ملخص
في دراسته الصادرة قبل أيام (يوليو 2025) تحت عنوان "الإخوان المسلمون في أميركا"، يشير مدير برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن الأميركية لورنزو فيدينو إلى أنه على رغم عدم معرفة كثر، وعدم التطرق إلى تاريخ الإخوان في أميركا، بل إن بعض الناس يسأل إن كانت الجماعة مارست نشاطاً في أميركا من قبل، فإن أدلة وافرة تشير بوضوح إلى أن الجماعة ناشطة في أميركا منذ أواخر الخمسينيات. ليس هذا فحسب، بل إن وجودها التاريخي كان قوياً ومنظماً جداً مقارنة بدول أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا، حيث تتمتع الجماعة ببصمة بارزة وواضحة.
أميركا بصدد إعلان جماعة الإخوان المسلمين "منظمة إرهابية"، عنوان يهيمن على وسائل إعلام العالم بشتى توجهاته المتشابهة والمتناقضة، وكثر يحبسون أنفاسهم بين متمن لإتمام التصنيف كرهاً في الجماعة، ومتخوف من التصنيف حباً لها، وما نتج منها من جماعات وكيانات وحركات.
وعلى رغم أن الخبر حديث، ويعود تاريخه إلى أيام قليلة مضت، فإن العنوان تكرر غير مرة على مدى الـ15 عاماً الماضية، مصحوباً بكلمات مثل "نية" و"اتجاه" و"فكرة". أعوام 2016 و2019 و2023 وكذلك 2024 وأخيراً وليس آخراً 2025 شهدت تكراراً لـ"نية" تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية. وفي كل مرة، ترتبط النية أو الاتجاه بعوامل ومسببات لا تتصل بالجماعة وأيديولوجيتها المعروفة منذ ما يقارب قرناً من الزمان، بقدر اتصالها بأجواء سياسية وجيوسياسية واستراتيجية، وكذلك مصالح دول على حساب أخرى، ولا يخلو الأمر من كونها أداة من أدوات الضغط للتأثير في كيان تابع للجماعة هنا أو حركة ولدت من رحمها هناك.
قبل أيام، قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، في لقاء عبر الهاتف مع المذيع سيد روزنبرغ في برنامجه الصباحي "سيد أند فرندو إن ذو مورنينغ" إن أميركا بصدد تصنيف جماعة الإخوان المسلمين "منظمة إرهابية".
كان روبيو وروزنبرغ يتحدثان عن تصنيف عصابات التهريب (اللاتينية) كـ"منظمات إرهابية"، سأله روزنبرغ: "بينما نتحدث عن تصنيف الكارتلات (منظمة إجرامية) يا ماركو كمنظمة إرهابية، أود أن أسألك: لماذا لا تصنفون جماعة الإخوان المسلمين وكير (مجلس العلاقات الأميركية - الإسلامية)؟ أنا فقط أنظر إلى هذه المنظمات، لدي سباق انتخابي لرئاسة بلدية هنا في مدينة نيويورك مع هذا المختل عقلياً، هذا المجنون (زهران) ممداني. كلتا الجماعتين (الإخوان وكير)، كما تعلم، تدعمانه، بخاصة جماعة الإخوان المسلمين. هل تعتقد أننا نستطيع الاعتماد على ذلك في المستقبل القريب؟ ربما ليس ’كير‘ حالياً، ولكن بالتأكيد ’الإخوان المسلمين‘".
أجاب وزير الخارجية روبيو إجابة طويلة جداً، أهم نقاطها أن للجماعة فروعاً مختلفة، ويجب تحديد كل منها، وأن هذه الخطوات سيجري الطعن عليها في المحكمة، إذ يمكن لأي جماعة أن تقول عن نفسها إنها ليست إرهابية، مما يعني ضرورة تجهيز كل الأوراق والمعلومات مسبقاً. وأشار إلى ما وصفها بمحاولات بعض القضاة الفيدراليين لإدارة البلاد من على منصاتهم، وذلك عبر تنفيذ الأوامر القضائية (الصادرة في قضايا تقدمت بها جماعات أو مجموعات تناهض قرارات حكومية)، مما يستدعي توخي الحذر.
اتجاه أو نية
اتجاه أو نية الولايات المتحدة الأميركية تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية يستدعي توخي فهم طبيعة الأجواء المختلفة هذه المرة. فعلى رغم أن حركة "حماس" المولودة من رحم جماعة الإخوان المسلمين أعلنت عام 2017 فك ارتباطها بالجماعة الأم، ونشرت وقتها وثيقة "سياسية" من 42 بنداً تعيد من خلالها تعريف نفسها، باعتبارها "حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية بمرجعية إسلامية، وهدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني"، وهو ما اختلف ظاهرياً عن ميثاق تدشين الحركة الصادر عام 1988، الذي نص بصورة واضحة وصريحة على أنها "جناح من أجنحة جماعة الإخوان المسلمين"، فإنه ينبغي وضع "حماس" في عين الأجواء الحالية المحيطة بـ"نية" أميركا تصنيف الجماعة "إرهابية".
في اللقاء الإذاعي الكاشف نفسه، سأل المذيع روزنبرغ وزير الخارجية "لا أعرف كيف لدولة مرت بما مررنا به في السابع من أكتوبر (تشرين الثاني) 2023 أن تتحول فجأة إلى دولة إجرامية في الثامن من أكتوبر، لكنني كنت أعلم أن ذلك سيحدث. حدث أسرع مما توقعت، لأكون صادقاً يا ماركو، لكنني كنت أعلم أنه سيحدث. لكن لا يزال لدينا الآن 20 رهينة هناك. بيبي (نتنياهو) يريد السيطرة الكاملة على غزة. هل تعتقد أنه إذا فعل نتنياهو ذلك، فسيعني ذلك عاجلاً أو آجلاً نهاية هذه الحرب المروعة؟".
أجاب روبيو أن الحرب ستنتهي في اليوم الذي تتوقف فيه "حماس" عن كونها تهديداً عسكرياً، وأنه لا يمكن السماح لجماعة مثلها بالاستمرار، إذ يجب القضاء عليها، مع العلم أنها لن تنزع سلاحها طواعية. وأضاف أنه ما دامت بقيت "حماس"، لن يكون هناك سلام في غزة، مشيراً إلى ضرورة فعل ذلك (القضاء على "حماس" ونزع سلاحها)، بسرعة.
ويضاف إلى ذلك مطالبة سيناتور الحزب الجمهوري عن ولاية أركنسو توم كونون قبل أيام مصلحة الضرائب الداخلية التحقيق في ملفات "كير" المعفاة من الضرائب، وذلك بسبب ما وصفه بـ"مخاوف من علاقات مجموعات الدفاع عن المسلمين بالمنظمات الإرهابية". ونشرت صحف أميركية تقارير عن رسالة أرسلها كونون لمفوض مصلحة الضرائب، وتحدث فيها عن "أدلة قديمة" تشير إلى علاقات "كير" بـ"الجماعات الإرهابية مثل ’الإخوان المسلمين‘ و’حماس‘".
"الأدلة" قديمة والعلاقات كثيرة والمصالح متشابكة، وكل ما سبق ليس وليد اليوم أو أمس أو أول من أمس. علاقة جماعة الإسلام السياسي الأشهر في العالم، والملقبة بـ"الجماعة الأم" لغيرها من الجماعات والحركات والهيئات والتنظيمات التي تنتهج الدين أو العنف أو كليهما أسلوب حياة وبسط هيمنة ووصول إلى الحكم، علاقة تاريخية.
في دراسته الصادرة قبل أيام (يوليو 2025) تحت عنوان "الإخوان المسلمون في أميركا"، يشير مدير برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن الأميركية لورنزو فيدينو إلى أنه على رغم عدم معرفة كثر، وعدم التطرق إلى تاريخ الإخوان في أميركا، بل إن بعض الناس يسأل إن كانت الجماعة مارست نشاطاً في أميركا من قبل، فإن أدلة وافرة تشير بوضوح إلى أن الجماعة ناشطة في أميركا منذ أواخر الخمسينيات. ليس هذا فحسب، بل إن وجودها التاريخي كان قوياً ومنظماً جداً مقارنة بدول أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا، حيث تتمتع الجماعة ببصمة بارزة وواضحة.
ويؤرخ فيدينو، الذي أمضى 25 عاماً في دراسة وبحث تاريخ الجماعات الإسلامية، لتاريخ المسلمين الأوائل في أميركا، الذين ظل معظمهم حتى الستينيات مقصوراً على الأميركيين السود. وعلى رغم وجود الإسلام بين "عبيد" غرب أفريقيا منذ القرن الـ17، فإن الإسلام بدأ يجتذب كثيرين من الأميركيين السود في العقود الأولى من القرن الـ20 بفضل دعاة مسلمين تمتعوا بالكاريزما، ومزجوا بين التعاليم الدينية الإسلامية وتعاليم ديانات أخرى ممتزجة بفكرة الحقوق والفخر العرقي وغيرها من عوامل الجذب التي ناسبت الأميركيين السود في ذلك الوقت.
ورصد كذلك تدشين منظمات أميركية جرى تدشينها لتحافظ على التراث الثقافي والروابط الأسرية مع زيادة عدد المهاجرين العرب المسلمين الذي قدموا إلى أميركا منذ أواخر القرن الـ19، شأنهم شأن جماعات دينية وعرقية أخرى. وظلت الحال هكذا إلى أن ظهرت فئة جديدة وصلت إلى أميركا بأعداد كبيرة في أوائل الستينيات تمثلت في نحو نصف مليون طالب مسلم جاؤوا من جميع أنحاء العالم الإسلامي للدراسة في الجامعات الأميركية.
يشار إلى أن أميركا رأت في وجود مئات الآلاف من الطلاب في جامعاتها وسيلة مثالية لبناء علاقات مع "حلفائها المحتملين"، وذلك أسوة بموسكو. ويذكر فيدينو أنه مع وصول من سماهم بـ"أبناء النخب الحضرية في العالم الإسلامي" إلى الجامعات الأميركية أسسوا أولى المنظمات الطلابية لتلبية حاجاتهم الدينية الأساسية. ويقول إن مؤيدي القومية، التي كانت آنذاك الأيديولوجية الرائدة في العالم الإسلامي، لم يكن لديهم اهتمام يذكر بالمنظمات الدينية، فإن الطلاب الذين خاضوا تجارب في منظمات إسلامية مختلفة في بلدانهم الأصلية هم من أصبحوا المحرك الرئيس وراء التجمعات الطلابية الصغيرة التي تشكلت في الجامعات الأميركية. وتشكلت أول رابطة للطلاب المسلمين في أميركا عام 1963، وهي الرابطة التي تعامل الإسلام باعتباره سياسياً بطبيعته.
أعضاء ومتعاطفون
وعلى رغم تنوع خلفيات هؤلاء الطلاب، فإن أعضاء ومتعاطفين من مختلف فروع جماعة الإخوان المسلمين الذين استقروا في أميركا منذ خمسينيات القرن الماضي أدوا دوراً حاسماً، في الرابطة، التي وصفها بأنها لم تكن إخوانية خالصة، لكن روابطها بها كانت قوية منذ نشأتها، ويكفي أن تسعة من الإخوان شغلوا مناصب رئيسة فيها، مما أثر في أيديولوجيتها وتوجهها. ويقول فيدينو إن الرابطة أصبحت بعد ذلك بمثابة هيكل مواز لجماعة الإخوان، ومصدر تجنيد لا ينضب، ووسيلة مثالية لنشر أفكار الجماعة.
ويتتبع المؤلف توسع "الجماعة" من خلال بزوغ نجم عدد من الشخصيات الإخوانية النشطة، مثل القيادي الإخواني الأميركي محمد أكرم العدلوني، وكذلك عبر تمدد الجمعيات والمنظمات المرتبطة بها، وزيادة أعداد المنتمين والمتعاطفين، وتطور الأمر إلى هياكل تنظيمية، ومجلس شورى، ومكتب تنفيذي، وتوطين الدعوة عبر الانتقال من كيانات طلابية إلى كيانات مقيمين ومواطنين مسلمين، وتأسيس مراكز إسلامية متعددة الأنشطة والوظائف، وغيرها من خطوات وسعت من قاعدة عمل الجماعة وأذرعها الكثيرة والكيانات المولودة من رحمها.
ويتطرق فيدينو إلى عامل التمويل المتعدد المصادر، الذي كان عاملاً حاسماً في نمو الجماعة في أميركا وتمددها، مشيراً إلى تضاؤل أو تقلص التمويل في الأعوام الأخيرة لأسباب سياسية وجيوسياسية تتعلق بالدول الممولة، مضيفاً أن الإخوان الأميركيين تمكنوا على مر الأعوام من تحقيق إيراداتهم الخاصة من خلال استثمارات في مجالات متنوعة، أبرزها العقارات والتمويل الإسلامي والبرمجيات والدواجن، إضافة إلى جمع التبرعات. ويذهب إلى القول إن المنظمات المتصلة بجماعة الإخوان المسلمين أظهرت قدرة ملحوظة على الحصول على تمويل حكومي وفيدرالي على مدى الأعوام لكثير من أنشطتها.
وأشار إلى بدء دخول أعضاء الجماعة المجال السياسي الأميركي في الثمانينيات، وأُسست جمعيات لتوعية وتثقيف الأميركيين المسلمين بحقوقهم السياسية، وأهمية التصويت لا سيما في القضايا التي تتعلق بالإسلام والمسلمين. وبزغ كثير من الشخصيات في هذا الصعيد، مثل عبدالرحمن العمودي، أحد الوجوه الأميركية الإسلامية البارزة في واشنطن، الذي ترأس "المجلس الأميركي الإسلامي"، وتردد كثيراً على البيت الأبيض، وتمت بعلاقات وثيقة في داخل الإدارتين الجمهورية والديمقراطية على مدى أعوام.
مناصب قيادية
الأدهى من ذلك، أنه بحسب تقارير أميركية رسمية وإعلامية، وضعت وزارة الدفاع الأميركية العمودي في منصب تدريب وتدقيق الأئمة الذين يلبون الحاجات الدينية للمسلمين الأميركيين العاملين في الجيش. كما حاز إشادات رسمية عدة، واعتبرت منظمته أكثر الجماعات الإسلامية انتشاراً في أميركا، وعينته وزارة الخارجية سفيراً للنيات الحسنة، وطلبت منه السفر بانتظام حول العالم لتمثيل المسلمين الأميركيين، بحسب المؤلف.
وعام 2003 أدى اكتشاف غير متوقع لفحص جمركي روتيني في مطار هيثرو في لندن إلى تعرية حقيقة العمودي، فقد أخفى 340 ألف دولار في حقيبته، واتضح أنه يتلقى أموالاً بصورة غير قانونية من ليبيا، جزءاً منها كان مخصصاً لتنفيذ عمليات دبرتها الحكومة الليبية في عهد القذافي ومعارضان سعوديان في بريطانيا على صلة بـ"تنظيم القاعدة" لاغتيال ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبدالله، وجرى الكشف عن علاقاته بجماعات وحركات صنفتها أميركا "منظمات إرهابية" مثل "القاعدة" و"حماس".
وبحسب الدراسة، فإن علاقات متداخلة ومتشابكة جمعت بين منظمات وجمعيات وهيئات إسلامية أُسست أو اندمجت ومعظمها جزء من شبكة جماعة الإخوان المسلمين في أميركا من جهة، وبين حركة مثل "حماس" من جهة أخرى أدت إلى تأسيس "كير". وتحدث المؤلف عن نشر مقالات رأي لعدد من قادة "حماس" على مدى أعوام في أكثر الصحف الأميركية رصانة وانتشاراً مثل "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"لوس أنجليس تايمز" وغيرها، وهي المقالات التي كتبت بنبرة ولهجة تختلف تماماً عن النبرة واللهجة التي تستخدم في الإعلام العربي.
وأشار كذلك إلى اتفاق ضمني في المجتمعات الإسلامية التابعة للمنظمات والهيئات التي سبقت الإشارة لها بأن يتم دعم "حماس" علانية ومن دون خجل في "المجتمع الإسلامي"، لكن لدى التعامل مع المواطنين الأميركيين العاديين وصانعي السياسات يختلف الأمر، ويستوجب عدم المجاهرة بدعم "حماس".
وأشارت الورقة إلى توجه بين هذه الهيئات بوجوب تأسيس منظمة إسلامية جديدة لا تربطها صلات واضحة بـ"حماس" وتعمل بطرق معتدلة تجعلها تبدو معتدلة في نظر الأميركيين، وهو ما يعتقد أنها "كير" أو "مجلس العلاقات الأميركية - الإسلامية" في التسعينيات. ويقول "في غضون أعوام قليلة من تأسيس ’كير‘ كأحدث إضافة إلى لجنة فلسطين التابعة لجماعة الإخوان المسلمين الأميركية، حققت نجاحات باهرة. وبفضل مزيج من النشاط الدؤوب والواجهة العامة المعتدلة والتمويل الوفير أصبحت ’كير‘ المجلس الممثل الفعلي للمجتمع الإسلامي الأميركي، وتتواصل معها وسائل الإعلام وصانعو السياسات بانتظام في شأن أي قضية تتعلق بالإسلام".
هذا التأريخ، بحسب الأكاديمي لورنزو فيدينو، للجماعة في أميركا، وتشابك الهيئات والمجالس والمنظمات تشابكاً يصعب حلحلة خيوطه، وتمهيد الطريق أمام شخصيات يعتقد أنها إخوانية الهوى والنشأة، لتصبح أكاديميين وباحثين وكتاباً وأصحاب أعمال ومؤثرين قريبين من دوائر الحكم وصناع السياسات وغيرها من المجالات الحيوية في أميركا، يضاف إليه ما أشار إليه كثير من الكتاب والمحللين والمتخصصين الاستراتيجيين، لا سيما في دول ضربها "الربيع العربي" مثل مصر على مدى أعوام، ويتمثل في أن كثيراً من البحوث والدراسات والأوراق والمحتوى الأكاديمي والبحثي في مراكز فكر وبحوث وجامعات مما يعتبر مرجعية عن الجماعة وفكرها وأدوارها "الإصلاحية" ورؤاها الدينية "الوسطية" كتبه باحثون أميركيون وغير أميركيين ينتمون أو قريبون أو متعاطفون أو متأثرون بالجماعة بصورة أو بأخرى، وهو أمر طبيعي في ضوء ولادة جيل ثان وثالث ورابع لعائلات أميركية نشأت في كنف هيئات ومنظمات "تدعم المسلمين الأميركيين".
الكاتب الصحافي المصري الراحل محسن محمد أشار في كتابه "من قتل حسن البنا؟" إلى أنه مع تولي أميركا قيادة المعسكر الغربي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ التواصل المباشر بين أميركا والجماعة، وتبلور ذلك بمقابلة بين دبلوماسي أميركي في سفارة أميركا لدى مصر وحسن البنا، وذلك في أغسطس (آب) عام 1947. وتحدث البنا عن رغبة الجماعة في أن يكون هناك مكتب مشترك بينها وبين أميركا لـ"مكافحة الشيوعية".
العلاقة الملتبسة والمتشابكة بين أميركا والجماعة لم تصل يوماً إلى المباشرة والمواجهة التي وصلتها في الأعوام القليلة الماضية، لا سيما أن أياً من المنظمات والهيئات والجمعيات الإسلامية جرى تدشينها في أميركا على مدى عقود تنأى بأسمائها وأوراقها ومجاهراتها عن ثلاث كلمات "جماعة" و"الإخوان" و"المسلمين".
تعايش سلمي
عقود طويلة، وتعايش سلمي ما، يجمع الحكومات الأميركية والجماعات والمنظمات والهيئات الوثيقة الصلة بالجماعة، من دون إعلان ذلك أو الاعتراف به علناً. وطوال هذه العقود، والغالبية في الداخل الأميركي تنظر إلى هذه الكيانات باعتبارها جمعيات إسلامية تخدم المسلمين الأميركيين، شأنها شأن غيرها من جمعيات وكيانات تخدم منتمين لعقائد وإثنيات مختلفة. اليوم، ربما يشهد العالم نهاية التعايش السلمي، أو هدنة فرقة بين الجماعة وأميركا.
ومن مشاهدات ومتابعات كثيرة في أعوام ما بعد الربيع العربي، واتضاح حجم التعاطف والتماهي وربما الانصهار شبه التام بين بعض هذه الكيانات وجماعة الإخوان المسلمين التي فشلت بعد وصولها إلى السلطة في دول مثل مصر وتونس، وضلعت في "ثورات" مسلحة بعضها تحول حروباً أهلية في دول أخرى، يمكن الخروج بثلاث ملاحظات. الأولى هي نجاح هذه الكيانات الإسلامية "الخدمية" تماماً في تمويه علاقات بعضها الوثيقة جداً بالجماعة منذ تأسيسها. والثانية توريث فكر الجماعة لأجيال مسلمة متعاقبة ولدت في أميركا، إضافة إلى قدرتها على الانتشار بين المسلمين في أميركا تحت تسميات مختلفة. والثالثة اقتناع حقوقي، وربما اتفاق على اقتناع، بأن "الإخوان المسلمين" وأذرعها هي كيان سياسي سلمي "مدني" له حق ممارسة السياسة، وحرمانها خرق لمواثيق حقوق الإنسان. وتعاد الإشارة هنا إلى أذرع الجماعة التي نجحت في كتابة مقالات الرأي في كبرى الصحف الأميركية، والعمل في صحف ووسائل إعلام وهيئات تدريس جامعية، والوجود عبر جمعيات وهيئات وجهات عدة مكنتها من غرس نفسها في المجتمع من دون صدامات تذكر أو استهجانات أو اعتراضات، وذلك حتى بدء تكرار التلويح بتصنيف الجماعة "إرهابية".
الأكاديمي المتخصص في السلفية المعاصرة محمد علي الدراوي نشر ورقة في دورية "جورج تاون للشؤون الدولية" عنوانها "الولايات المتحدة وجماعة الإخوان المسلمين المصرية: فهم التاريخ الفوضوي" يمكن فهم أسباب التلويح الأميركي الحالي بتصنيف الجماعة إرهابية. جاء في الورقة أن "الاختلافات الأيديولوجية (بين أميركا والجماعة)، التي لا يمكن التقريب بينها، لم تحول يوماً دون جهود التعاون بينهما، إذ امتنع الطرفان عن تبني أهداف متشددة، وكذلك الاستخفاف بموازين القوة. وعلى رغم أن جماعة الإخوان المسلمين دأبت، على مدى عقود، على تأجيج نيران الكراهية على أسس عقائدية، فإن الولايات المتحدة لم تتردد قط في إقامة شراكة معها كلما بدا أن لها (الجماعة) نفوذاً في دوائر صنع القرار المصرية. في هذه الظروف، اعتبرت جماعة الإخوان شريكاً مسؤولاً قادراً على كبح جماح تطرفها. وما دامت لم تتعارض أجندة الإخوان مع النهج الأميركي السائد في ذلك الوقت، ظلت أميركا سعيدة بالتعاون مع الجماعة. وفي حال تعارضت الأجندات تصور أميركا الإخوان كمجموعة متشددة متزمتة لا هوادة فيها".
خلاصة القول، بحسب الدراوي، أن التحول المستمر بين الموقف المبدئي والنهج ذي الدوافع السياسية ظل يشكل طبيعة العلاقة بين الطرفين (أميركا والإخوان) على مدى قرن مضى، واصفاً العلاقة بينهما بأنها "علاقة فوضوية قوامها عدم الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة".
على مدى العقد ونصف العقد الماضيين، وفي كل مرة كانت الإدارة الأميركية، أو شخصيات بارزة فيها، لا سيما الجمهوريون، تلوح بـ"التصنيف الإرهابي"، كان كثير من أفلام مراكز الفكر (ثينك تانك) وأوراق المراكز البحثية السياسية والاستراتيجية تتعمق في التحذير من أن تفعيل مثل هذا التصنيف من شأنه أن يلهب الأوضاع، ويفاقم المصاعب في التعامل مع دول وشعوب عربية وإسلامية، ويهدد العلاقة المستقبلية بين الجماعة "الديمقراطية السلمية المدنية الوسطية" وأميركا والغرب بأكمله.
حتى في أحلك لحظات هيمنة الجماعة على مفاصل ورقاب دول مثل مصر عام 2012 و2013، وعلى رغم الهبة الشعبية الرافضة للإخوان حكاماً للبلاد، كانت هذه الأقلام والأصوات تهب مدافعة عن الجماعة "التي أتت عبر الصناديق" (الانتخابات الديمقراطية).
مثلاً، جمع مقال على منصة "ديوان" التابعة لـ"كارنيغي للسلام" عنوانه "ما التداعيات التي يمكن أن يخلفها تصنيف الولايات المتحدة جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي؟" (2019) آراء عدد من المتخصصين في تيارات الإسلام السياسي، ومنهم زميل أول معهد بروكنغز شادي حميد، الذي قال إن "تصنيف الجماعة تنظيماً إرهابياً سيكون حدثاً جديداً وغير مسبوق، وستكون هذه المرة الأولى التي تعلن فيها إدارة أميركية جهاراً أن ملايين المسلمين إرهابيون"، معتبراً الجماعة "حركة جماهيرية"، لذا اعتبر أن التصنيف من شأنه أن يبدد أي ادعاء بأن للولايات المتحدة مصلحة عابرة في دعم الديمقراطية العربية، نظراً إلى أن جماعة الإخوان المسلمين أو المجموعات المرتبطة بها تكون غالباً أكبر مجموعات تعارض الأنظمة السلطوية وتدعو إلى إجراء انتخابات ديمقراطية.
موقف مشابه عبرت عنه الباحثة الزائرة في معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة "كينغز كولدج" في لندن أليسون بارغيتر، التي رأت أن تصنيف الجماعة إرهابية "سيفسح المجال أمام مزيد من الاستبداد في منطقة غارقة أصلاً في لجج القمع. واقع الحال أن الأنظمة السلطوية كثيراً ما استخدمت التهديد الذي تطرحه الجماعات الإسلامية لتبرير قمعها الخصوم السياسيين"، مشيرة إلى أنه على رغم ميول الجماعة "غير الليبرالية"، فإنها "امتنعت عن اعتماد نهج العنف، مع أنها تواجه كثيراً من التحديات".
"ليست إرهابية"
وتحدث الباحث في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط مارك لينش كذلك عن أن تصنيف الجماعة إرهابية من قبل إدارة ترمب (2019) "يتناسب ونمط إعادة إحياء الأفكار الفاقدة للصدقية والملائمة سياسياً، بغض النظر عن العواقب المحتملة"، مضيفاً أن "المتخصصين يجمعون بصورة صارخة على أن جماعة الإخوان المسلمين ليست تنظيماً إرهابياً"، ومؤكداً أن مثل هذا التصنيف لا علاقة له بالواقع كثيراً، لكن من شأنه أن يخدم المصالح السياسية الداخلية لترمب، ويلعب على وتر مواقف اليمين الأميركي المعادية للإسلام، ويمارس ضغوطاً على منظمات المجتمع المدني المسلمة.
اللافت أن غالب أقلام الباحثين والمتخصصين والمفكرين، التي اعتادت الدفاع عن الجماعة، باعتبارها نموذج الوسطية والديمقراطية ونبذ العنف لا يسمع لها صوت أو يقرأ لها كلمة منذ تحدث وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قبل أيام عن الاتجاه لتصنيفها "إرهابية".
ما يسمع من أصوات معظمه يصب في وصف تصنيف الجماعة "إرهابية" الآن بأنها "خطوة تأخر وقتها" كما جاء في عنوان مقال رأي للكاتب جوش هامر وصاحب برنامج "ذو جوش هامر شو" في مجلة "نيوزويك" الأميركية (أغسطس 2025). كتب "لفترة طويلة جداً، تعاملت الولايات المتحدة مع جماعة الإخوان المسلمين بمزيج خطر من السذاجة والتغاضي المتعمد. جماعة الإخوان ليست حركة سياسية عشوائية بريئة ذات توجه ديني. بصمات جماعة الإخوان واضحة على جماعات جهادية واسعة النطاق كـ’القاعدة‘ و’حماس‘، ومع ذلك فشلت الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية وديمقراطية على حد سواء، في تصنيف فروع الجماعة المختلفة على حقيقتها: منظمات إرهابية". وأضاف، "لنأخذ ’حماس‘ كمثال. ’حماس‘ ليست مجرد حركة مستوحاة من جماعة الإخوان المسلمين، بل هي الفرع الفلسطيني العربي للإخوان"، مشيراً إلى أن "العنف هو الأساس الأيديولوجي للجهادية المعاصرة"، منتقداً تصنيف الخارجية الأميركية "حماس" التابعة لجماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية أجنبية، تظل فروع أخرى من جماعة الإخوان، خارج القائمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتطرق هامر إلى ما وصفه بـ"استراتيجية الإخوان المسلمين ذات الوجهين"، التي يقول إن النخب الغربية انخدعت بها، "ففي الخارج يزرعون بذور الجهاد علناً، ويهتفون للخلافة العالمية، ويدعون إلى تدمير إسرائيل والحضارة الغربية على نطاق واسع، أما في أروقة السلطة في أميركا وأوروبا فهم وداعموهم يرتدون البدلات وربطات العنق، ويعيدون تصوير أنفسهم على أنهم معتدلون ويستغلون سذاجة الإعلام والحماية القانونية المفرطة في سخائها لغرس أيديولوجية سامة".
وبينما ينتظر العالم ما سيؤول إليه تصريح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن اتخاذ خطوات لتصنيف الجماعة "إرهابية"، وتزامن ذلك وتحركات عدة في السياق نفسه، يعتقد الطيبون في دول ضربتها "وسطية" و"ديمقراطية" و"مدنية" جماعة الإخوان المسلمين في ما يشبه المقتل، وفوجئت بدعم شبه كامل للجماعة من الغرب وأميركا مع محاولات مستميتة لإبقائها في الحكم، بأن أميركا قد اكتشفت فجأة حقيقة الجماعة، وأن التظاهرات الشعبية المطالبة بإسقاط الإخوان كانت محقة، أو أنها تنبهت فجأة إلى التقرير الذي كتبه الدبلوماسي البريطاني المحنك، سفير بريطانيا السابق لدى السعودية السير جون جنكينز، الذي قدمه إلى مجلس العموم البريطاني عام 2017، وأكد فيه أن الجذور الفكرية للجماعة تدعم الإرهاب، لكن قوبل بتجاهل وعدم اهتمام.
المؤكد أن تصنيف الجماعة "إرهابية"، سواء جرى اتخاذ الخطوة فعلياً أو اتضح أنها وسيلة ضغط يتم تمريرها إلى "حماس" أو ما شابه، لا يمت بصلة إلى دول ضربها "الربيع"، أو أخرى أصابها هوى خلط الدين بالسياسة. المسألة برمتها تتعلق بأميركا وأولوياتها الداخلية ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في شكله الجديد.
وهنا، تنبغي الإشارة إلى المطالبات المتكررة التي طالب فيها السيناتور الجمهوري تيد كروز لاتخاذ إجراءات صارمة ضد جماعة الإخوان المسلمين، وتصريحاته الصحافية التي قال فيها إن "الجماعة تستخدم العنف السياسي لتحقيق غايات سياسية وزعزعة استقرار حلفاء أميركا، سواء داخل الدول أو عبر الحدود الوطنية".
يُعتقد أن الرئيس باراك أوباما كان داعماً لجماعة الإخوان لحب أو ود أو قناعة، وهي تفسيرات شعبوية عاطفية. إدارة أوباما بدت قادرة أو راغبة أو مائلة أو كل ما سبق للتعامل مع جماعة الإخوان، وربما دعمها في وقت شهدت فيه الجماعة شعبية وانتشاراً في دول مثل مصر واليمن وليبيا وسوريا، وذلك في خضم ما يعرف بـ"الربيع العربي". وربما أراد أن يستخدم الجماعة لإدارة الفوضى أو تأجيلها، بدلاً من مواجهة الفوضى المتوقعة. ويضاف إلى ذلك علاقة أميركا في ذلك الوقت بتركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، التي توصف بـ"الراعي العالمي للجماعة". أما إدارة الرئيس بايدن فلم تنشغل بالأمر كثيراً. واليوم، تواجه إدارة الرئيس ترمب الأمر، إذ دوافع أو حتى التهديد بالتصنيف "إرهابية" كثيرة، ويبقى قوس التصنيف مفتوحاً.