ملخص
يؤكد المزارع الستيني أنه لم يترك أرضه حتى في أقسى ظروف الحرب، والتي استمرت على مدى عقد من الزمن "لم ولن أفرط بأرضي"، يلقي بجملته تلك بثقة رجل معمر يشبه كثيراً أشجار الحور والفستق والجوز الممتدة جذورها عميقاً في الأرض.
يرتشف "أبو عبدو"، وهو لقب المزارع عماد سرماني من مدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي، فنجان قهوته أثناء جلوسه في شرفة بيته المطلة على مزرعة مزدانة بالخضرة، تتدلى منها عناقيد ثمار الفستق الحلبي. يشعر بالرضا عن جهده طوال عام كامل من حراثة وري الأشجار ومكافحة الآفات الحشرية التي أخذت تنتشر في منطقته خلال السنوات الماضية.
يسابق الرجل الزمن بالتجهيز لما يسمى "الحواش"، أي قطف ثمار مزرعته، لقد جهز الأدوات اللازمة، وتعاقد من العمال المناسبين للقطاف، وسبق ذلك نشره لحراس يحاوطون الأرض منعاً لأي دخيل أو لص، وكيف لا وهذه الأشجار تحمل بين أغصانها "الذهب الأحمر"؟
يؤكد المزارع الستيني أنه لم يترك أرضه حتى في أقسى ظروف الحرب، والتي استمرت على مدى عقد من الزمن "لم ولن أفرط بأرضي"، يلقي بجملته تلك بثقة رجل معمر يشبه كثيراً أشجار الحور والفستق والجوز الممتدة جذورها عميقاً في الأرض.
"سافرت مع اشتداد الحرب خارج أرضي، ولكني سرعان ما عدت إليها، لن أتخلى عنها أبداً". ويتابع مزارع الفستق الحلبي عمله بعد سفر أولاده خارج البلاد إلى ألمانيا ودول عربية عدة بغية الدراسة والعمل، بينما ما زال يعمل في زراعة الفستق، "إنها كنز" بحسب وصفه، ولكن هذا العام تغيرت الأحوال، وضرب الجفاف المحصول بقسوة.
يقودنا المزارع سرماني في مزرعته المترامية الأطراف، لقد عانى كثيراً من قربه من مناطق سيطرة النظام السابق، وما صاحب ذلك من عمليات "تشبيح"، كما مارست الحواجز المنتشرة، وبخاصة الفرقة الرابعة، أبشع أنواع السرقة والنهب على كافة المزارعين، وفرضت عليهم الإتاوات. لكن واقع الحال تغير اليوم بعد التحرير في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، إذ باتت تتدفق السيارات التي تنقل الإنتاج إلى الأسواق الكبيرة في دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية.
الحشرة القاتلة
في غضون ذلك يتحدث أحد مشرفي العمل في سوق الفستق الحلبي عبد الباسط دليل، عن انخفاض عمليات البيع والشراء إلى مستويات غير مسبوقة مقارنة بالسنوات الماضية، حيث تتراوح أسعار المادة بحسب النوع، وكلها يناهز 6 دولارات للكيلو الواحد، في حين يرغب المزارعون والمسوقون في الاتجاه نحو التصدير الخارجي، حيث يباع في الأسواق الخارجية بـ 20 إلى 30 دولاراً.
يروي أحد مزارعي ومسوقي ثمار الفستق الحلبي التقيناه خلال وصولنا إلى سوق الفستق "عانينا من الجفاف الذي ضرب سوريا وتأثرت به أشجار الفستق الحلبي تأثراً كبيراً، والناس بدأت تبحث عن حلول".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول المسوق، إن من كانت لديه إمكانية حفر الآبار فقد نجا وسقى إنتاجه، مردفاً "انتشر مرض (الكابندوس) و(الزيات) لينخفض الإنتاج عن باقي السنين وفق التقديرات من 20 إلى 30 في المئة، وعلى رغم ذلك فإن كميات السوق المحلي كافية، لكن سوريا من البلدان المصدرة للفستق الحلبي، ونتمنى أن تكون هناك تسهيلات في التسويق والجمارك والبيع".
وحشرة "الكابندوس" تمر بفترات ظهور تمتد من أبريل (نيسان) حتى أغسطس (آب)، بينما تقضي بياتها الشتوي على شكل حشرات بالغة في النباتات الكثيفة، أو تحت الأوراق الساقطة، وتضع البيض بمعدل 30 بيضة في قاعدة الساق، أو في التشققات الموجودة في فروع الشجرة، وحين يفقس البيض خلال شهرين تخرج اليرقات وتباشر بعدها الحفر في مناطق الإصابة إلى داخل شجرة الفستق.
يحكي المزارع من مدينة صوران في ريف حماة محمد سعيد، عن الجفاف الذي أصاب أراضي بلدته صوران "لقد عانت أشجار الفستق من هذه المشكلة حتى تيبست، فضلاً عن انتشار الحشرات مثل (الكابندوس) بعد انقطاع المزارعين عن أراضيهم بوجود النظام البائد".
من جهته بث الرئيس العام لاتحاد غرف الزراعة في سوريا المهندس محمد كشتو، تطمينات عن تقديرات شخصية بارتفاع الإنتاج، لاسيما مع استمرار عمليات قطف الثمار حتى منتصف شهر سبتمبر (أيلول) الحالي. وأكد لـ "اندبندنت عربية" تأثر المزروعات بالجفاف في سوريا، ومن ضمنها الفستق الحلبي، وأعطى تطمينات بأن الفستق موسم (معاوم) بمعنى أنه يحمل عاماً ويقلّ الإنتاج في الموسم الذي يليه، ليعود الإنتاج بالمواسم التي تتلو هذين الموسمين.
وأضاف "من المتوقع ارتفاع الإنتاج بين 50 إلى 55 في المئة، وهو محصول مهم للاقتصاد، إذ يتم تصديره، كما يدخل في صناعة الحلويات، وتنتشر زراعته في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي بشكل أساسي، وفي ريف حلب، وبمساحات قليلة في حمص والسويداء، ويتحكم العامل المناخي بانتشار زراعته".
في المقابل ينظر المزارعون والمسوقون للفستق الحلبي إلى التصدير بغية تعويض الخسارة التي تكبدوها نظراً إلى تراجع الإنتاج، والكلف العالية بالنسبة إلى استخدام الأسمدة والكهرباء والمازوت، مع تخوف من انخفاض إنتاج العام المقبل بسبب الجفاف.
يقول المزارع "أبو عبدو" وهو يمسك غصن شجرة "إنها من الأشجار الحاملة لثمار الفستق الحلبي، وثمارها لن تحمل للسنة القادمة لأنها تساقطت بسبب الجفاف، عادة لابد أن يوجد بين 5 و10 في المئة من الثمار، لقد أصابها التيبس، ومنها يمكن أن نتوقع موسماً ضعيفاً للسنة القادمة"
قصة الفستق
وشجرة الفستق من الأشجار المهمة في حوض البحر المتوسط، ويعود أصلها إلى آلاف السنين، حيث كانت تزرع في جهات مختلفة من مناطق البحر المتوسط المعروفة بخصوبة وتنوع مناخها الأكثر ملائمة للزراعة.
وتشير المصادر التاريخية إلى موطنها في سوريا شمالاً بمحافظات المنطقة الشمالية والوسطى (حلب، وحماة، وإدلب)، وظلت شجرة الفستق الحلبي تحتل مكانة خاصة في الثقافات والحضارات القديمة عبر التاريخ، ويعود أقدم دليل على استخدام الفستق الحلبي إلى العصر البرونزي في حوض المتوسط، وتحديداً في حلب شمال سوريا، ومن ثم أدخلت إلى أوروبا بواسطة الرومان في القرن الأول الميلادي بعد جلبها من سوريا.
وكما تركت شجرة "الذهب الأحمر" انعكاساً اقتصادياً، وحققت مكسباً زاد من الدخل القومي، وأفسح المجال أمام المجتمعات في القطاع الزراعي للعمل على تصدير المادة وتوفير العملة الصعبة، دخل الفستق الحلبي في استخدامات واسعة بالصناعات الغذائية كالحلويات والأطعمة الغذائية ليضفي نكهة مميزة على الأطباق، وكذلك استخدم للمعالجة الصحية والطبية.