Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصدأ ينهش الجسد التونسي في فيلم " اغتراب"

رحلة محفوفة بالغضب والسعي إلى ثأر شخصي وعدالة غائبة

من فيلم "إغتراب" التونسي (ملف الفيلم)

ملخص

في مدينة لوكارنو السويسرية، حيث يلتقي عشاق السينما البديلة تحت سماء منفتحة على التجريب والرمزية، سجلت تونس حضورها اللافت هذا العام من خلال العرض العالمي الأول لفيلم "اغتراب" (Exil) للمخرج مهدي هميلي، في الدورة الـ78 من "مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي" 2025.

 تدور أحداث الفيلم في تونس ما بعد الثورة، حين يقتل عامل في مصنع صلب إثر حادثة مأسوية. زميله محمد الذي يشهد الحادثة لا يكتفي بالحزن، بل يبدأ رحلة محفوفة بالغضب والسعي إلى ثأر شخصي وعدالة غائبة.

في منتصف هذه الرحلة، تستقر قطعة معدنية، ناتجة من الحادثة، في رأسه، وتبدأ تدريجاّ بالصدأ، لكنها ليست مجرد أداة طبية أو عرضاً جانبياً، بل تتحول إلى استعارة بصرية عميقة للتآكل الداخلي، النفسي والمجتمعي على حد سواء. والصدأ هنا رمز مزدوج، داخلي ينهش ببطء الإنسان، وخارجي ينهش مجتمعاً مأزوماً، منهكاً بالخصخصة، وفاقداً للبوصلة بين ما بقي من الحلم الثوري ومآلات الواقع السياسي والاقتصادي.

مواجهة لا مجاملة

هذه ليست المرة الأولى التي يطرق فيها هميلي أبواب لوكارنو، فعام 2021 شارك في فيلمه "أطياف" ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان نفسه، وفاز بجوائز دولية عدة، من بينها مهرجانات القاهرة ومالمو وكولكاتا.لكن "اغتراب" يأتي مختلفاً في نبرة السرد وحدّة الرمز، مما يعكس نضجاً سينمائياً لدى المخرج الذي سبق أن خاض تجارب سينمائية في فرنسا، قدم خلالها ثلاثية بالأبيض والأسود عن الحب والاغتراب.

لا يقدم هميلي أفلاماً تزدهر في العروض الجماهيرية، بل يصنع "سينما مقاومة"، تحرك الأسئلة أكثر مما تسلي وتثير التوتر أكثر مما توفر من أجوبة.

 

يأتي فيلم "اغتراب" كثمرة لتحالف إنتاجي عابر للحدود، جمع بين ثلاث شركات رئيسة هي Yol Film House من تونس وTarantula من لوكسمبورغ وVolt Film من فرنسا، تحت إشراف المنتجة التونسية مفيدة فضيلة. وهذا التعاون الثلاثي لا يعكس فقط الانفتاح على شراكات دولية، بل يرسخ أيضاً رؤية سينمائية تتجاوز الجغرافيا وتتماهى مع القضايا الإنسانية الكونية التي يطرحها الفيلم. وحظي المشروع بدعم تمويلي متنوع من مؤسسات إقليمية ودولية مرموقة، من بينها مؤسسة الدوحة للأفلام وفيلم فاند لوكسمبورغ والمركز الوطني للسينما والصورة في كل من تونس وفرنسا، فضلاً عن صندوق البحر الأحمر والصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) وصندوق صورة الفرنكفونية. كذلك، استفاد الفيلم في مراحل تطويره من منصات بارزة لدعم السينما المستقلة مثل "لافابريك سينما" التابعة لـ"مهرجان كان".

 وهذا النسيج المتكامل من الدعم الإنتاجي والتطويري أتاح للفيلم أن ينجز برؤية فنية متقنة، وضمن شبكة دولية تمنحه قابلية واسعة للعرض والتوزيع، وجاهزية للمشاركة في كبرى المهرجانات العالمية.

بطولة جماعية تونسية

واستعان فيلم "اغتراب" بفريق تمثيلي تونسي يضم نخبة من الأسماء البارزة في الساحة الفنية المحلية، من بينهم غانم زرلي الذي يجسد شخصية محمد المحورية، إلى جانب مرام بن عزيزة وسليم بكار ومحمد قلصي ويونس فارحي ومراد غرسلي. ولا تعتمد هذه الأسماء فقط على شهرتها داخل تونس، بل على تراكمات من الأداء الدرامي القادر على التلوّن داخل شخصيات معقدة، بعيدة من القوالب الجاهزة

في هذا الفيلم، لا يقوم التمثيل بدور ثانوي داعم للصورة، بل يتحول إلى أداة سرد جوهرية، تترجم الصراعات النفسية التي يحملها النص إلى لحظات شعورية كثيفة، تقوم على الاقتصاد في التعبير والعمق في الإيحاء.

ويتصدر غانم زرلي الحكاية بأداء داخلي متقشف، يجسد التحول التدريجي لشخصية محمد من عامل بسيط إلى رجل يقوده الجرح الشخصي نحو مواجهة مع النظام الاجتماعي القاسي. وأداؤه لا يبحث عن تعاطف مباشر، بل يربك المتلقي ويضعه في مساحة من التوتر الأخلاقي والوجودي.

أما مرام بن عزيزة وسليم بكار، فيقدمان أدواراً داعمة تضيء الخلفيات الاجتماعية والسياسية المحيطة بمحمد، من دون أن تسحب البساط من الحكاية الأصلية. بينما ينجح محمد قلصي ويونس فارحي في رسم الملامح المتباينة لبيئة العمل وعلاقات الرفاق، في ما يشبه بناء درامياً تدريجياً لكثافة الفيلم النفسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من مهرجان الجونة إلى لوكارنو، ومن الدعم العربي إلى المنصات الأوروبية، يسير "اغتراب" كعمل سينمائي يجمع بين الصدق الفني والجرأة الرمزية. هو فيلم عن العدالة الغائبة وعن جسد يصدأ ببطء وعن روح تثقلها الأسئلة أكثر من الجراح. لكنه أيضاً شهادة على أن السينما العربية، حين تصدق حكاياتها وتستثمر في رموزها، قادرة على التحول إلى صوت عالمي ومؤثر وشجاع.

في النهاية، لا يقدم "اغتراب" حلاً نهائياً، بل يتركنا مع الشظية الصدئة في رأس بطله، كأنها سؤال معلق، ماذا يحدث حين يترك الجرح من دون علاج؟ وحين يصبح الألم جزءاً من بنية الحياة اليومية؟ وحين تتحول العدالة إلى حلم مؤجل، يحمل كل فرد شظيته الخاصة، يمشي بها، ويتآكل… بصمت.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما