ملخص
في الذكرى الأولى لرحيل الروائي إلياس خوري يقام معرض بعنوان "كأنه نائم"، هو عبارة عن تجهيز فني وسينوغرافي مستوحى من عالمه الروائي وشخصياته وبعض الوقائع. والعنوان مأخوذ من روايته "كأنها نائمة" (2013).
مثلما كان الكاتب والروائي إلياس خوري ملهماً خلال حياته كذلك بعد غيابه الأليم، الذي جاء ليختم قصة مع المرض كان هو بطلها، عاشها بقسوة وربما كان تخيلها من قبل، وكتب بعضاً من دروب جلجلتها في سياقات متفرقة من رواياته. لم يذرف حينها دمعة لكنه ترك وداعه مؤجلاً وغامضاً كأنه لم يمت، بل كأنه نائم في حلم طويل لا ينتهي. هل الحياة هي المنام أم الموت؟ لم يتوقف إلياس يوماً عن البحث عن المكان الغيبي الذي يقع بين الحياة والموت، المكان الملتبس والموقت والبارد والحالم والشاعري، كما يظهر على وجه الخصوص في روايته "كأنها نائمة" التي استهلها خوري مستشهداً بعبارة "لم تمت الصبية لكنها نائمة"- من أنجيل لوقا (52:8)، وكذلك بشطر من قصيدة الشاعر أبو العلاء المعري: "الموت نوم طويل لا هبوب له/ والنوم موت قصير بعثه أمم".
إلياس خوري الذي رحل إلى مناماته التي خبأها في عتمة الليل، تعود شخصيات رواياته لتحيي ذكراه من خلال العمل التجهيزي الذي يحمل عنوان "كأنه نائم" والمستمد من روايته "كأنها نائمة"، كتحية لإرثه الأدبي. ويعود "مهرجان أيلول" الذي أسسه خوري في أواخر تسعينيات القرن الماضي داخل بيروت مع الناشطة الثقافية باسكال فغالي، بعد انقطاع ربع قرن، ليلقي التحية على مؤسسه والمدينة ما بعد الحرب، وهو المهرجان الذي نشط الحياة الثقافية وأطلق مبادرات شبابية أصبحت اليوم من الأسماء البارزة في فنون العرض والتجهيز الفني واللوحة التشكيلية.
يفتح هذا العمل مساحة يلتقي فيها الحلم بالواقع، والذاكرة بالفقد، وكأن شخصيات كتبه، التي أيقظها غيابه تعود إلى الحياة، تتحدث وتنتشر في فضاءات مبنى زيكو هاوس (شارع سبيرس) وهو مبنى بيروتي قديم من ثلاثة طوابق. شخصيات تختلط أصواتها بين الحقيقة والخيال عبر مسارات بصرية وسمعية، تعكس تعدد الطبقات في سرد خوري. ودعي فنانون شباب من مجالات مختلفة لاكتشاف هذا العالم وابتكار أعمال ترسم رحلات متخيلة وحكايات تتقاطع مع بعضها. وتوضح فغالي أستاذة مادة الأنثروبولوجيا، أنها استوحت فكرة هذا التجهيز من "متحف البراءة" في إسطنبول، الذي أسسه الروائي التركي أورهان باموق، الحائز جائزة نوبل للآداب عام 2006، ويحمل عنوان إحدى رواياته. ويعكس المتحف من خلال مقتنياته أحداث الرواية، بما يتيح للزوار فهماً أعمق لها وللحياة في المدينة.
المنام سفر لا ينتهي
"أنا لم أغير العالم ولكنني اكتشفت أبسط الأشياء وأكثرها بداهة وسذاجة، اكتشفت أنني سأموت لأن الإنسان يموت. وعندما اكتشفت العالم تغير الموت أو بالعكس، عندما اكتشفت الموت تغير العالم. أنا لم أغيره، انا رأيته، وحين رأيت تغير كل شيء، أنا وهو وأنتم وهي" - من رواية مملكة الغرباء - 1993. تطالعنا هذه الجملة عند صعودنا أولى درجات مدخل مبنى زيكو هاوس، حيث تنتشر على امتداد الطوابق عبارات مكتوبة معلقة على الجدران ومسموعة بأداء أصوات متعددة، تتحدث عن الحب والمرأة والنوم والمدينة والحرب والموت والذاكرة والانتماء. هذه العبارات التي فُككت من سياقاتها السردية، مقطوفة من ثماني روايات من مؤلفات الراحل، وهي "الوجوه البيضاء" (1981) و"رحلة غاندي الصغير" (1998) و"مملكة الغرباء" (1993) و"مجمع الأسرار" (1994)، و"يالو" (2002) و"كأنها نائمة" (2013) و"أولاد الغيتو - اسمي آدم" (2016) و"أولاد الغيتو 2: نجمة البحر" (2018).
تتمحور فكرة العرض حول شخصية "ميليا" بطلة رواية "كأنها نائمة" التي تعيش ثلاثة أنواع من الأحلام، تنبثق منها فكرة التجهيز الفني، من خلال تقسيم المساحة إلى طبقات المبنى الثلاث. يبدأ المسار بالدخول في العتمة مع مشهد غروب الشمس على البحر، ثم الانتقال إلى عتمة الليل وصولاً إلى عالم الظلمة: وهو عالم الحلم حيث يفتح الخيال أبوابه على منامات تحن إلى ذكريات الطفولة.
يحدثنا إلياس خوري عن أمه التي يحب أن يكتبها بالبياض على البياض لأنها لم تكن تتكلم بل توشوش كلامها. تقول إحدى الشخصيات في "اسمي آدم": "أرى منال بعين الخيال، أرى أمي الصغيرة التي تختفي خلف قناع وجهها، وأسمع صوتها الهامس وهي تطلب مني أن أغمض عيني كي أسافر في المنام إلى حيث أشاء. كانت هذه المرأة سيدة عيني، هكذا سأذكرها إلى أن يحين أجلي. صوتها يتغلغل في عيني. وهي تطلب مني أن أغمضهما كي أنام. لم تكن تروي لي الحكايات التي ترويها الأمهات، كانت تسألني ماذا أريد أن أحلم، وعندما لا أجاوب، تبدأ في رواية منامي عن البحر، تأخذني إلى رمل الشاطئ وتحكي عن الأسماك الملونة، فيتلون ليلي برائحة الملح وأسمع الموج الذي يختبئ في المحار، وأنام".
أما الحرب فقد شكلت العلاقة المحورية بين الكاتب ورواياته وذاكرته وتجاربه الشخصية المرتبطة ببيروت التي يصفها بأنها "خاصرة العالم"، والقلب النابض بحكايات العيش وسط كومات الحجارة والشمس، والبحر الجميل كأجساد النساء اللاتي يلمعن على الرمال. يقول خوري: "كانت بيروت مختلفة في ذلك الصباح. كان الصباح يحمل رائحة الموت. مسلحون في كل مكان وحركة، كأن الذين ماتوا لم يموتوا، كأن الحرب لم تنته، كأنها بدأت. تعودت على بيروت خلال الحرب. والذي تعود على بيروت لا يستطيع أن يعيش في أية مدينة أخرى، لأنه لا يستطيع أن يتخيل المدن دون حرب. فهو يعرف أن كل هذه العلاقات والاحترامات ستنهار مع أول قذيفة".
مشهدية سمعية بصرية
التجهيز الفني الذي يستمر طوال سبتمبر (أيلول) 2025، والذي نفذه فريق عمل يضم: شريف علام وماغالي داندولو وباسكال فغالي وغابرييل فرنيني وروى فيليبس ورشا رومية، ومحمد سويد وكرمة طعمة ورجوة طعمة، يعكس حالاً مشهدية في عرض سمعي- بصري قلما عهدناه في ابتكار جسور تربط بين الأدب والفن. وهو يفتح أبواب التأويل والتفاعل البصري بين العمل الفني وجمهور الكلمة المكتوبة، لا سيما أن هذا العمل التجهيزي أعاد إحياء علاقة الكاتب الراحل بالأمكنة التي كان يرتادها في بيروت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جال الناشط مصطفى يموت صاحب "زيكو هاوس"، إلى طباعة منشورات حملت عبارات من روايات إلياس خوري، لينثرها في الأماكن اليومية التي أحبها وارتادها، كمبنيي صحيفتي "النهار" و"السفير"، وما تبقى من المقاهي، ودور النشر وشارع الحمراء، وكورنيش البحر ومطعم الفوال المفضل لديه. يقول يموت: "أردنا إعادة زيارته تلك الأماكن التي أحب، وكتب عنها في الروايات والصحف، ليتذكره ناس تلك الأماكن ويرددوا كلماته".
ولئن كانت العلاقة المتأرجحة بين الواقع والخيال إحدى ركائز كتابات خوري، فإنها على صعوبتها كانت ملهمة لفريق فناني التجهيز، في ابتكار هذا العالم الوهمي الآتي من السرد القصصي، عبر إنشاء علاقات بين عناصر بسيطة تحمل شيئاً من السحر والغموض. فالوسائط متواضعة ومتقشفة في خاماتها الفقيرة، تقوم على جمع أغراض صغيرة ومنمنمة، وبلا سياقات محددة (أوعية زجاجية وماء ورمل وملح وصور ملصقات وحبل غسل وعمود كهرباء وأرجوحة وشرائط معدنية ونباتات برية وأقفاص...)، غير أن عملية تجميعها وتنسيقها تمنح حضوراً رمزياً ووجودياً لشخصيات إلياس خوري أو لأشباحها المتخيلة، عبر المؤثرات الصوتية وانعكاسات الضوء ولعبة المرايا والظلال.
كأن عميلة تفكيك النصوص إلى جمل صغيرة، مرتبطة بصورة أو بأخرى بالأغراض الموضوعة على الأرض أو المتدلية من السقف، التي تبدو لناظرها هشة لكنها عميقة الدلالات، لا سيما مع ظلال الأشياء المرتسمة على الجدران، والأصوات المنبعثة من أعماق الذاكرة، من عتمة البيت، من ضجيج الموج، ومن الضوء الخافت لصرير الأشباح التي تمشي على رؤوس أصابعها بين أنقاض الكلمات وخرائبها كأنها تسير في مناماتها. وفي وسط العتمة نقرأ عبارة تعكسها المرآة بالضوء: "العين مرآة والمرأة كاذبة" شعار يشير إلى السرد المتخيل للصور الكاذبة التي تخالط منامات إلياس خوري، ولكنها وللمفارقة توقظها من سباتها.
يختتم العرض من حيث تبدأ الحكاية، و"الحكايات لا تنتهي" كما كتب إلياس خوري في "مملكة الغرباء"، حين قال إن الراوي يموت، لكنه ليس الراوي بل هو الحكاية التي لا تموت.