ملخص
تلتقي "اندبندنت" عائلة كولينز للتعرف عن كثب على النفوذ المتنامي لزوجين غريبي الأطوار من دعاة "النزعة الإنجابية" في ريف بنسلفانيا، اللذين نسجا علاقات مع ترمب وماسك وجماعات سرية، مستغلين ثورة الذكاء الاصطناعي والثقافة اليمينية الجديدة للتأثير في السياسات الأميركية على رغم مظهرهما الهامشي.
في ريف بنسلفانيا، أشق طريقي داخل الغابة برفقة سيمون ومالكولم كولينز، ونناقش الأمر التنفيذي الذي كتباه لدونالد ترمب. خارج حدود منزلهما- خلف قن الدجاج الذي يجمعان منه البيض لصناعة الكعك المنزلي، والجزء المسيج من الحديقة حيث يلهو البروفسور، وكلبهما الذي ينتمي إلى فصيلة كورغي- تقع غابة، ونهر صغير وبعض مسارات المشي السهلة. إنه يوم جميل في آخر الربيع، وتبدو أجواء الخضرة وزقزقة العصافير أبعد ما يكون من واشنطن. ومع ذلك، يتمتع كل من سيمون ومالكولم بنفوذ مستغرب داخل إدارة ترمب، وقد أتيت لأعرف بالتحديد كيف حصل ذلك.
فيما نتكلم ونمشي، تشتد حرارة الجو. يشير مالكولم إلى مدخل منجم ولى زمن استخدامه يقع داخل العقار، ويأخذنا إلى مكان أبعد كي يرينا ما تبقى من سكة الحديد المهجورة التي تصل إلى المنجم. تقترح سيمون علينا العودة للبيت الريفي الحجري لتناول بعض من شراب الليمون المنزلي. هي حامل بطفلهما الخامس، أما طفلتهما الرابعة، إندستري أميريكوس، فتحملها على ظهرها في حمالة الرضع. وهي تعاني بعض الصعوبة في السير، لكن مالكولم يصر على إكمال المسير قليلاً بعد، ويروقه أن يستعرض المناظر الطبيعية.
وتبين في النهاية أن القرار التنفيذي- "منح أوسمة أمومة للسيدات اللاتي ينجبن ستة أطفال أو أكثر"، وهو القرار الجدلي الذي أثار جلبة كبيرة حديثاً - كتبته سيمون، مستعينة قليلاً بالذكاء الاصطناعي. وتشرح لي أن مالكولم ينظم جدول مدونتهما الصوتية التي يذيعانها خمسة أيام في الأسبوع، فيما توكل إليها مهمة صياغة معظم إنتاجهما المكتوب. وأقول لهما إنه من المنطقي بالنسبة إلي أن تكون سيمون هي صاحبة القرار في مسألة الأوسمة. فهي، في النهاية، التي تحمل الأطفال. ويبدو لي أنها الأكثر تمسكاً برأيها في ما يتعلق بعدد الأطفال الذين يستحق إنجابهم الحصول على ميدالية، ولا شك في أنها لم تكن لتقرر خمسة أطفال بما أنها أنجبت هذا العدد بالفعل.
وتضحك ثم تقول "هذا صحيح، كان ذلك ليناسبني جداً". وتقول إنها تفترض أن ستة أطفال يشكلون "هدفاً" شخصياً، لذلك ربما أثر ذلك في القرار. لكن طبعاً، هدفها الحقيقي هو 14 طفلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشكل الزوجان كولينز جزءاً من حركة صغيرة متنامية تعرف باسم "النزعة الإنجابية" [حركة مشجعة على الإنجاب] - المؤمنين بأنه من واجب المجتمع أن يشجع بصورة فاعلة على إنجاب الأطفال سواء من خلال تقديم حوافز أو ممارسة ضغط ثقافي تجنباً لانهيار الحضارة. لكنهما ليسا متدينين ولا يؤيدان إرغام الآخرين على الإنجاب عن طريق إلغاء الحقوق الإنجابية أو دفع الرشاوى المباشرة. بل هما مؤسسان سابقان لشركات تكنولوجيا مقرها في وادي السيليكون يستخدمان التحليل الجيني لأجنة التلقيح الصناعي، في محاولة لاختيار الأجنة التي تحمل صفات وراثية مفيدة.
ويدور جدل حول ما إذا كان الزوجان - بنظارتهما العريضة ذات الإطار السميك وميولهما إلى الآراء الحادة - مجرد غرباء أطوار على الهامش أم معلقين جديين، لكن المؤكد أنه ما إن تنبش قليلاً في شبكة علاقاتهما السياسية، يتضح أنهما يتمتعان بنفوذ واسع بالنسبة إلى من يفترض أنهم غرباء على الهامش.
فكيف يتمكن زوجان يؤيدان كثرة الإنجاب ويعيشان في الريف من إيصال عملهما إلى مكتب دونالد ترمب؟ لا يحب الزوجان كولينز الخوض في تفاصيل الموضوع، لكن بعد القليل من البحث، يتبين أنه لديهما نقاط اتصال عدة بالإدارة الحالية. أولاً، يعمل مايلز، شقيق مالكولم، في "وزارة الكفاءة الحكومية" التي أسسها إيلون ماسك التي ليست وزارة حقيقية، بل هي عبارة عن مجموعة من الأفراد الذين اختارهم ماسك بنفسه (هو الذي غادر الإدارة أخيراً وأهان ترمب على الملأ، ثم تراجع عن كل ذلك)، يعملون داخل كل قطاع من الحكومة بصفتهم مشرفين عليه. مايلز وزوجته بريتاني هما أيضاً من مؤيدي "النزعة الإنجابية"، لكنهما يتكتمان على حياتهما الخاصة أكثر من سيمون ومالكولم بكثير: ولم يؤكداً أبداً عدد أطفالهما علناً. كما أنهما رائدا أعمال، مثل مالكولم وسيمون، وقد أصبحا حديثاً شريكين في مجموعة من عيادات الخصوبة.
هذا قاسم مشترك بين العاملين في وزارة الكفاءة الحكومية، الذين يجمعهم أكثر من شغفهم بالكفاءة في العمل. ولا بد أن يكون ماسك قد أصبح أشهر مناصر للإنجاب على وجه البسيطة في هذه المرحلة بعد تصريحاته العلنية على مدار سنوات عديدة في شأن إيمانه بأنه لزام عليه أخلاقياً أن ينجب أكبر عدد ممكن من الأطفال. بعد أسابيع قليلة من ولادة طفله الأول، كتب نائب المتحدث باسم البيت الأبيض والمتحدث باسم وزارة الكفاءة الحكومية هاريسون فيلدز، تحية لزوجته بمناسبة عيد الأم، قال لها فيها "فلنواصل تأسيس عائلة فيلدز خاصتنا، كلما زاد عدد الأطفال الذين يدعونك ماما، كان ذلك أفضل".
ثم لدينا جي دي فانس الذي اعتبرت ملاحظته حول "سيدات القطط اللاتي لم ينجبن" زلة في يوم من الأيام، فيما أصبحت اليوم أقرب إلى غمزة سياسية من قناة جمهور معين. يتكلم الأب لثلاثة أطفال منذ سنوات عن رغبته "بزيادة عدد الولادات في أميركا"، وقد كون خلال فترة عمله القصيرة في الاستثمار في وادي السيليكون - الذي كان في يوم من الأيام معقلاً للقيم الليبرالية فيما يتحول بصورة متزايدة نحو اليمين - صداقات مع أشخاص في مناصب رفيعة جداً. وقد حضر كل من الرئيس التنفيذي لـ"ميتا" مارك زوكربيرغ، والرئيس التنفيذي لـ"أمازون" جيف بيزوس، والرئيس التنفيذي لـ"غوغل" سوندار بيشاي، حفلة تنصيب ترمب الثانية في يناير (كانون الثاني).
يسود شعور متزايد لدى كثيرين بأن عصر حركة "ماغا" الشعبوي الصريح يشارف على نهايته، ويأمل بعضهم أن ينبعث من رماد ولاية ترمب الثانية يميناً جديداً يعتمد على التكنولوجيا ويناهض حركة "اليقظة" الاجتماعية، ويكون جاهزاً لقيادة أميركا، على أن يتقدمه جي دي فانس ويموله أمثال [بيتر] ثيل وماسك. وهذا ما قد يفسر الخلاف الذي وقع بين ماسك وترمب بعد فترة قصيرة من مغادرة ماسك البيت الأبيض منذ أسابيع معدودة، وقد يفسر كذلك صمت فانس اللافت إزاء الخلاف بين الاثنين.
الابن الضال
تأخذني سيمون في جولة داخل منزل العائلة وتلفت نظري إلى مختلف الأماكن التي سيتسنى للأطفال الـ14 أن يرقدوا فيها إن استطاعت أن تنجبهم كلهم، في الوقت الحالي تنام هي على سرير بأربعة أعمدة صنع من الخشب الداكن ورتب بعناية وقد وضعت عليه بياضات باهظة الثمن. وضع في الزاوية مهد مع أن إندستري تنام عادة على سرير سيمون. أما الأطفال الثلاثة المتبقون - أوكتافيان جورج (وهو صبي) وتورستن سافاج (صبي) وتايتن إنفكتوس (فتاة) - فينامون في سرير بثلاثة طوابق في الدور السفلي. وفي خزانة أسفل الدرج، حشر سرير مزدوج علقت فوقه ثلاثة أزواج من سماعات حماية الأذنين. أحياناً، يضعون أوكتافيان هنا، كما يقول مالكولم، لأنه يعاني نوبات غضب.
ينسجم الديكور بصورة عامة مع طابع المنزل القديم - من لوحات لأفراد المنزل، ومفرش طاولة نقشت عليه حبات الليمون- مع بعض القطع المتفرقة من الرموز الأميركية (أعلام كبيرة وبندقية "إي أر 15" معلقة على الحائط). كل الغرف نظيفة جداً ما عدا غرفة نوم مالكولم التي يغلق بابها على عجل عندما يقع نظرنا عليها. حشرت معدات التصوير والصوت الباهظة الثمن والمخصصة للمدونة الصوتية في إحدى زوايا الغرفة، فيما انتشرت على بعض الأسطح وعلى جزء من الأرض علب فارغة وأغلفة أطعمة مستعملة، وعلقت شاشة ضخمة فوق السرير غير المرتب.
يشرح لي مالكولم أنه كثيراً ما كان "الابن الضال". في إحدى المرات، فصل من المدرسة موقتاً وأرسل إلى إصلاحية للأحداث أقرب إلى الإصلاحية التي تصورها رواية الحفر Holes [رواية شبابية من تأليف لويس ساكار]، حيث يودع الطلاب الذين يشكلون تهديداً. وما حصل فعلاً عندها كما يقول هو "أنني كنت أصنع المتفجرات في الحديقة الخلفية، وأصنع ما يشبه المطواة" كما يفعل صبية كثيرون في ريف تكساس. انتشر الخبر ووجد نفسه في النهاية في مكتب مدير المدرسة الذي قال له "يساورنا قلق حقيقي من الأشياء التي تصنعها لأنك قد تستخدمها لقتل طلاب آخرين أو ما شابه". ويضحك مالكولم قائلاً "شعرت بالذهول، ثم غضبت كثيراً وقلت له: أنت تهينني! فتلك طريقة غير فعالة جداً لقتل الطلاب! فلو أردت قتل الطلاب الآخرين، كنت لأفعل كيت وكيت".
لكن المدرسة لم تتقبل أبداً هذا التفكير التفصيلي الحرفي، ووالدا مالكولم لم يتقبلا أبداً رد فعل المدرسة. وأرسلا ابنهما إلى مكان تسميه سيمون "معسكر اعتقال" وبعده إلى مدرسة داخلية، ولم يعد الشاب إلى المنزل العائلي أبداً بعد سن الـ13. عقب قضائه أسابيع في الإصلاحية، أدخل المستشفى للعلاج من سوء التغذية، إذ لم يتخط وزنه 41 كيلو، فيما بلغ طوله أكبر من 182 سنتم. وتقول سيمون "حاول بعضهم قتله في معسكر الاعتقال ذاك".
تبدو هذه التنشئة قاسية وتجربة صادمة. هل يكن مالكولم أية ضغينة لعائلته لأنها عرضته لهذا النوع من التجارب؟ يسارع بالنفي. في النهاية، ها هو بأفضل حال. ويقول إن "الثقافة الحضارية الأحادية" [الثقافة السائدة في المدن الكبرى التي تفرض نمطاً فكرياً واحداً وتقصي الآراء المخالفة] تحاول أن "تدفع الأشخاص إلى الانقلاب على شبكة دعمهم الطبيعية، أي الثقافة التي ولدوا عليها وعائلتهم، وتحاول إقناعهم بأن يستشيروا المعالج النفسي، ويقولوا لهم، ماذا فعل لكم والديكم؟ أية صدمة نفسية عانيتم منها مع والديكم؟ أعتقد أن القوى الشريرة لن تكف عن محاولة الاستفادة من حملنا على لوم والدينا على بعض الأمور، ولا أعتقد أنه من الجيد بالنسبة إلي أن أكون مثالاً على ذلك أمام أطفالي. مثلاً، لو أخذت أقول والداي فعلا هذا وذاك، ما المانع من أن يقلدوا هذا الأسلوب، كما أفعل؟ أعتقد أنه علينا أن ندرك بأن الآباء يحاولون عادة تحقيق المصلحة الفضلى لأبنائهم. وكلما خدعونا كي نصدق أي شيء غير ذلك، يصبح من الأسهل أن نضلل ثقافياً".
لكن ما يعتبره مالكولم "ثقافته الأم" مسألة معقدة بعض الشيء، تخرج سيمون كوباً مزخرفاً من خزانة المطبخ وتريني إياه: كان ملك جد مالكولم عندما كان في الكونغرس. فيما أقلب الكوب في يدي يخبرني مالكولم أنه ينتمي إلى "التقاليد الثقافية لمنطقة أبالاشيا الكبرى" [تيار ثقافي أميركي]، إذ "تنهمك في الصغر بتفجير الأشياء، من المفترض أن تفجر ألعاب الجنود الصغار وتصنع متفجرات وتصنع قاذفات لهب. في هذه الثقافة، هذا دليل على إبداعك وحيويتك". إنها ثقافة عمادها المهووسين بالشاحنات ومصارعة الوحل، كما يضيف، وهي ثقافة قائمة على المساواة بين الجنسين: بطلات مصارعة الوحل مثلاً يحظين باحترام كبير في المجتمع المحلي.
على رغم محاولته سرد قصة بداياته بطابع أبالاشي، من الواضح أن مالكولم - الذي ترعرع في تكساس - أقرب إلى روبرت كينيدي الابن مما هو إلى جي دي فانس، ففي هارفارد مبنى مستدير يحمل اسم عائلة كولينز، وهو دليل ملموس على كمية الأموال التي تبرعت بها عائلة مالكولم للجامعة عبر السنوات. شغل عمه سابقاً منصب الرئيس التنفيذي لمصرف الاحتياط الفيدرالي في دالاس. وفي الواقع، لقد ارتاد كل قريب له تقريباً إحدى جامعات النخبة في البلاد وإما يترأس شركة ناشئة ناجحة أو يعمل في الحكومة. أما الاجتماعات العائلية فهي مساحة للتحفيز الفكري والمنافسة الشرسة في الوقت نفسه. ويقول مالكولم إنه عندما حصل على قبول لدخول كلية إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد، اتصل بوالده في لحظة حماسة شديدة وفخر كبير ليخبره بالنبأ، فرد عليه والده ببرود "لا بد أن معاييرهم تراجعت فعلاً".
جمعيات سرية وخلوات غير رسمية
لن تصادف هيمنة أفراد من عائلة كولينز في المناصب الرفيعة للقطاعين العام والخاص فحسب، بل إن حالفك الحظ والمكانة الاجتماعية، ستصادفهم أيضاً في العالم السفلي للجمعيات السرية الأميركية، وهو عالم يهتم به مالكولم وسيمون بصورة خاصة.
عملت سيمون في إحدى المرات مسؤولة إدارية لجمعية ديالوغ السرية Dialog التي يشارك في إدارتها الملياردير بيتر ثيل، مؤسس باي بال وبالانتير. وهي تجربة تصفها بأنها "فتحت عينيها". حدث ذلك عام 2020 حين كانت ومارك يبحثان عن عمل، لكن "بما أنه رجل أبيض، فلم يكن ليجد عملاً عام 2020 بالطبع"، كما تقول. "حتى الأشخاص الذين تكلموا معه بصراحة قالوا له: لا يمكننا توظيف أحد بمواصفاتك في الوقت الحالي"، لكن الحظ حالف سيمون: فقد وردها اتصال بعدما تقدمت بطلب للعمل بوظيفة تبدو مثيرة للاهتمام عبر منصة اسمها "سكاوتد" Scouted.
تختار جمعية ديالوغ المرشحين الذين ترغب بالعمل معهم، بناء على حجم ثروتهم ونفوذهم، وتدعوهم لقضاء خلوات غير رسمية لمناقشة مستقبل أميركا.
وتقول سيمون باسمة "حتى في عالم الجمعيات السرية أو الجمعيات التي لا يمكن الانضمام إليها سوى بدعوة ولقاءات فكرية، تعد [ديالوغ] الأكثر تكبراً وحصرية. لقد دونت سابقاً معايير التأهيل للانضمام إليها، وأعرف أنهم أصبحوا أكثر صرامة في هذا الشأن".
كان في المنظمة مستويان: "ديالوغ للشباب" وديالوغ العادي، "وفي ذلك الوقت كانت المشاركة في ’ديالوغ‘ للشباب- وأنا متأكدة أن حضور الاجتماع أغلى ثمناً اليوم- تكلف 6 آلاف دولار أو ما شابه" لقاء خلوة تمتد ثلاثة أيام في مقابل "نحو 15 ألف دولار للمشاركة في اجتماعات ديالوغ للبالغين"، كما تقول. تعقد خلوات ديالوغ في مناطق منعزلة وسط صحراء ولاية يوتاه، وهي "تتطلب تفاعلاً كبيراً"، أي أنه يتوقع من الجميع المشاركة في النقاش والحديث، "مما يعني أنهم قد يطردونك لعدم المشاركة". يعين شخص لإدارة كل حوار وقد يكون موظفاً في "ديالوغ" أو مشاركاً بعض الأحيان، ويقع على عاتق مدير النقاش "أن يقيم أداء كل مشارك". في النهاية، تجمع التقييمات ومن يحصدون أقل تقييم يطردون فوراً. وتضيف سيمون "هم على استعداد لطرد أشخاص حتى وسط الفعالية، وهؤلاء أشخاص دفعوا 15 ألف دولار للمشاركة".
ترى سيمون أن هذه المعايير قد تكون قاسية بعض الشيء، لكن مالكولم يراها معقولة تماماً. ويقول "إن السبب الرئيس الذي قد يتسبب بطردك هو إن (حاولت) وضع حد للنقاشات الجدلية بقولك: لا يمكنك الحديث بهذه الطريقة، أو هذا الأمر مهين، أو سأجعلك تشعر بالعار"، مضيفاً أن الثقافة الحضارية الأحادية تستخدم هذا الأسلوب دائماً في العالم الأوسع، ويعتقد أنه من العدل طرد أحدهم إن تصرف بهذه الطريقة "لأن الأشخاص كانوا يمنعون إجراء حديث مفتوح وصريح".
كيف يمكن لأي أحد أن يسترعي انتباه طاقم "ديالوغ" ويتلقى بالتالي دعوة إلى المشاركة في الخلوات التي يقيمونها في المقام الأول؟ تتحدث سيمون عن وجود "عوامل متنوعة" قد تجلب لكم دعوة، ومنها: "هل جمعت شركتكم الناشئة أكثر من 50 مليون دولار؟ هل لديكم 500 ألف متابع على وسائل التواصل الاجتماعي إضافة إلى تأثير ضخم في الإعلام، أو هل أنتم مشهورون دولياً بدفاعكم عن قضايا معينة؟ كم مقالة كتبت عنكم؟" وتضيف أنه لا بد من تحقيق بنود عدة من هذه القائمة لتتمكن من الحضور، حتى إنها هي ومالكوم لم يعودا يستوفيان الشروط، ويوضح مالكوم: "إذاً هي نخبوية جداً".
وليس غريباً أن يعرف ذلك، فأسرة كولينز كثيراً ما كانت على صلة بجمعيات سرية، إذا صدقنا الإشاعات. فالعام الماضي، تصدر "النادي البوهيمي" The Bohemian Club العناوين، وهو جمعية سرية أعضاؤها من الذكور حصراً تدير الخلوة السنوية تسمى "غابة البوهيميين" Bohemian Grove، وقد ضم أعضاؤها بعض الرؤساء الأميركيين. وقد ذكرت التقارير عندها أن القاضي كلارنس توماس، أحد أعضاء المحكمة العليا، قد حضر برفقة صديق ملياردير، ويقال إن عراب مالكولم أيضاً كان عضواً مرموقاً في الجمعية.
غير أن خلوات مثل "غابة البوهيميين" - وغالباً ما يشار إليها على أنها "مخيم صيفي" للأثرياء والأقوياء - أخذت تخبو تحت ظل بدائل أكثر جرأة وغرابة. وأشهرها "هيرتيكون" Hereticon، بمؤتمرها السري السنوي المعروف بـ"حفلة نهاية العالم" The Apocalypse Ball، الذي يمكن للراغبين في حضوره التقدم إليه عبر استمارة "غوغل دوك" Google Doc. ومن بين أسئلة الاستمارة: "أي نهاية للعالم تركز عليها حالياً (في مسعى إلى تحقيقها أو منعها)؟".
ويقول مالكولم إن "هيريتيكون"، "أفضل جمعية سرية في العالم أجمع الآن". نقل مشاركون سابقون عن "حفلة نهاية العالم" أنها تشمل فعاليات من نوع الحصول على وشم فوراً أو اصطحاب جنين ضفدع معدل وراثياً معكم إلى المنزل (يسمح لكم بإدخال تعديل جيني غريب عليه مثل التوهج الحيوي أو البرص أو جين يجعل حجم الضفدع كبير جداً بمساعدة عالم موجود في المكان) أو حضور ندوات غير رسمية بمشاركة متحدثين تعرضوا "للإلغاء الثقافي" أو "منبوذين بسبب عقيدتهم" من المجتمع العام.
فإذا كانت "غابة البوهيميين" معسكراً صيفياً للرجال بالبدلات الرسمية يستدعي مشاعر الحنين، فإن "هيرتيكون" عالم صاخب ومليء بالألوان يلهو فيه الأثرياء المتنفذون الذين يصرون على تقديم أنفسهم كمن هم على الهامش. يحظى "هيريتيكون" بدعم مالي من صندوق "فاوندرز" الاستثماري Founders’ Fund، الذي يملكه بيتر ثيل، وهو يستضيف حوارات حول قضايا مثل السبيل لتحقيق الخلود و"البشرية المطورة" (أي الارتقاء بقدرات جسم الإنسان من خلال تزويده بالروبوتات وغيرها من التكنولوجيا) والأجسام الطائرة المجهولة الهوية. في عام 2022، نشرت غرايمز- الفنانة الموسيقية ووالدة ثلاثة من أطفال إيلون ماسك- صورة سيلفي لها من "هيريتيكون"، إذ كان من الظاهر أنها قدمت فقرة تنسيق موسيقي غير متوقعة ذلك العام، كما فعلت مطلع عام 2024.
هل حضر أغنى رجال العالم شخصياً هذا اللقاء؟ يبدو ذلك مرجحاً لكن سيمون ومالكولم يتحفظان على أي خبر يتعلق بماسك. في مطبخ منزلهما الحجري الواسع ذي السقف المنخفض، تبحث سيمون عن وصفة لصناعة كعكة الليمون ثم تبدأ بتحضيرها فتستخدم دقيقاً من كيس ضخم وبيضاً من قن الدجاج في الخارج. تغفو إندستري على ظهر سيمون، وهي تقبض على لعبة وجدتها خلال تجوالنا البطيء بين الغرف قبلاً. وضع علم صغير كتب عليه "ترمب 2025" في مكان ظاهر في مزهرية فوق البراد، فيما يلعب مالكولم بكرة أطفال فيجعلها ترتطم بالأرض وترتد عنها مراراً وتكراراً وهو يصف كيف يرى نفسه بطلاً خارقاً يحارب ثانوس [شخصية شريرة خيالية] عندما يواجه الثقافة الحضارية الأحادية.
ويتأرجح الثنائي بين ملاحظات حول الحياة المنزلية وتعليقات سياسية: تخرج سيمون صورة بالأسود والأبيض لأصحاب المنزل تعود للقرن الـ19، ويتحدث مالكولم عن المتحولين جنسياً واستيلائهم الظالم على النقاش في شأن مجتمع الميم وتهميشهم "المثليين العاديين"، وسيمون تصف كيف تعرضت لغسيل دماغ من التفكير الليبرالي بعدما نشأت في كاليفورنيا، وكيف ساعدها مالكولم في رؤية ذلك خلال حديث انفعالي أجرياه في موعدهما الأول، وينظر مالكولم من النافذة، ويشير بيده إلى مشروع يدوي الصنع عليه العناية به في الخارج. تعتمر سيمون غطاء رأس أبيض اللون شجعها مالكولم على وضعه بعد وصولنا، لأنهما يحبان استفزاز الآخرين بالمغالاة بلبس ثياب على نمط الزوجة التقليدية، يرتدي مالكولم قميص بولو وبنطلون جينز.
تقدم لنا سيمون مياهاً معدنية، فيما يخرج مالكولم صندوقاً فيه ست زجاجات جعة كورز لايت لنفسه، ويبدأ باحتساء الأولى. أقول لهما إن ما يزعجني هو أنه على رغم علاقاتهما المختلفة مع أشخاص في مراكز مرموقة، ما زلت لا أفهم تماماً كيف وصلت مسودة القرار التنفيذي إلى مكتب ترمب. يقول مالكولم بصورة قطعية أنه لا يجري مع شقيقه "حوارات مهنية". ويذكر أن صحيفة "نيويورك تايمز" انتقدت فكرتهما في شأن أوسمة الأمومة وبالتالي ضخمتها، لكن قدرة الصحيفة محدودة، كما أقول له. ماذا عن إيلون ماسك؟ إنه مناصر بارز جداً لقضية الإنجاب. حين تداولت التقارير موضوع الأمر التنفيذي، كان يقضي كل أيامه في البيت الأبيض، هل تجريان أي أحاديث معه؟
ينقلب المزاج في الغرفة فوراً، يحدق مالكولم بالأرض ويقول في النهاية "لم يمول منظمتنا أبداً، وكثيرون يعتدون أنه فعل ذلك، هذا كل ما يمكنني قوله عن الموضوع".
أحاول أكثر، فأقول إنني لا أسأل عن تمويل قضايا مناصرة الإنجاب، بل فقط عن قضية مناصرة الإنجاب باعتبارها غاية سياسية من دون إدخال المال في الموضوع، فهل جلسا يوماً للدردشة مع إيلون ماسك في هذه القضية؟
يخيم الصمت من جديد، ويكرر مالكولم وعيناه لا تبارحان الأرض "ما يمكنني أن أقوله هو أنه لم يمولنا".
ألتفت إلى سيمون التي تجلس الآن في زاوية واضعة إندستري على حضنها، وأقول "أعتقد أنني أفهم ما تقوله"، ثم تتلاقى نظراتنا وتبتسم، هذا ليس إنكاراً صريحاً، لكنه يُبقي الباب مفتوحاً للإنكار.
تغيير المجتمع عن طريق الذكاء الاصطناعي
تمتلك سيمون وزوجها مالكولم منزلاً صغيراً آخر ضمن العقار يعيش فيه جيرانهم من دون مقابل مادي، لكن بشرط أن يساعدوهما يومياً في رعاية الأطفال. لكن حتى بوجود مساعدة قريبة، ما زالت تربية الأطفال أمراً صعباً. أوكتافيان وتورستن يعانيان التوحد، ولكل واحد منهما تفضيلات صارمة في شأن الطعام، وهما يتبعان نظاماً غذائياً محدوداً ويمكن أن يتحمسا أكثر من اللازم بسهولة. معظم الأحيان، يتناول كل شخص في المنزل وجبة مختلفة عن الآخرين، كل في غرفة مختلفة.
لدى الزوجان كولينز أصدقاء من بين أفراد حركة "النزعة الإنجابية"، وهم أشخاص لديهم عائلات كبيرة مثلهما، ويمكنهما تبادل النصائح معهم. في إحدى المرات، سأل مالكولم إحدى تلك العائلات كيف تتعامل مع الوضع عندما يبدو أن الطفل يعاني، فيرفض أن يأكل أي شيء مثلاً ما عدا الرز الأبيض بسبب اضطراب في المعالجة الحسية. ما السبيل لتخفيف القلق؟ ويقول إن الإجابة كان جديدة "أنجب مزيداً من الأطفال ببساطة!"، ذكره ذلك بأن هذه الضغوط المعاصرة لم تكن لتؤرق بال أجداده أبداً، وأن الأطفال يعالجون الأمور من تلقاء أنفسهم في كثير من الأحيان.
وتقول سيمون إن حركة "النزعة الإنجابية" "متنوعة جداً"، فيما نتكلم أكثر عن العائلات التي يعرفانها. فمنهم الكاثوليك، وشخصيات الزوجات التقليديات، ومناصري اليمين الجديد المولعين بالتكنولوجيا مثل الزوجين كولينز. فأجيب بأنها تبدو متنوعة من بعض النواحي، لكن أين هم التقدميون المؤيدون للإنجاب؟ هل يعرفون أحداً منهم؟
يتوقفان عن الكلام برهة قبل أن تقول سيمون "همم"، في نهاية المطاف، يعترفان بأنهما لا يعرفان أياً منهم، وأنه من المحتمل أن يكون بعضهم موجوداً. ويخمنون "ربما يمنعهم الخجل من كشف أنفسهم بسبب النظام الليبرالي. وربما أغشت الثقافة الحضرية الموحدة أبصارهم، ويشعرون أنه عليهم إنجاب عدد أقل من الأطفال مما يريدون حقاً".
بعد عودتهما من قضاء فترة بعد الظهر مع الجيران، يأتي تايتن وتورستن ركضاً عبر طريق الحديقة ويدخلان المنزل. يرشدهما مالكولم إلى الحديقة المسيجة، حيث تبدأ تايتن - التي تملأها الطاقة والحيوية وقد سرح شعرها في ضفيرتين صغيرتين- تلامس الدجاجات بفضول داخل القن فيما يتوقف تورستن - وهو أهدأ وأكثر تحفظاً - كي يتفحص كاميرا المصور الذي يرافقني، ما زالت إندستري مربوطة إلى ظهر سيمون، إذ تغفو أحياناً وتثرثر مع نفسها، أوكتافيان في روضة الأطفال وسيعود لاحقاً بالباص. فيما تتجمع العائلة لالتقاط صورة معاً، يطارد مالكولم تورستن على العشب ويرميه فوق كتفه. يرتدي الجميع أحذية صفراء اللون، بما في ذلك سيمون ومالكولم. ويشرح مالكولم أنها سياسة عائلية، لأنها طريقة سهلة كي يتعرفوا على بعضهم بعضاً عن بعد.
ومع أن أوكتافيان يرتاد حضانة المدرسة الحكومية المحلية، يقول مالكولم إنهما ينويان تعليم الأطفال باستخدام الذكاء الاصطناعي بصورة أساس، ويأملان فعل ذلك من خلال مؤسستهما التعليمية الناشئة، معهد كولينز، إن نجحا في تأمين التمويل اللازم. ففي ظل إمكان وجود 14 طفلاً في المنزل، ستتاح لأوكتافيان وتورستن وتايتن وإندستري والطفل القادم تيكس، وإخوتهم فرص تختلف جداً عن تلك التي أتيحت لمالكولم الذي نشأ مع أخ واحد فقط، وسيمون، الطفلة الوحيدة.
هذا صحيح، كما يقول مالكولم لكن عائلته لم تعطه "أي ميراث" على أية حال، والشيء الوحيد الذي فعلته هو أنها دفعت رسوم الجامعة. هل لدى مالكولم وسيمون القدرة المالية لفعل الأمر نفسه ودفع رسوم التعليم الجامعي لأطفالهم؟ كلا، لكن الجامعة ليست ذات قيمة بعد اليوم كما يقولان. "بل هي فقط أرضية خصبة لتلقين عقائد الليبرالية، سيأخذ الذكاء الاصطناعي مكانها، ويا ليت ذلك يحصل بأسرع وقت".
لا يساور الزوجان كولينز أي شك في أن الذكاء الاصطناعي سيغير المجتمع بسرعة - سياسياً وأكاديمياً واجتماعياً - وأن اليمين الجديد سيكون في طليعة ذلك التغيير. تشير التطورات الأخيرة إلى أنهما محقان، وأن الإدارة الحالية مهتمة جداً بهذا الموضوع. في منتصف يونيو (حزيران)، عين مسؤولون تنفيذيون من شركات "أوبن إي أي" و"بالانتير" و"ميتا" ضباطاً في وحدة احتياط= في الجيش الأميركي بعدما منحت وزارة الدفاع كل واحد من بينهم عقوداً تساوي مئات ملايين الدولارات لبناء مكون ملموس من الذكاء الاصطناعي يمكن استخدامه في "خوض الحروب" المستقبلية. كما أن قانون ترمب المعروف باسم "القانون الكبير الجميل" يتضمن عنصراً واحداً غريباً جداً: حظراً فعلياً للولايات التي تطبق أي قوانين تنظيم للذكاء الاصطناعي لـ10 سنوات في الأقل.
يعتقد مالكولم أن أطفاله سيظلون منسجمين عقائدياً معه أثناء نشأتهم، وسيساعد التعليم من خلال الذكاء الاصطناعي في ذلك، ولن يلقنهم المعلمون الاندماج في الثقافة الحضرية الموحدة، وسيتسنى لهم أن يكتشفوا اهتماماتهم الخاصة بمساعدة مدرس شخصي من الذكاء الاصطناعي مكيف بحسب حاجتهم. بوجود أربعة أطفال تحت سن الخامسة وطفل خامس في الطريق، لا يعاني الزوجان كولينز في الوقت الحالي من أية مشاجرات عائلية حول السياسة، لكنني أتساءل كيف سيبدو منزل مليء بمراهقين متعنتين مثل مالكولم وسيمون في المستقبل.
تأخر الوقت وشارفنا على العصر، نخرج من المنزل ونبدأ بتبادل عبارات الوداع، فتلحق بنا تايتن عبر الممشى وتصرخ وتعرقل مالكولم. إنها طفلة سعيدة ومشاغبة تشبه والدها إلى حد بعيد. أما سيمون، التي تراقب تورستن وما زالت تحمل إندستري على ظهرها، فتظل في المنزل.
يلح مالكولم في سؤال تايتن فيما يقفان قرب البوابة ويراقباننا ونحن نتجه نحو السيارة "هل تتمنين لو لم تولدي أبداً؟ هل أنت سعيدة لأنك حية؟".
تلفت تايتن لتنظر إليه بعيون حائرة وتضحك، فهي في النهاية، طفلة في الثالثة من عمرها ليس إلا.
© The Independent