من العالم، تحليل عميق لعلاقة السينمائي بعمله وحياته وأصدقائه وجمهوره، علاقة لمستها عن قرب، وبشكل يومي، هي التي كانت إضافة إلى كل المهام التي تقوم بها في عمل المايسترو وحياته، سائقته الشخصية أيضاً، ولكن ليس دائماً. ولعل الصفحات التي تتحدث فيها عن هذه الجزئية أطرف ما في الكتاب. فمن ناحية مبدئية كان فليني في العقدين الأخيرين من حياته "ممنوعاً من القيادة" فكانت هي المكلفة بأن تتولى ذلك في تنقلاته الطويلة والقصيرة.
أما هو فكان يحب القيادة فتتواطأ معه سامحة له بأن يتولى ذلك من دون أن تشي به مكتفية هي بالجلوس إلى جانبه، ويا لها من حكايات ومجازفات تلك التي تحدثنا عنها والتي يتحول خلالها إلى مراهق تتولى مرافقته تأنيبه فيعتذر، ويعدها بأن يكون أفضل في المرة المقبلة، ثم يقول وهو في قمة الاعتذار "فماذا تريديني أن أفعل وأنا لا تأتيني الأفكار المفضلة إلا وأنا أقود وأجازف؟". فتغفر له ربما في سبيل الفن والإبداع لا أكثر وهي تعرف أنه لا يخاطر في كل ذلك بحياته وحياة الآخرين بل بحياتها هي أيضاً!
كائن في غاية القلق غير أن ما قلناه هنا ليس شيئاً بالطبع أمام ما هو أكثر جدية في الكتاب، فالأكثر جدية هو أن الكاتبة، وإذ تمرّ في معظم الفصول سريعاً على ما هو معروف تماماً عن حياة فليني وعمله، تتوغل بشكل أكثر عمقاً في ما هو بعيد وإن بشكل متفاوت عن صورته المعهودة. فبالنسبة إلى ليليانا، كان فليني إنساناً شديد القلق "وليس بالطبع لأنه إنسان بائس ودائم الشعور بالاضطهاد"، بل لأنه "وبشكل خاص لا يمكنه أن يصمد طويلاً في وجه ما يسميه مجريات الحياة اليومية ومنها بصورة خاصة، مرور الزمن". ومن هنا كان دائم الشعور بأن "حياته المصنوعة من ألف لعبة ولعبة، ومن ألف استعراض واستعراض، ومن ألف حيلة وحيلة، ليست سوى حياة تبدو وكأنها تجري في بلاتوه تصوير سينمائي ضخم يتوجب عليه أن يكون هو المخرج الوحيد فيه إن هو أراد حقاً أن يبقى لزمن طويل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمتد ذلك البلاتوه ضمن مثلث روما - فريجيني - أوستيا حيث تدور اللعبة كلها. وهنا كل شيء يلعب مع عدد ضئيل جداً من الرفاق الأوفياء الذين يؤلفون عصابة دائمة التسامح معه حريصة على تدليله والسكوت عن نزواته. وهي العصابة المؤلفة من زوجته جولييتا، وكتاب السيناريو العاملين معه، ومدرسه الرياضي، وحلاقه، وتشيزارينا صاحبة مطعمه المفضل... ثم بالتأكيد ليليانا التي تلعب أدواراً لا تعد ولا تحصى في حياته، لا يضاهيها في ذلك سوى تلفونه الخاص الذي لا يفارقه ويعتبر حبل الصرة الذي يربطه بالعالم الخارجي. ومن هذه العصابة "يتكون ذلك السيرك الذي ينطلق دائماً تحت مظلة الارتجال. الارتجال باعتباره العنصر الوحيد الذي يؤمن للمايسترو استرخاء وهدوءاً مريحين". وهذا ما يدفع ليليانا إلى التساؤل بكل بساطة "ترى هل علينا إزاء هذا أن ندهش حين ندرك أن المكان المفضل عنده للتأمل العميق في عمله، وارتباط هذا العمل بوجوده إنما هو سيارته التي لا يتوقف فيها عن الثرثرة موجهاً حديثه إلى "سائقتها الصابرة المرتعبة" ليليانا؟ تلك التي تكاد أن تكون الوحيدة التي أدركت باكراً أن معركة المايسترو الأساسية والأكثر خطورة بالنسبة إليه إنما هي معركته مع الوقت؟
كل شيء يجرحه غير أن ليليانا تنبهنا إلى أن صراع فليني مع الوقت لا يمكنه وحده أن يفسّر لنا جوهر الصخب الداخلي الكامن في وجود هذا المبدع الكبير، حتى وإن كنا نتحدث هنا عن وجوده العادي، "فهناك أيضاً حساسيته المفرطة حيث أن لكل ما يراه أو يسمعه أو يسمع به صدى في حياته بل يمسّه بصورة مباشرة. كل شيء يجرحه. ومن هنا نراه يعيش على مستويات عدة ويقوم بعشرات النشاطات والأعمال في وقت واحد، ويقفز من عمل ومهمة إلى أخرى... ويحاول التملص من أي شيء ومن كل شيء. وغايته الوحيدة أن يحمي نفسه. ولذا لم نعرف له هواية ولا رأيناه مرة يتقصّد أن يشاهد فيلماً في صالة سينمائية. ويزعم دائماً أنه لا يهتم بالموسيقى أيما اهتمام". بيد أن الكاتبة تنبهنا هنا بأن ذلك كله لا يتعيّن أن يدفعنا إلى الاعتقاد بأنه كان يترك نفسه فريسة لدوخان اللحظة التي يعيشها، أو بأنه وحش لا يهتم إلا بالدفاع عن ذاته تحت تراكم من الأقنعة والدروع "بل على العكس حيث أن كل الذين تعرفوا إليه عن كثب وجدوه كريماً لطيفاً مستعداً لتقديم كل عون في كل لحظة. ويقيناً أنهم دائماً ما لاحظوا أنه يكذب. ولكن ألم يعلن هو دائماً أنه يحب أن يكذب، وأن الإبداع إنما هو في نهاية الأمر كذب في كذب؟".