Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ترجمة رواية "هيباتيا" لكنغزلي تكشف "عزازيل" يوسف زيدان

المقارنة بين العملين تحسم التهمة الملتبسة التي أثارت جدلا

إضطهاد الفيلسوفة الإسكندرية هيباتيا (المتحف المصري)

ملخص

كثيراً ما حضرت رواية "هيباتيا" للكاتب تشارلز كنغزلي، الصادرة عام 1853، في الجدل النقدي حول رواية يوسف زيدان الأشهر "عزازيل"، الصادرة عام 2008، على اعتبار أن الأخير نقل من الأول، وقد زادت وتيرته بعد فوز عمل زيدان بالجائزة العالمية للرواية (البوكر) في دورتها الأولى عام 2009.

أصدر المركز القومي للترجمة في القاهرة أخيراً رواية "هيباتيا: وجه قديم لخصوم جدد" لتشارلز كنغزلي، بتوقيع زينب حسن السيد، وجاءت الترجمة في 432 صفحة من القطع الكبير، بإخراج طباعي بدا فقيراً، وبخط صغير وحروف متزاحمة، ما عكس تقديم الاعتبار الاقتصادي على أي اعتبارات جمالية.

تتقاطع روايتا "هيباتيا" و"عزازيل" في بعض الأحداث وتفترقان في معظمها، تبعاً لاختلاف ثقافة كل مؤلف والسياق الزمني الذي عاش فيه. ومن أبرز أوجه التشابه الشكلية أن كلا العملين يتكون من ثلاثين فصلاً، حمل كل منها عنواناً مستقلاً. كما يتلاقى بطلا الروايتين، "فيلامون" و"هيبا"، في كونهما راهبيْن من صعيد مصر، سعيا إلى معرفة العالم عبر الإقامة في الإسكندرية مقر الكرازة المرقسية مطلع القرن الخامس الميلادي. وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت تعاني من الصراعات بين الكنيسة والفلاسفة الوثنيين من جهة، وبين المسيحيين واليهود من جهة ثانية، وبين الكنيسة والسلطة السياسية من جهة ثالثة.

وفي خضم هذه الاضطرابات يجد البطلان نفسيهما أمام خيارات حادة، إما الانخراط في دعوات العنف التي يطلقها بعض رؤساء الكنيسة ضد المخالفين، أو التمسك بالقيم السمحة للمسيحية التي حملاها معهما من أديرة الجنوب.

اختلاف عرقي

ومن جانب آخر تختلف الخلفية العرقية بين بطلي الروايتين؛ "فيلامون" و"هيبا". فالأول يوناني يجهل أصله، إذ بيع صغيراً مع أخته "بلاجيا"، التي وقعت في يد اليهودية "مريام" وحوَّلتها إلى أشهر غانية في الإسكندرية. أما "هيبا"، فهو مصري ينحدر من أب وثني، قُتل على يد متطرفين مسيحيين، فنشأ في كنف عمه، وتلقى علومه الفلسفية في أخميم (جنوب مصر)، قبل أن يرحل إلى الإسكندرية ليدرس الطب. ومن هذه الزاوية تتشابه رحلتهما فكلاهما يقرران ترك حياة الدعة والبساطة، مدفوعين برغبة جامحة في اكتشاف العالم ما يدخلهما في صراعات نفسية من جراء الشك في صحة معتقدهما المسيحي، بعد ما شهدا من عنف الكنيسة تجاه مخالفيها.

فعلى سبيل المثال، كان "فيلامون" يتصور أن المسيحيين، وعلى رأسهم الرهبان، معصومون من الخطأ، فيما يرى اليهود والوثنيين أهل ضلال. غير أن ثبات "رفائيل" اليهودي تلميذ "هيباتيا"، زعزع هذه التصورات. وحين قرر مواجهة "هيباتيا" في مجلس علمها ليثبت فساد معتقدها، انبهر بجمالها وهدوئها ورحمتها، وبحماستها لكل ما هو نبيل. بل وجد في كلماتها صدى لأصوات وعظ الدير، حديثها عن العالم الغيبي، والأمل في الخلود، وانتصار الروح على الجسد، كل ذلك جعله يتساءل: "أحقاً الفجوة بينهما واسعة إلى هذا الحد؟" (ص125).

مكانة هيباتيا في نفس فيلامون لم تأتِ من فراغ، بل من إدراكه لحقيقة وضع كنيسة الإسكندرية وصراعاتها على النفوذ والسيطرة على المدينة، في ظل استشراء الفساد والتجسس والكذب، وإقصاء الصادقين عن مواقع القيادة. على النقيض من ذلك، لم تحظَ هيباتيا بالمكانة نفسها في وجدان "هيبا" يوسف زيدان، الذي لم يكن من المدافعين عنها كما فعل "فيلامون"، وإنما وظَّفها في إظهار بشاعة التطرف الديني في تلك الفترة.

مفارقات مضمونية

هذه التشابهات، على أهميتها، تبقى أضعف من أن تسند تهمة السرقة إلى يوسف زيدان، بخاصة أن الاختلافات بين العملين، زمانياً وموضوعياً، أعمق وأكبر بكثير. فالتقاطع بينهما قد يعزى إلى وحدة الحقبة التاريخية، أو العودة إلى المراجع نفسها، بل حتى إلى اعتبار رواية كنغزلي، المكتوبة قبل نحو قرنين، أحد المصادر المرجعية. فالصورة السلبية للمسيحيين من النساء، وكثرة العاهرات، ورجم حاكم الإسكندرية، وطرد اليهود من المدينة، وشيطنة هيباتيا، وقسوة رهبان وادي النطرون، و"بيتر الناسك" أو "بطرس القارئ"؛ كلها وقائع وأحداث ترصدها المصادر التاريخية.

بينما يكمن جوهر الاختلاف في طبيعة كل عمل، فرواية كنغزلي كُتبت بروح غربية، غارقة في الميثولوجيا اليونانية، وهو ما دفع المترجمة إلى إرفاق مسرد يوضح هذه الخلفية البعيدة من القارئ العربي. أما "عزازيل" فجاءت مخلصة لواقعها الشرقي، بطلها "هيبا" مصري من الجنوب، لا يوناني، يرى الإسكندرية بعين الداخل الذي خبر أن المدينة كانت محرَّمة على المصريين. شخصية مولعة بتعلّم اللغات المشرقية كالسريانية، ومهتم بدراسة الطب، في تناغم مع شغف يوسف زيدان نفسه، الذي ترك بصمته عبر تحقيقاته ودراساته في تراث الأطباء مثل غالينوس وأبقراط وابن النفيس وابن سينا، فضلاً عن إبداعاته الروائية ذات البعد التاريخي الإسلامي. فحضور الطب والأطباء ملمح أصيل في تجربة يوسف زيدان العلمية والإبداعية.

الزخرفة الأسلوبية

وتختلف الروايتان أيضاً في الضمير السردي. وهذا الاختلاف أثَّر على بنية وحبكة الروايتين. فرواية كنغزلي تستخدم الراوي العليم، ما يتيح له الكشف عن أبعاد الشخصيات الداخلية والخارجية، والتنقل بين الأحداث، وتوجيه الحديث مباشرة إلى القارئ، وإدراج فقرات ذات بعد مقالي. في المقابل، جاءت رواية يوسف زيدان بضمير المتكلم، إذ قُدمت بوصفها مخطوطات عثر عليها، كتبها راهب نسطوري. صاغها زيدان بلغة بعيدة من الزخرفة الأسلوبية التي عرف بها في رواياته الأخرى، مما جعل البعض يشككون في نسبتها إليه بدعوى أن أسلوبها مختلف، على رغم أن هذا الأسلوب البسيط، الذي لا يتقصى جماليات اللغة، ويخدم الحدث الروائي، ظهر أيضاً في أعمال أخرى لزيدان مثل روايتيه "محال" و"نور"، وإن ظل الميْل إلى الزخرفة الأسلوبية سمة بارزة في أعمال زيدان الروائية عموماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتختلف الروايتان أيضاً في موضوعهما. فرواية "هيباتيا"، كما يكشف عنوانها، تركز على حياة تلك الفيلسوفة وعصرها والأفكار التي كانت تعصف بالإسكندرية، لتقديم صورة شاملة للمحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في تلك الحقبة. يمكن اعتبارها إلى حد ما رواية عن سيرة فيلسوفة قُتلت على يد التعصب الأعمى، فـ"بعد عشرين عاماً على موت هيباتيا، ضربت الفلسفة في عقر دارها، وكان مقتلها الضربة القاضية لها، وأرسل رسالة واضحة للفلاسفة مفادها أن الناس قد تدبروا أمرهم واكتشفوا أن النقصان يعتور فكرهم" (ص415).

أما رواية "عزازيل" فبطلها الراهب "هيبا" المصري، وتهدف إلى رصد طبيعة مذهبه النسطوري والصراعات التي واجهها في المجمع الخلقدوني، وضغط الكنيسة السكندرية، وطردها لنسطور من المجمع باعتبار أن مذهبه فاسد. وفي "عزازيل"، شخصية "هيباتيا" لا تشكل محور الأحداث، بل وظفت قصتها لكشف تعصب الكنيسة السكندرية، وتكفير المخالفين لها، ورغبتها في فرض وصايتها على جميع الكنائس.

هيبا وفيلامون

وتختلف طبيعة الراهب "هيبا" وإيمانه بالرهبنة، إذ تنتهي الرواية بشكل مفتوح، مشيرة إلى احتمال تركه للرهبنة والزواج من "ميرتا"، باعتبار أن اعتزال النساء "ليس من الإنسانية في شيء".

على النقيض، نجد أن "فيلامون"، مخلص تماماً للرهبنة، وبعد الأحداث العصيبة في الإسكندرية، يرأس دير وادي النطرون، لكنه لا يمنع نفسه من تذكر النساء والدعاء لهن، متبعاً روح المسيحية السمحة ومعارضاً من يقول إنهن خارج الملكوت. فساكنو الدير يأخذون عليه فقط ذكره لاسم امرأتيْن في صلاته ويعدون ذلك أمراً مخزياً وحين فاتحه أحدهم في هذا الأمر ردَّ عليه بحسم أنه لن يتوقف عن تريد اسميهما علماً أن إحداهما كانت عاهرة، والأخرى وثنية. وتنتهي حياة "فيلامون" بكرامة من كرامات القديسين، حين يستجاب دعاؤه لأخته "بلاجيا"، ويكتشف أنها تحولت إلى قديسة: "وهكذا أنزل كل من بلاجيا وفيلامون منزله المستحق، وهو الموقع الأوحد الذي أتاح لهما الراحة في تلك الأيام، فمن الصحراء وصومعة الزهد إلى أرض الأساطير والمعجزات التي هي قدر كل من عاش حياة القديسين على مر القرون" (ص422(.

فهناك اختلاف جوهري بين الشخصيتين؛ "هيبا" ينظر إلى الأمور بعقلانية مجردة في كثير من الأحيان، بينما فيلامون شخصية عاطفية اختارت طريق القلب لا العقل للوصول إلى الله.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة