Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يصر البعض على عودة "الإخوان" لمصر؟

دورة حياة الجماعة لا سيما في مصر تشير إلى فترات انتعاش تعقبها مطاردات وعودة للجحور لكنها لا تموت ثم تعاود الظهور

شهدت مصر انطلاق جماعة الإخوان عام 1928 وكذلك مراحل تطورها وتوسعها وتوغلها وتنوعها على مدى هذه العقود (أ ف ب)

ملخص

يمكن فهم سر بقاء جماعة "الإخوان" على قيد الحياة بالنظر إلى هيكليتها التنظيمية الهرمية، بعدما نقلت إدارة الأزمة واتخاذ القرارات إلى قادة موثوقين في المنفى، وكذلك المكتب الخارجي للجماعة المصرية والمكون من أعضاء للجماعة في المنفى، وجميعها بعيد عن "قبضة السلطات المصرية"، وهو ما مكّن هؤلاء القادة من استمرار العمل ومعارضة النظام المصري بمساعدة التكنولوجيا

يبدو الحديث عن خطوط فاصلة بين الإسلام السياسي والسياسة وأيديولوجيا العنف والفوقية المرتكزة على الانتماء لجماعة ما ورفض الآخر، سواء المنتمي لمعتقد غير الإسلام أو المسلم غير المنتمي للجماعة المعنية، وحلم الخلافة أو الإمارة أو أي من مسميات "الدولة الإسلامية"، أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً، باستثناء هذا الخط الفاصل الواضح البائن بين جماعات الإسلام السياسي وآلاتها الإعلامية والدعوية والاستقطابية والتجنيدية العملية والنظرية في دول المنشأ، وبينها وآلاتها السابقة في الدول المضيفة لها والمتسامحة مع فكرتها والحامية لـ "لا عنفها" ومظلوميتها وكونها فصيلاً سياسياً واقعاً تحت اضطهاد مزمن وقمع مستمر وحرمان من أبسط قواعد التعبير والمشاركة من دون داع"، وفي القلب من هذه الجماعات ذات الواجهتين والخطابين والمحتويين المتناقضين أمُ الجماعات ومعقل الأيديولوجيات المازجة للدين بالسياسة والجهاد بالاستحواذ والخلافة والمصالح، جماعة "الإخوان المسلمين".

خطابان متوازيان متناقضان، وواجهتان متزامنتان متضاربتان، ومحتويان متلازمان مغايران، برعت جماعة "الإخوان المسلمين" في اعتناقه والحفاظ عليه واستدامته على مدى أعوام عمرها التي قاربت قرناً كاملاً من خلط الدين بالسياسة، ومصر التي شهدت انطلاق الجماعة عام 1928، ومراحل تطورها وتوسعها وتوغلها وتنوعها على مدى هذه العقود، شاهد عيان على ازدواجية الجماعة واتساق غايتها وتوحد هدفها.

وعلى رغم أن المصريين ليسوا بالضرورة على دراية بهذه الازدواجية بالغة الذكاء وتناقض الخطاب والواجهة والمحتوى المفرط في البراغماتية، فإن شعوراً ما يعتري كثيرين، ولا سيما في أشهر التحولات الإقليمية الكبرى الأخيرة، بأن إصراراً غربياً ما لا يزال يدفع في اتجاه فرض الجماعة في مصر، إن لم يكن بصناديق الديمقراطية و"نحمل الخير لمصر"، فعبر صناعة أو دعم أو استنساخ تجارب أيقونية من شأنها أن تدعم استعادة عافية الجماعة في مصر، وحبذا استرجاع سطوتها، وقوس السيناريوهات يبقى مفتوحاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فتح قوس قبول حكم الإسلام السياسي، سواء أقر به بعضهم واضحاً صريحاً أو أعلن نفسه بأنه لم يعد دينياً فقط سياسياً، بدا واضحاً عبر الدعم والمساندة والقبول والتشجيع الدولي للرئيس السوري أحمد الشرع، لكن القوس لم يغلق وهو ربما ما يدفع بعضهم إلى التساؤل حول سيناريو أو محاولة أو دفع أو دعم في ما يختص بمصر، ولا سيما أن الداخل لم يتطهر تماماً.

المتابع للشأن المصري يرصد دعوات متواترة ومتتالية من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تجديد الخطاب الديني وتطهيره مما علق به على مدى عقود من تشويه وتشدد وتطرف، فتحدث الرئيس المصري غير مرة عن استحالة قيام 1.5 مليار مسلم بقتل 7 مليارات أخرى من سكان الأرض لأنهم مختلفون، وذلك في إشارة إلى رفض كل اختلاف، وفوقية الأنا المتركزة على المعتقد.

مرات كثيرة طالب فيها الرئيس السيسي بتصحيح المفاهيم، وخلال عشرات المناسبات كان يدق على وتر التجديد وتنقية بعض الأفكار التي جرى تقديسها على مدى أعوام حتى أصبح الناس يدافعون عنها وكأنها مقدسات، في إشارات عدة إلى استلاب الخطاب الديني لمصلحة منهج الجماعة وما انبثق منها من جماعات، والذي صنعه مؤسسوها ومرشدوها وأمناؤها وكوادرها، وهو المنهج الذي ثارت عليه جموع المصريين عام 2013 بعد ما رأوا بأعينهم جهود الجماعة المتسارعة لتمكين كوادرها من مفاصل وشرايين مصر، وهيمنة تيار ثقافي مناقض لهويتهم التي بدأت تتبدد في سبعينيات القرن الماضي بصورة متسارعة.

مشهد ملتبس

واقع الحال اليوم يشير إلى مشهد متشابك معقد وربما ملتبس، فمن جهة لم يعد الرئيس يجدد مطالباته بالتجديد كما كان يفعل خلال مناسبات سابقة على مدى أعوام، وبعضهم يفسر ذلك بأن التجديد حدث بالفعل عبر "مؤسسة الأزهر" التي يتوسع نفوذها ويتمدد حضورها بصورة واضحة، وكذلك وزارة الأوقاف تحديداً منذ أصبح أسامة الأزهري وزيراً قبل نحو عام، وذلك بضلوع الأوقاف الدينية في التعليم المدرسي والجامعي والشباب والرياضة والثقافة والدراما وعلوم الفضاء وغيرها.

وبعضهم الآخر يرى أن دعوات التجديد واجهت حائط صد عتيداً منيعاً ممثلاً في كل من قاعدة عريضة من المصريين ممن باتت تعتبر تفسيرات واجتهادات المشايخ نصوصاً مقدسة، وكذلك المؤسسات الدينية نفسها التي يرى بعضهم أنها قاومت دعوات التجديد بكل قوة.

وتزامن توقف دعوات التجديد، باستثناء القليل من أصوات الكتاب والمثقفين والذين يجري نعتهم من القاعدة الشعبية بـ "كارهي الدين" و"أعداء المتدينين"، مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لغالبية المصريين، ومع تصاعد الأخطار الإقليمية التي تحيط بمصر والتي يرى بعضهم أن كثيراً من شظاياها وهوامشها تستهدف مصر كمحطة مقبلة للصراع وإتمام رسم الخريطة الجديدة.

وتظل جماعة الإخوان المسلمين أشبه بـ "عفريت العلبة"، صخب وحضور وتوسع، يعقبه خمود وكمون وسكون، ثم يعاد تشغيل العلبة فينفتح الغطاء وتعاود الصولان والجولان، وهلم جرا.

دورة حياة جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا سيما في دولة المنشأ مصر، تشير إلى فترات انتعاش تعقبها مطاردات وعودة للجحور، لكنها لا تموت ثم تعاود الظهور، وعلى رغم أن فترة الكمون الأخيرة مختلفة الأبعاد والتفاصيل ويمكن القول إنها الأعتى عمقاً والأكثر ألماً في دورات الصعود والهبوط، فإن بوادر الصعود بدأت تظهر مجدداً.

 

بوادر الظهور هذه المرة أيضاً مختلفة، حيث علامات ظهور محلية مضافاً إليها أمارات وملامح دعم أو تأييد أو دفع خارجية لدرجة أن همهمات تدور في كواليس المعنيين بالأوضاع السياسية والإستراتيجية حول إذا ما كانت قوى غربية تفكر في محاولة تكرار التجربة السورية في مصر، ولكن بأسماء مختلفة.

مستشار "مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية" جمال عبدالجواد رصد بصورة معمقة قصة "الإخوان" والغرب قبل أعوام، وذلك قبل التوجه الأميركي الأخير الملوح بورقة توصيف الجماعة إرهابية، فيقول في دراسة عنوانها "الإخوان والغرب: سقوط المراهنة على الإسلام الديمقراطي" (2018) إن حظوظ الجماعة تقلبت غير مرة خلال الأعوام الماضية، فـ "في البداية كان هناك الصعود التدريجي منذ السبعينيات ثم الوصول السريع إلى مواقع السلطة وذروة النفوذ في أعقاب ثورات عام 2011، ثم جاء التراجع السريع الذي تلا ثورة يونيو 2013، ومع تغير حظوظ الإخوان في مصر والمنطقة تغيرت المواقف الغربية من الجماعة أيضاً".

ويرى عبدالجواد أن المواقف الغربية من الجماعة ومن الإسلام السياسي بصورة عامة بدأت تتبلور منذ الثمانينيات، إذ فرض الصعود التدريجي لـ "الإخوان" والحركات الإسلامية نفسه على أجندة الاهتمامات البحثية والسياسية للنخب الغربية، وكان انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 سبباً إضافياً لتعزيز الاهتمام بهذه الظاهرة الجديدة، مضيفاً أن "المفكرين الليبراليين اتجهوا لتقديم صعود الإسلام السياسي كظاهرة أصيلة لها منطق سوسيولوجي مفهوم، ظهرت وتطورت نتيجة لمنعطفات وأزمات التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي في بلاد الشرق الأوسط، داعين الحكومات الغربية إلى أخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار وهي تخطط سياساتها تجاه دول المنطقة".

اليمين والإسلام السياسي

وقال عبدالجواد إن التيارات السياسية الغربية المحافظة، وذلك قبل صعودها البازغ خلال الأعوام والأشهر القليلة الماضية، تعاملت مع الحركات الإسلامية من منظور الحرب الباردة فوجدت فيها حليفاً يمكن استخدامه في الصراع ضد المعسكر السوفياتي، وكان التجنيد والتسليح واسع النطاق لإسلاميين من تيارات سياسية متنوعة لمحاربة الاتحاد السوفياتي والنظام التابع له في أفغانستان، هو التجسيد الأهم لهذا الاتجاه، مشيراً إلى أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يجري فيها توظيف الإسلاميين في إطار الحرب الباردة، فخلال الستينيات وفي إطار الصراع بين الراديكالية الناصرية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي وبعض الدول العربية المتحالفة مع أميركا، أخذ "الإخوان" الجانب الموالي للغرب، منوهاً بأن الوضع في هذه المرحلة كان أقل تعقيداً مما هو عليه حالياً، إذ كان "الإخوان" هم الجماعة الوحيدة ذات الشأن التي ترفع راية إسلامية، واقتصر توظيف الجماعة في إطار الصراع الدولي بمعرفة إقليمية، واكتفت القوى الدولية الكبرى بمتابعة المشهد وتقديم دعم ونصيحة محدودين.

وحدث التحول الكبير عقب هجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001، ويقول جمال عبدالجواد إن الرؤية الأميركية في ذلك الوقت تمثلت في أن الإرهاب أصبح قضية أمن قومي أميركي وغربي، وأن الإرهابيين يأتون من بلاد بعيدة، وهو ما يعني أن في بلادهم ظروفاً تنتج كل هذا القدر من التطرف، وبالتالي "فإن الحد من خطر الإرهاب يقتضي القضاء على الظروف التي تسهم في إنتاجه"، وهو ما أدى إلى "طرح الديمقراطية نقيضاً للاستبداد المنتج للإرهاب في بلاد الشرق الأوسط".

وتمثلت المعضلة في تحديد ماهية الديمقراطية ولاعبيها، وأيقن الغرب أن التيارات الليبرالية واليسارية والقومية لم تعد تحظى بالتأييد الكبير في دول المنطقة، فيما بدا الإسلاميون بألوانهم المختلفة وكأنهم يحتلون المساحة الأكبر من المجال العام والسياسي في هذه المجتمعات، وطرحُ مقترح الديمقراطية في الشرق الأوسط أدى إلى سؤال آخر عن الموقف من الإسلاميين، وهم الأداة الكلاسيكية التي كان الغرب يستخدمها لتوظيف الصراع بين الدول، وهو ما يختلف تماماً عن تمكينهم من المشاركة السياسية وربما تولي السلطة في بلدانهم.

حدث في مصر

حدث هذا في مصر عام 2012 عقب أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، فحاز صعود الجماعة للحكم على دعم وتأييد وتشجيع غربي منقطع النظير، تارة باسم "الجماعة التي أتت بها صناديق الانتخابات"، وأخرى تحت راية "الإخوان وأبناء عمومهم من جماعات دينية وكل فصيل سياسي يحق له المشاركة والمنافسة على الحكم".

ويصعب القول إن الغرب يدعم عودة الجماعة أو فتح نافذة تتيح لهم الخروج مما يُعتقد أنها فترة كمون حالية، وممارسة النشاط السياسي في مصر بدرجة ما، لكن يسهل تأكيد أن علاقة الغرب بالجماعة ظلت مدفوعة بالمصالح والتوازنات وتعظيم الفوائد، حتى وإن بدت أحياناً متضاربة الهوى أو متناقضة التوجه، فهل لدى الدول الغربية مخاوف من أيديولوجيا جماعات الإسلام السياسي وفي القلب منها جماعة "الإخوان المسلمين"؟

نعم، ولكن ما الضرر في أن يجري حصر هذه الأيديولوجيا في دول عربية بذاتها بل ودعمها للوصول إلى التمكن من حكمها، في مقابل ضمان تسيير وتيسير مصالح، والتأكد من الحفاظ على وصيانة الأهداف الاقتصادية والجيوسياسية والتوازنات مع القوى الأخرى في المنطقة؟ لم لا؟

 

ولم لا والجماعة وأبناء عمومها قادرون على حشد الدعم الشعبي والسيطرة على مشاعر الشارع، والهيمنة على ما بقي من عقول؟ ولم لا والجماعة وأقرانها بمن فيهم جماعات وهيئات تقول إنها تسير على نهج مغاير للجماعة ولا تمتُ لها بصلة إلا كمرجعية أيديولوجية أصلية، مع الإبقاء على تعديلات تناسب خصوصيات الجماعات والهيئات ممن أثبتوا قدرة على الوصول إلى حكم هنا أو التأسيس لفكرة "دولة إسلامية" عبر كيانات مثل "داعش" وإن فشلت أو خمدت "لحين إشعار آخر"؟

والطريف واللافت والمثير أن جهوداً غربية، بعضها حقوقي وبعضها الآخر سياسي، وجزء منها خليط من الاثنين، بذل الغالي والرخيص ولا يزال، من أجل التمييز بين "الجماعات الإسلامية الجهادية المسلحة العنيفة" و"الجماعات الإسلامية الوسطية غير العنيفة"، وخير من يمثل الأخيرة بالنسبة إليهم جماعة "الإخوان المسلمين".

رياح الربيع ونجم الجماعة

ومنذ هبوب رياح ما يسمى بـ "الربيع العربي" وبزوغ نجم جماعة "الإخوان المسلمين"، وحكومات ومراكز بحثية وحقوقية وكتاب وأكاديميون ومحللون في الغرب يدقون على أوتار أهمية دعم "الإخوان" وتشجيعهم وتقديم كل أنواع المساعدة الغربية لهم، باعتبارهم البديل الأمثل والأسلم والأروع للجماعات الجهادية، فهؤلاء ظلوا يتحدثون عن كون الجماعة المنصة الأفضل والسلاح الأقوى لمواجهة ودرء خطر الإسلام الجهادي العنيف، لا في دول المنشأ العربية والإسلامية بالضرورة بل في الدول الغربية، وليس هذا فقط بل ظلت الدول الغربية بصورة عامة تبدي درجة معتبرة من اللين والتساهل مع "شروط تمكين الإسلاميين" من الحكم في دولهم، والغريب أن الخطاب الغربي طغى عليه تجاهل أو تغاض أو تساهل مع عناصر ومكونات العنصرية والفوقية والاستبداد المنصوص عليها بصورة واضحة وصريح في أيديولوجيا الجماعات ومنهجها، ناهيك عن سياساتها وتصرفاتها في الأحوال التي تمكن أفرادها من الوصول إلى السلطة، ومصر مثال واضح.

دخول الجماعة مرحلة الكمون في مصر لا يعني موتها أو غيبوبتها، ففترات البيات الشتوي تمنح بعض الكائنات فرصة للراحة والخمول والاستعداد للخروج من بياتها حال تحسن الجو والتأكد من توافر الطعام وسبل التزاوج والبقاء، وذك لحين عودة فترة البيات، وفي فترة البيات توفر الكائنات طاقتها لحين تحسن الظروف وتشحذ قوتها وتشحن قدرتها.

بقاء الجماعة مادة تستقطب البحث وظاهرة تستوجب التحليل، ومعظم الجهود المبذولة عربياً تعتمد على العواطف الجياشة والتحليلات القدرية المفعمة بالشروح، إما الخيالية أو الروحانية، أو كل ما سبق، والغريب أن هذه القدرية والعاطفية تجمع طرفي النقيض، محبي "الإخوان" وداعميهم، وكذلك كارهيهم ومعارضيهم.

المحاضِرة في سياسات الشرق الأوسط في كلية بيركبيك -لندن، باربارا زولنر، تقدم إجابات علمية عن سر البقاء في ورقة لها عنوانها "البقاء على رغم القمع: كيف استطاعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية الصمود والاستمرار؟" (2019) والمنشورة على موقع "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي"، فتقول إن قدرة "الإخوان" على الحفاظ على البقاء طوال آماد مديدة من القمع تكمن في طبيعة هيكليتها التنظيمية وقدرتها على تقديم رؤية اجتماعية وسياسية متسقة.

وبعيداً من أن زولنر لا ترى في "الإخوان" إلا جماعة تتعرض للظلم والقمع منذ نشأتها، ولا تتطرق إلى ما اقترفته مما يصفه قطاع عريض من المصريين، أخطاء أو قمعاً أو عنفاً أو كل ما سبق في حقهم على مدى عام حكموا خلاله البلاد، لكنها تقدم شرحاً ورؤية جديرين بالتأمل، فتحدد الكاتبة أربعة أسباب يمكن من خلالها فهم سر بقاء جماعة "الإخوان" على قيد الحياة، فالأول هيكليتها التنظيمية الهرمية التي اعتقد بعضهم أنها نقطة ضعف في تكوينها لكن ثبت العكس، واتضح أنها سبب في استمرارها، وتقول زولنر إن مكتب المرشد العام ومكتب الإرشاد بقيا مراكز رمزية للقيادة، أما إدارة الأزمة واتخاذ القرارات فقد جرى نقلها إلى قادة موثوقين في المنفى، وتطرقت إلى المكتب الخارجي للجماعة المصرية والمكون من أعضاء للجماعة في المنفى، سواء في قطر أو تركيا أو لندن، وجميعها بعيد مما سمته بـ "قبضة السلطات المصرية"، وهو ما مكن هؤلاء القادة من استمرار العمل ومعارضة النظام المصري بمساعدة التكنولوجيا.

وسائل الإخضاع

والسبب الثاني في تقييم الكاتبة هو "كادر الجماعة الأعلى الذي يتصف بأنه كبير ومتنوع، وهو ما يجعل إخضاع قيادتها بالكامل لسيطرة الدولة المصرية أمراً بالغ الصعوبة حتى لو جرى استخدام وسائل إخضاع مكثفة، وليس هذا فقط بل رأت الكاتبة في مشاهد محاكمات قادة الجماعة الذين يحاكمون باتهامات تتعلق بالإرهاب وممارسة العنف وتدبير الاغتيالات وغيرها، سبباً لاكتساب الجماعة الاحترام، ولا سيما بين أوساطها الأكثر ثورية، ولم تتطرق الكاتبة إلى ردود فعل المصريين الذين شعروا بالاطمئنان لخضوع من لجأوا للعنف وتنفيذ العمليات الإرهابية ضدهم للمحاكمات، وفقط رأت في المحاكمات مصدراً لكسب الاحترام للجماعة والإبقاء على هيكلتها التراثية قائمة.

تنوع العمليات الإدارية المدعومة بشبكات الاتصال الموسعة هي السبب الثالث لبقاء الجماعة، بحسب تحليل الكاتبة، وفي حين أن الجماعة احتفظت بهيكلية قيادية هرمية فإن خطوط الاتصالات التنظيمية الداخلية اكتسبت قدرات ومهارات تمكنها من بث دفق المعلومات بصورة متواصلة، حتى بين أعضائها في السجون وفي الخارج وفي المنفى، وأشارت إلى مهارات "الإخوان" في استخدام منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى القنوات التلفزيونية الإخوانية أو الداعمة لهم لتداول المعلومات، وكذلك للتسويق والترويج لأنفسهم.

 

أما السبب الرابع والأخير فتقول زولنر إن الفضل الأكبر لبقاء الجماعة هو تلقين القياديين أيديولوجيا التنظيم وأهدافه، فضلاً عن البيعة أو إعلان الولاء والطاعة للمرشد العام، إضافة إلى ما وصفته بـ "تفاني الأعضاء كثيفي التدريب للمثل العليا التي وضعها مؤسس الجماعة حسن البنا، هو الذي يضمن وجود قواعد تتميز بالولاء والوفاء ولا تعتمد بالضرورة على التوجيه من أعلى القيادات لأسفل الكوادر وقت الأزمات.

وبينما تركزت معظم أدبيات الغرب وتحليلاته وأوراقه عن جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا سيما على مدى أعوام ما بعد الإطاحة بهم، على انتهاجهم منهج اللاعنف وتمسكهم بالسلمية واعتناقهم النسخة الوسطية السمحة للإسلام في مصر، فإن الواقع المصري المعاش لحقيقة الجماعة يؤكد العكس، بحسب شهادات المصريين من غير معارضي الجماعة، ناهيك عن سجلات محاضر الشرطة وأوراق القضايا وأحكامها.

ويلقي المفكر السياسي المصري عبدالمنعم سعيد في تصريحات صحافية ضوءاً على هذ الفرق الشاسع بين رؤية الغرب لـ "الإخوان" في مصر ورؤية المصريين أنفسهم لهم، فيقول إن "جماعة الإخوان" هي الوحيدة التي نجحت في خداع العرب وتقديم نفسها كجماعة وسطية معتدلة لا تلجأ للعنف أبداً، وهو عكس ما فعلته في مصر تماماً، ويشير سعيد كذلك إلى النجاحات التي حققتها كوادر الجماعة في التواصل مع الغرب وإعلامه، وهو ما حجب، في الأقل عن الرأي العام في الغرب، جانباً معتبراً من حقيقة الجماعة في مصر.

الوسطية القاتلة

وحتى الوقت الراهن لا يزال الجانب الأكبر من الدوائر البحثية والمؤسسات الإعلامية، وربما النقاشات السياسية، تدور حول الإسلام السياسي الوسطي غير العنيف والمتمثل في جماعة "الإخوان المسلمين"، باعتباره الرادع الأكبر للإسلام الجهادي المتطرف العنيف، وهذا الاتجاه لم يخفت، بل ربما انتعش في ظل صعود التيارات اليمينية في كثير من الدول الغربية، يعتبر أنه بما أن خلط الدين بالسياسة أمر واقع في كثير من الدول العربية، إن لم يكن بقرار سياسي حاكم، فبرغبة قاعدة عريضة من المواطنين لأسباب شتى تتراوح بين البحث عن هوية خاصة بهم أو الهرب من براثن الفقر الدنيوي عبر التعلق بآمال دينية تعد بتعويضات سماوية عن عذابات الأرض، أو إيماناً بأيديولوجيا هذه الجماعات التي توارثتها أجيال، أو تصديقاً لما يروجه قادتها بأنها جماعات مدنية ذات مرجعية دينية، فليكن، ولكن عبر تمكين جماعة وسطية معتدلة مثل "الإخوان"، أو غيرها من الجماعات التي نبذت العنف واكتشفت فجأة روعة السلام وبهاء المدنية.

التجربة السورية أسالت لعاب بعضهم، وقبول الغرب وصول "هيئة تحرير الشام" وزعيمها أبو محمد الجولاني إلى القصر الرئاسي في سوريا بعدما تحول من الجهاد إلى ما يقول إنه اعتدال، أعاد الحلم للحالمين بحكم إسلامي سياسي في دول المنطقة وعلى رأسها مصر الأمل.

 

ويسود شعور لدى بعضهم بأن تخلي كثير من الدول الغربية عن اعتبار الإسلام السياسي - الوسطي وأحياناً الجهادي، مصدر خطر، وأن العمل على إبقائه في داخل دول المنشأ يقيها شروره، وأن دعمه وتعضيده وترويضه يحقق المكاسب للجميع، يعيد تسليط الضوء على محاولات إجبار المصريين على تجرع عودة الجماعة بصورة أو أخرى.

بقي عامل داخلي يثير القلق بين المصريين من معارضي خلط الدين بالسياسة، ممن يؤمنون بالدولة المدنية، ومن لا يحيدون عن اعتبار خلطة الدين بالدولة أقصر الطرق لاستنساخ إيران بنكهة سنيّة أو أفغانستان بمذاق عربي، فانتشار علامات ومؤشرات تدل على إطلاق أيدي وحناجر مؤيدي التيارات السلفية في الشارع المصري عبر ارتفاع معدلات ارتداء النقاب بين نساء وفتيات وطفلات بصورة غير مسبوقة، مع عودة حديث الشارع الغارق في الاهتمام بسفاسف الأمور المظهرية، بدلاً من القضايا الحياتية المهمة، ومعها توسع دور المؤسسات الدينية الرسمية في كثير من الوزارات والأنشطة الحكومية، يقلق بعضهم في مصر.

المفكر والسياسي حسام بدراوي كتب ما يجول في عقول الحالمين بالدولة المدنية والمتخوفين من توسع قاعدة معاكسة بعنوان "تناقض سياسي في مواجهة الإخوان: بين تجريم التواجد والسماح بالأفكار" (سبتمبر 2025)، فقال إن "من المفارقات الصارخة في المشهد المصري أنه مع رفع شعار العداء لـ 'الإخوان المسلمين' كفصيل سياسي، فهناك تبن في العمق لأكثر الأفكار التي صاغها 'الإخوان' والسلفيون، وكأن الصراع لم يكن مع جوهر الفكر بل مع من يجلس على الكرسي، وهذا التناقض يزرع في وعي المجتمع ازدواجية خطرة: خطاب رسمي يعلن الحرب على الإسلام السياسي، وسياسات واقعية تغذي روافده في التعليم والثقافة والدين".

حارس على الرأي

ويرى بدراوي أن المؤسسة الدينية أصبحت حارساً على الرأي بالقانون، "فلم يعد من حق أي مفكر أو مجتهد أن يبدى رأياً في الدين إلا عبر بوابة هيئة كبار العلماء، وهى مؤسسة أنشأها 'الإخوان' في دستور عام 2012، واستمرت على رغم أنها كيان غامض لا يعرف الناس أسماء أعضائه أو كيفية اختيارهم، والمفارقة أن هذه الهيئة صارت بمثابة رقيب أعلى على الفكر في بلد كان منارة الاجتهاد منذ قرون".

ورصد بدراوي تحول وزارة الأوقاف إلى شريك إعلامي في افتتاح المشاريع، فمن فضاء التفكير إلى معمل للطاعة اعتبر بدراوي ما يجري من تديين للمجال التعليمي والدعوة إلى انتشار آلاف الكتاتيب، حيث إقصاء الخيال والفضول، وإغلاق الباب باكراً أمام أي بذرة للنقد والإبداع، "عودة مقنعة لمشروع الإخوان"، محذراً مما سماه بـ "الفكر الذي تسرب إلى مفاصل السياسة والتعليم والإعلام، والتغلغل العميق لفكر الإخوان والسلفيين تحت عباءة الدولة"، ومن "أية محاولة لإعادة إنتاج شكل من أشكال ولاية الفقيه بغطاء مؤسسي جديد".

وخلاصة المشهد، كما يرى بدراوي، هي أن ما يحدث من غياب البدائل المدنية يؤدي حتماً إلى الحكم الديني المتأسلم الذي يملك التمويل والتنظيم الدولي، وأحياناً المساندة الاستخباراتية الغربية للأسف، وقد لخص الكاتب المصري وأستاذ الأديان المقارنة إكرام لمعي ما اكتسبه من معرفة عن أسباب تجعل حكم الإسلاميين في دول مثل مصر أمراً مريحاً للغرب في أربع نقاط كتبها عام 2011، وهي أن تعامل الغرب مع حكومات الإسلاميين سهل لأن قراراتها تكون متوقعة بناء على أيديولوجيا معروفة، وكذلك ردود الأفعال التي تكون معروفة قبل حدوث الأفعال نفسها، ولأن الحكومات الإسلامية محترفة لصناعة أعداء، فما إن يصل أصحاب مذهب أو طائفة بعينها إلى الحكم حتى تهرع بقية الطوائف لمناصبتها العداء، ولأن وجود حكومة إسلامية يشجع الإسلاميين المقيمين في الغرب على العودة لدولهم ويسهل إغلاق باب الهجرة واللجوء في وجوههم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات