ملخص
العلاقات بين إيران والولايات المتحدة تراكمت عبر أربعة عقود من العداء والفرص الضائعة، من إسقاط الشاه إلى حرب العراق والاتفاق النووي، لتصل اليوم إلى مفترق جديد بعد حرب الـ12 يوماً وضربات ترمب المباشرة. ورغم التصعيد المستمر، يبقى المسار الدبلوماسي مطروحاً كخيار وحيد لتجنب اندفاع إيران نحو العتبة النووية وإعادة رسم توازن القوى الإقليمي.
جاءت حرب الـ 12 يوماً في يونيو (حزيران) الماضي والتي شهدت انضمام الولايات المتحدة إلى إسرائيل في قصف إيران، نتيجة تراكم 40 عاماً من الريبة والعداء والمواجهة، فمنذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979 لم تتراجع عن معاداتها للولايات المتحدة، فيما لم تتوقف واشنطن عن الرد بمزيد من الضغوط على إيران.
البلدان كانا قد اقتربا من صراع مباشر في السابق، ففي عامي 1987 و1988 قصفت الولايات المتحدة منصات نفط بحرية وسفناً إيرانية، ثم أسقطت من طريق الخطأ طائرة ركاب إيرانية، وقد فسّرت إيران تلك الأفعال على أنها بداية حرب غير معلنة، ومع ذلك فسرعان ما تحول انتباه واشنطن إلى العراق وحرب الخليج.
لكن العداء بين إيران والولايات المتحدة استمر وتفاقم في العقود التي أعقبت هجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001، أما مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني عام 2020، بعد سلسلة من الاستفزازات الإيرانية في المنطقة، فقد دفع البلدين إلى حافة الهاوية، ثم صعّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذا العام حدة العداء عندما استهدفت الولايات المتحدة ثلاثة مواقع نووية إيرانية بعشرات صواريخ الكروز وقنابل زنة 30 ألف رطل.
يبدو أن طهران وواشنطن في عداوة لا تلين، فقد اعتبر النظام الثوري في إيران طويلاً الولايات المتحدة عدوه اللدود، الشيطان الأكبر الذي قوض استقلال البلاد بدعمه الانقلاب العسكري عام 1953 وما تبعه من استبداد ملكي، وفي عام 1979 ساور قادة الثورة قلق من استمرار تدخل الولايات المتحدة في إيران وإعاقة التحول الكبير الجاري، ولمنع ذلك رأت الجمهورية الإسلامية أن على الولايات المتحدة أن تُستبعد ليس من إيران وحسب، بل أيضاً من الشرق الأوسط بأكمله، وقد وضعت هذه القناعة سياسة طهران الخارجية على مسار تصادمي مع واشنطن، إذ دعمت إيران دولاً وجماعات مسلحة في المنطقة بهدف تهديد الولايات المتحدة وحلفائها الإسرائيليين والعرب، وفي المقابل انتهجت الولايات المتحدة إستراتيجية احتواء وضغط شملت تحالفات إقليمية بقيادة أميركية، وقواعد عسكرية أميركية، وطوقاً محكماً من العقوبات يخنق الاقتصاد الإيراني، وأخيراً توسعت هذه الإستراتيجية هذا العام لتشمل ضربات أميركية مباشرة على الأراضي الإيرانية.
يرى كثير من المراقبين أن هذا التاريخ يشكل خطاً واحداً متصلاً من الصراع والعداء يمتد من عام 1979 إلى اليوم، ومع ذلك فإن العداء القائم حالياً لم يكن قدراً محتوماً، فقد كانت هناك مسارات أكثر سلمية ممكنة، وبالفعل مع القرارات الصائبة في طهران وواشنطن، كان بإمكان إيران والولايات المتحدة إيجاد سبل لخفض التوترات وحتى تطبيع العلاقات، وفي مناسبات عدة خلال القرن الـ 21 وحده أُتيحت للبلدين فرص للتراجع عن عدائهما المتبادل، لكن في كل مرة اختار صنّاع القرار الأميركيون أو الإيرانيون إغلاق تلك النوافذ، ومع ذلك فإن هذا التاريخ من الفرص الضائعة لا يحكم على البلدين بمستقبل من صراع متصاعد، بل يذكّر بإمكان المصالحة بينهما حتى اليوم.
لقد أضعفت حرب الـ 12 يوماً إيران بصورة واضحة ولم تعد إستراتيجية طهران قابلة للاستمرار بعد الضربات التي تكبدتها، وفي هذه اللحظة يمكن لواشنطن أن تواصل محاصرة إيران وأن تسمح لإسرائيل بين حين وآخر بتوجيه ضربات عسكرية دورية تستهدف مواقع نووية وعسكرية، لإبقاء إيران تحت الضغط ومنعها من تحقيق أي تقدم نحو امتلاك قنبلة نووية، أو يمكنها أن تعدّ تداعيات حرب الـ 12 يوماً فرصة للعودة لتلك الممارسة الأميركية المتقطعة تجاه إيران: الدبلوماسية.
والآن لدى واشنطن فرصة لوضع علاقاتها مع طهران على مسار مختلف والسعي إلى صفقات جديدة من شأنها أن تغير سياسات إيران الخارجية والنووية وميزان القوى داخل المؤسسة الحاكمة، فلقد فشلت الحكومتان الأميركية والإيرانية في استغلال مثل هذه الفرص من قبل، لكن حتى الآن ينبغي على صناع القرار ألا يستسلموا للتشاؤم، فالماضي مهما كان مثقلاً بالفرص الضائعة لا يجب أن يكون مقدمة لما سيأتي.
فجر زائف في أفغانستان
بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001 بدا ولوقت قصير في الأقل أن العلاقات بين إيران والولايات المتحدة قد تتحسن، فدان كل من المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس محمد خاتمي الهجمات الإرهابية، وأقام الإيرانيون وقفات بالشموع في شوارع المدن الكبرى وأحيا الجمهور لحظات صمت في ملاعب كرة القدم، وبصورة مفاجئة أصبحت المصالح الإستراتيجية لإيران والولايات المتحدة متوافقة، ففي خضم صدمة الهجوم جعلت الولايات المتحدة القضاء على تنظيم "القاعدة" أولويتها العاجلة، وكان النظام الديني الشيعي في إيران ينظر بقلق بالغ إلى التطرف السنّي الذي يمثله تنظيم "القاعدة" وحاضنته حركة "طالبان"، و قبل ذلك بثلاثة أعوام فقط، أي في عام 1998، قتلت حركة "طالبان" ما يصل إلى 11 دبلوماسياً وصحافياً إيرانياً في مدينة مزار شريف شمال أفغانستان، وهي جريمة وحشية دفعت إيران إلى حشد قواتها على حدودها مع أفغانستان، وبعد أعوام من العداء اكتشف المسؤولون الإيرانيون والأميركيون أنهم يتشاركون بعض الأهداف.
ولطالما دعمت إيران الخصوم الرئيسين لحركة "طالبان" وهم قوات التحالف الشمالي، وقبل أيام قليلة من هجمات الـ 11 من سبتمبر 2001، نفذ عناصر من تنظيم القاعدة متنكرون في هيئة صحافيين عملية اغتيال ضد أحمد شاه مسعود، الزعيم الأسطوري للتحالف الشمالي، في عملية كانت إشارة إلى هجوم وشيك لـ "طالبان" يهدف إلى القضاء على التحالف الشمالي نهائياً وترسيخ سيطرتها على أفغانستان.
خشيت إيران الشيعية من صعود التشدد السنّي إقليمياً، ممثلاً في حركة "طالبان" المتزمتة وتنظيم "القاعدة" الطموح وفصائل مسلحة أخرى، إضافة إلى مزيد من الاضطراب على حدودها الشرقية، حيث كانت إيران آنذاك ولا تزال موطناً لعدد كبير من اللاجئين الأفغان، وتشير بعض التقديرات خلال الأعوام الأخيرة إلى أن العدد بلغ 8 ملايين، أي نحو 10 في المئة من السكان.
ومن خلال أشكال التعاون التي تبدو اليوم غير معقولة، ساندت إيران الغزو الأميركي لأفغانستان وقدم "الحرس الثوري" الإسلامي للولايات المتحدة مساعدات استخباراتية ودعماً لوجستياً مما سهل التنسيق الميداني مع قوات التحالف الشمالي، وحضر الدبلوماسيان الأميركيان ريان كروكر وزلماي خليل زادة اجتماعات مع نظرائهم الإيرانيين وكبار ضباط الحرس الثوري، ومن بينهم قادة بارزون، وربما حتى سليماني نفسه، وبعد أكثر من شهرين بقليل على هجمات الـ 11 من سبتمبر 2001، طُردت "طالبان" من كابول ومدن رئيسة أخرى، وسقط ما كان يُعرف بـ "إمارة طالبان في أفغانستان".
لا يزال بإمكان إيران والولايات المتحدة تطبيع العلاقات بينهما
كان لإيران مصلحة حقيقية في تشكيل الحكومة التي ستحل محل "طالبان"، وقد تعاونت عن كثب مع الولايات المتحدة خلال "مؤتمر بون" في ديسمبر (كانون الأول) 2001 الذي حسم مستقبل أفغانستان، كما تشاركت الدولتان الأهداف نفسها المتمثلة في بناء نظام سياسي جديد في أفغانستان يوحد البلاد ويعزز استقرارها من خلال حكومة ديمقراطية شاملة، وقد أشاد جيمس دوبينز، الذي قاد الجهود الأميركية في المؤتمر، لاحقاً بنظيره الإيراني الدبلوماسي جواد ظريف لدوره في بناء توافق بين جميع الفصائل الأفغانية حول صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات ديمقراطية لتشكيل حكومة جديدة في كابول، كما نسب ظريف الفضل إلى سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، لدوره في انتزاع تنازلات من التحالف الشمالي سهّلت التوصل إلى اتفاق في بون.
وعند التفكير في الماضي كان هذا التعاون النادر فرصة لتحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، فقد كان من الممكن أن يشكل العمل المشترك في أفغانستان خطوة مهمة لبناء الثقة وحافزاً لتخفيف حدة التوترات، وربما حتى تطبيع العلاقات تدريجياً، وكان النجاح في أفغانستان قادراً على وضع العلاقات على مسار مختلف.
لكن ذلك لم يتحقق، ففي يناير (كانون الثاني) 2002، وبعد "مؤتمر بون" مباشرة، اعترضت إسرائيل شحنة أسلحة إيرانية متجهة إلى حركة "حماس"، ومن وجهة نظر طهران لم يكن التعاون مع الولايات المتحدة في أفغانستان بمثابة إعادة صياغة شاملة لإستراتيجيتها الإقليمية، فما جرى هناك كان مجرد انفتاح أولي لم يكتمل بعد، ولم يكن كافياً لدفعها إلى التراجع السريع عن سياستها في الشرق الأوسط، إذ واصلت تعزيز شبكاتها من الوكلاء، أما الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش فقابل ذلك بمزيج من الغضب والقلق، ثم قرر عدم استغلال الفرصة التي أتاحتها أفغانستان للتقارب مع إيران ودفعها بلطف نحو تغيير سياستها الإقليمية، وبدلاً من ذلك صوّر إيران على أنها عدو لدود وتخلى عن حسن النية الذي ولدته التطورات في أفغانستان، وفي خطابه عن حال الاتحاد في يناير 2002، أدرج بوش إيران ضمن قائمة "محور الشر".
وبعد انتصار بدا سريعاً ومؤكداً في أفغانستان، كرست واشنطن، المنتشية والمفعمة بالثقة، طاقاتها لمواصلة ما يُسمى بالحرب على الإرهاب، وفي تلك الحرب لم يكن يمكن لإيران أن تكون حليفاً بل هدفاً، ولم يعد لتعاونها في أفغانستان أي قيمة تُذكر، ففي نهاية المطاف اعتقد كثير من المسؤولين الأميركيين أن الأيديولوجية الإسلامية أصبحت ظاهرة عالمية بفضل نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 (متجاهلين أن الهوية الشيعية المتشددة للنظام الإيراني جعلته على تضاد مع التشدد السنّي لجماعات مثل تنظيم "القاعدة"). ووفقاً لهذا الرأي فلن تُهزم الإسلاموية إلا بإسقاط الجمهورية الإسلامية، وبعد الغزو الأميركي للعراق في مارس (آذار) 2003 خشي كثير من الإيرانيين أن الأمر لم يكن سوى مسألة وقت قبل أن تصبح بلادهم الهدف التالي للقوات الأميركية، وعلى حد تعبير حسن كاظمي قمي، أول سفير إيراني في بغداد عقب الغزو الأميركي وسقوط الرئيس العراقي صدام حسين، "بعد العراق جاء دور إيران"، ولذلك حاولت إيران استرضاء الولايات المتحدة، ففي مايو (أيار) 2003، أرسل الرئيس الإصلاحي للبلاد، خاتمي، إلى واشنطن اقتراحاً لإجراء محادثات وخريطة طريق لحل "جميع القضايا العالقة بين البلدين"، بما في ذلك على وجه الخصوص برنامج إيران النووي الناشئ وسياستها الأوسع في الشرق الأوسط، لكن البيت الأبيض لم يكلف نفسه حتى عناء الاعتراف بتسلم هذا المقترح.
وقد دفع هذا الرفض الجمهورية الإسلامية إلى التصلب في مواقفها والاستعداد للصراع، وعلى النقيض تماماً من الغزو الأميركي لأفغانستان، لم يُسفر الغزو الأميركي للعراق عن أي فرصة للتقارب مع إيران بل وضع البلدين في مواجهة مباشرة، ولسبب وجيه، نظراً إلى عدد مسؤولي إدارة بوش الذين اعتبروا طهران تهديداً خطراً، رأت إيران أن عليها حماية نفسها، وفي خضم الفوضى التي أعقبت سقوط صدام حسين فربما تعاونت إيران مع سوريا لتعميق المأزق الذي واجهته الولايات المتحدة في العراق، فالتمرد السنّي المدعوم من سوريا والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران خاضتا معارك ضد القوات الأميركية، ومع تفشي العنف في العراق كان المشروع الأميركي هناك محكوماً عليه بالفشل.
وهكذا تجنب القادة الإيرانيون ما كانوا يخشونه بشدة: جيشاً أميركياً منتصراً في العراق يواصل حملته شرقاً نحو إيران، لكن النظرة الأميركية لإيران ازدادت قتامة، فمن جانبها خلصت إيران إلى أنها تستطيع مواجهة التهديد الأميركي على أفضل وجه من خلال إنهاك موارد الولايات المتحدة في مختلف ميادين الشرق الأوسط، ومع استنزافها بالصراعات الطويلة ستسأم واشنطن من المنطقة ولن تسعى إلى حرب مع إيران، وبدا أن قرارها بسحب قواتها من العراق عام 2011 يقد أثبت صحة هذا التفكير الإيراني، فكلما كان المسؤولون الأميركيون يكثرون من الحديث عن مغادرة المنطقة، ازدادت قناعة طهران بجدوى إستراتيجيتها.
وكان لهذه الإستراتيجية أيضاً أثر في تغيير ميزان القوى داخل إيران، فقد سيطرت قوات الأمن التي كانت في الخطوط الأمامية للمعركة ضد واشنطن على السياسة الخارجية الإيرانية، وفي أتون حرب العراق تطوّر "فيلق القدس"، الذراع الخارجية لـ "الحرس الثوري" والمشرف على العمليات العسكرية والاستخباراتية غير التقليدية، من وحدة صغيرة إلى قوة إقليمية واسعة النفوذ تُهيمن على صنع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية، وكان قائده قاسم سليماني ونائبه إسماعيل قآني قد تعاونا مع نظرائهما الأميركيين في أفغانستان عام 2001، لكن خلال حرب العراق حوّلا "فيلق القدس" إلى شبكة عسكرية تخوض مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
تخصيب نووي أم انفراج دبلوماسي؟
إن الوهم الزائف بتحسن العلاقات مع الولايات المتحدة بعد هجمات الـ 11 من سبتمبر 2001 أقنع القادة الإيرانيين بأن واشنطن لن تكون مستعدة مطلقاً لاستيعاب إيران الثورية، وأدركت طهران أن السياسات الأميركية، بما في ذلك بناء القواعد العسكرية في أفغانستان والخليج العربي وآسيا الوسطى، وتشديد العقوبات على الاقتصاد الإيراني، تهدف جميعها إلى إحداث تغيير في النظام في طهران، وفي أعقاب حرب العراق مباشرة خلص حكام إيران إلى أن عليهم مقاومة الولايات المتحدة وردعها من خلال انتهاج سياسات إقليمية عدوانية وبناء برنامج نووي وتعزيز قدرات إيران في مجال الطائرات المسيرة والصواريخ، وكان لا بد من تسخير اقتصاد البلاد ومؤسساتها الحكومية وسياساتها لخدمة تلك المقاومة.
وجاء كشف معلومة أخرى ليزيد الوضع سوءاً: رغبة إيران في امتلاك أسلحة نووية، فقد ظهر برنامجها النووي بينما كانت الولايات المتحدة تستعد لحرب العراق، وفي ذلك الوقت، وبعد إدراج إيران على قائمة "محور الشر"، كانت العلاقات الأميركية - الإيرانية في حال تدهور بالفعل، ولم يؤد اكتشاف برنامج نووي سري إلا إلى زيادة احتمالات الصراع، وافترضت إيران أن الولايات المتحدة ستجعل من هذا البرنامج ذريعة للحرب، مثلما فعلت حين بررت غزوها للعراق، ومن جانبها لم ترغب واشنطن في أن يمتلك أحد أعضاء "محور الشر" قدرات نووية، ولكن مع نهاية إدارة بوش عام 2009، فقد المسؤولون الأميركيون حماستهم للخيارات العسكرية في ما يتعلق بإيران مع استمرار تعثر الولايات المتحدة في العراق، وبات من الواضح أن الدبلوماسية، لا الحرب، هي الوسيلة الأمثل لاحتواء الطموحات النووية الإيرانية، وهكذا أُتيحت فرصة أخرى لإيران والولايات المتحدة للابتعاد من الصراع نحو علاقة أكثر سلمية.
كان بإمكان الولايات المتحدة أن تسلك هذا المسار في وقت أبكر، ففي عام 2003 تفاوضت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة على اتفاق مع إيران كان من شأنه أن يوقف نمو برنامجها النووي الذي كان لا يزال صغيراً آنذاك، في مقابل تخفيف العقوبات، لكن إدارة بوش دفعت الاتفاق إلى الانهيار عام 2004، مصرة على أن تتخلى إيران عن برنامجها النووي بالكامل، من دون تقديم أية تنازلات في المقابل.
يجب أن تكون الدبلوماسية النووية الحد الأدنى لا السقف في هذه العلاقة
وبالنظر إلى الوراء تبيّن أن الاعتراض الأميركي كان قراراً خاطئاً، فمع غياب القيود واصل البرنامج النووي الإيراني التوسع، فيما جعلت خطابات الرئيس الإيراني الجديد محمود أحمدي نجاد المعادية لأميركا وإنكاره للـ "هولوكوست" الدبلوماسية أكثر صعوبة، كما ازداد اقتناع طهران بأن واشنطن لم تكن مهتمة بالدخول في دبلوماسية جادة، حتى في الملف النووي، وكان حسن روحاني، كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين عام 2003، قد عاد لاحقاً للدبلوماسية النووية عندما أصبح رئيساً عام 2013 خلفاً لأحمدي نجاد، لكن في عام 2004 خلص هو وقادة إيرانيون آخرون إلى أن الولايات المتحدة سارعت إلى رفض الاتفاق الذي تفاوضت عليه أوروبا، لأن برنامج إيران كان صغيراً جداً بحيث لا يرقى إلى مستوى يبرر خوض دبلوماسية أميركية أو تقديم تنازلات، ولذلك رأت إيران أنها بحاجة إلى برنامج أكبر بكثير لإجبار الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وقد شكل هذا الافتراض أساساً لأنشطة إيران خلال إدارات أوباما وترمب وبايدن، وفي كل مرة كان الفشل في التوصل إلى اتفاق نووي دائم يشجع إيران على توسيع برنامجها أكثر فأكثر.
ولو أن واشنطن دعمت الجهود الأوروبية لكان من المرجح أن يظل البرنامج النووي الإيراني محدوداً، ولربما كان الاتفاق نفسه ليترك آثاراً جذرية، إذ كان من الممكن أن يقلل ذلك من مخاوف طهران تجاه واشنطن، وبالتالي كانت إيران لتتصرف بصورة مختلفة في العراق، ولم تكن لتسعى إلى استعداء أميركا، وعوضاً عن ذلك عززت المعارضة الأميركية قناعة طهران بأن قراءتها للنيات الأميركية صحيحة، فواشنطن لا يثير إعجابها إلا القوة، ومن أجل ردع الولايات المتحدة كان على إيران أن تبني برنامجاً نووياً أوسع، وأن توسع نطاق حربها غير المتكافئة في العراق وخارجه.
وفي الواقع كانت إيران محقة في افتراضها أن برنامجاً نووياً أكبر سيغير حسابات واشنطن، فبحلول عام 2011 كان برنامج إيران قد توسع بصورة ملاحظة، وعلى رغم تباين التقديرات فإنه لم يكن قد اقترب بعد من مرحلة القدرة على تصنيع قنبلة نووية، لكن ذلك لم يُطمئن إسرائيل، وبسبب خشيتها من وتيرة التقدم الإيراني هددت بمهاجمة إيران لمنعها من الاقتراب من امتلاك القنبلة، لكن آخر ما أرادته إدارة أوباما هو التورط في حرب أخرى في الشرق الأوسط، وقررت أن السبيل الوحيد لمنع إيران من أن تصبح قوة نووية يجري من خلال الدبلوماسية.
مهّد الرئيس باراك أوباما الطريق للمفاوضات من طريق تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران عام 2010 ثم تبني نبرة مختلفة، موضحاً لطهران أن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام، وأدرك أوباما أن الإنذارات الشاملة والضغوط لن تجبر إيران على التخلي عن برنامجها النووي، وهكذا وافقت الولايات المتحدة على التفاوض في شأن قيود على البرنامج النووي الإيراني في مقابل تخفيف العقوبات.
من جانبهم كان حكام إيران منقسمين حول عرض أوباما، فقد كان "الحرس الثوري" الإسلامي وحلفاؤه السياسيون متشككين في أن تختلف إدارة أوباما كثيراً عن سابقتها، واعتقدوا أن الدبلوماسية لن تسفر عن نتائج ذات جدوى بل ستُظهر ضعفاً وتصرف الانتباه عن التهديد الذي تشكله الولايات المتحدة على إيران، لكن فصيلاً معتدلاً بقيادة روحاني، الذي أصبح رئيساً في عام 2013، جادل بأن الدبلوماسية الناجحة مع الولايات المتحدة ستخفف التوترات والضغط على الاقتصاد الإيراني وتعيد ضبط العلاقات بين البلدين، وكان هذا الفصيل يأمل بأن تحقق الدبلوماسية النتائج الإيجابية التي فاتت إيران في محاولاتها السابقة للتقارب مع الولايات المتحدة: تعاونها في أفغانستان عام 2001، وعرضها إجراء محادثات عام 2003، والاتفاق النووي الذي وُقّع مع الأوروبيين عام 2003 ثم أُحبط بعد رفض واشنطن الانضمام إليه.
ثم تبع ذلك عامان من المحادثات المكثفة بين إيران والصين وروسيا والولايات المتحدة والقوى الأوروبية الثلاث التي فاوضت على الاتفاق السابق، وأفضت هذه الجهود إلى "خطة العمل الشاملة المشتركة" عام 2015، وفي مقابل تخفيف العقوبات وضعت "خطة العمل الشاملة المشتركة" قيوداً صارمة على نطاق الأنشطة النووية الإيرانية لمدة لا تقل عن عقد من الزمن، وأُخضعت تلك الأنشطة لعمليات تفتيش دولية صارمة، واندلع جدل واسع منذ ذلك الحين حول ما إذا كان الاتفاق قد كبح طموحات إيران النووية بصورة فعالة، وما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة فرض مطالب أكثر صرامة على إيران على طاولة المفاوضات، وهو شك تردد صداه في طهران على لسان منتقدي الاتفاق هناك، والذين رأوا أن إيران قد قدمت أكثر بكثير مما حصلت عليه، لكن الاتفاق قلّص برنامج إيران، وفي 11 تقريراً منفصلاً أكدت "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" التابعة للأمم المتحدة امتثال طهران لشروط "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وكان لهذه الخطة أهمية بالغة من جانب آخر، فقد مثلت تقدماً ونقلة نوعية في العلاقات الأميركية – الإيرانية، فبعد عقود من العداء أبرمت الولايات المتحدة وإيران اتفاقاً وطبقاه بنجاح أخيراً، في الأقل في نظر طهران.
وعليه كان الاتفاق النووي بمثابة إنجاز كبير في بناء الثقة، ولو استمر لكان من الممكن أن يشكل أساساً لاتفاقات لاحقة حول برامج إيران النووية والصاروخية وسياساتها الإقليمية، وكان من الممكن أن يؤدي تخفيف العقوبات على الاقتصاد الإيراني إلى تغيير الديناميات السياسية داخل طهران من خلال تعزيز نفوذ الفصائل المعتدلة التي تعتمد على أصوات الطبقة الوسطى، وإضعاف نفوذ المحافظين والمتشددين في قرارات السياسة الخارجية، ومع مرور الوقت كان من الممكن أن تتجه العلاقات بين إيران والولايات المتحدة نحو مزيد من التطبيع، ومع ذلك لم يُحقق الاتفاق الانفراج الواسع الذي كان بعض مؤيديه يأملونه، فالموافقة على "خطة العمل الشاملة المشتركة" لم تغير على الفور الإستراتيجية الإيرانية الأوسع، واعتقد "الحرس الثوري" الإيراني وحلفاؤه السياسيون في البرلمان والمؤسسات الاقتصادية والسياسية شبه الرسمية القوية أنه على رغم التقدم الدبلوماسي لم يكن هناك دليل على حدوث تغيير جوهري في العلاقات الأميركية – الإيرانية، فالولايات المتحدة بقيت تُشكل تهديداً ملحاً ولم تبذل أي جهد لتغيير هذا الانطباع، وأشار المتشددون في طهران إلى المعارضة الشرسة للاتفاق النووي داخل الولايات المتحدة كدليل على أن السياسة الأميركية تجاه إيران ستبقى على حالها، وخلال الأشهر التي تلت توقيع الاتفاق تباطأت واشنطن في رفع العقوبات عن طهران مما أدى تدريجياً إلى إفساد الأجواء في إيران، وجادل المتشددون الإيرانيون بأن كل ما جرى كان خدعة لنزع الأصول والقدرات النووية من إيران، مما يجعلها عرضة لتغيير النظام بدعم أميركي، ولذلك يتعين على إيران أن تستمر في سياساتها الإقليمية، مثل التزامها بدعم نظام بشار الأسد في سوريا، وتمرد الحوثيين في اليمن، و"حزب الله" في لبنان، والميليشيات المختلفة في العراق، والتي كانت لا غنى عنها منذ عام 2003 في ردع العدوان الأميركي.
وزادت التقلبات الناجمة عن الربيع العربي تعقيد حسابات إيران، فقد رأت طهران في الاضطرابات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي فرصة جديدة لتوسيع نفوذها الإقليمي، لكن هذه الفرصة لم تخلُ من أخطار جديدة، وكان سقوط الأسد في سوريا، حليف إيران، ليُمثل خسارة إستراتيجية فادحة، إذ كان سيعزل ويُضعف "حزب الله"، وكيل إيران في لبنان، وكان من شأن صعود حكومة سنيّة في سوريا، مدعومة من القوى الغربية وقوى عربية أخرى، أن يُقلص مكاسب إيران في العراق أيضاً، وشعرت إيران أن الولايات المتحدة تُحاول قطع أذرع الأخطبوط قبل أن تقطع رأسه في طهران، واستنتج حكام إيران، وبخاصة "الحرس الثوري الإيراني" وحلفاؤه السياسيون، أن الهدف الحقيقي للجهود الأميركية الرامية إلى إسقاط الأسد هو إنهاء الجمهورية الإسلامية، لذا كان على "الحرس الثوري" الإيراني مقاومة هذه النتيجة مهما كلف الأمر، وعلى حد قول قائد "الحرس الثوري" الإيراني الميداني في سوريا: "إن خسارتنا لسوريا تفوق ما على المحك لنا في العراق ولبنان واليمن"، لذا تدخلت إيران بقوة في سوريا لإنقاذ الأسد بدءاً من عام 2011، وفي العام نفسه دعمت بالكامل الحوثيين في اليمن بعد أن اكتسبوا اليد العليا في الحرب الأهلية هناك.
لم تكن إيران، بل الولايات المتحدة، هي السبب في انهيار الاتفاق النووي
في الواقع اختارت طهران مساراً دقيقاً وحساساً يجمع بين تقليص برنامجها النووي والحفاظ على نفوذها الإقليمي وتوسيعه في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها العرب، ولم يرَ هؤلاء الحلفاء فائدة تذكر في الاتفاق النووي، لكن كان لديهم ما يخشونه من تحركات إيران الإقليمية لتعزيز نفوذها، لذا أرادوا أن تُركّز الولايات المتحدة على احتواء نفوذ إيران الإقليمي بدلاً من الاكتفاء بالتركيز على البرنامج النووي الإيراني وضغطوا ضد "خطة العمل الشاملة المشتركة "في واشنطن فور توقيع الاتفاق عام 2015، وقد أثمرت هذه الجهود عندما أعلن ترمب انسحاب الولايات المتحدة رسمياً من "خطة العمل الشاملة المشتركة" عام 2018.
وكانت السياسة الخارجية الإيرانية بين عامي 2014 و2018 مضطربة ومليئة بالتناقضات، فعلى حد تعبير ظريف، وزير الخارجية آنذاك، كانت إيران مشلولة بسبب الصراع بين الدبلوماسية وساحة المعركة، وكانت الأخيرة تعبيراً ملطفاً استخدمه للإشارة إلى "الحرس الثوري" الإيراني وإستراتيجيته الإقليمية، وقد عانت البلاد لأنها "فضلت ساحة المعركة على الدبلوماسية"، ومن جانبها ركزت السياسة الأميركية على أفعال "الحرس الثوري" بدلاً من التركيز على ما حققته الدبلوماسية النووية للتو، ولم تنظر واشنطن آنذاك في إمكان استخدام النجاح على طاولة المفاوضات كأساس للتأثير في موقف طهران الإقليمي، بل استسلمت لفكرة أن الاتفاق النووي غير كاف لأنه لم يشمل سياسات إيران الإقليمية، وعوضاً عن التخلي عن الدبلوماسية لمعاقبة إيران على سلوكها الإقليمي، كان بإمكان الولايات المتحدة أن تحافظ على مكاسبها الدبلوماسية، وفي الوقت نفسه تتصدى لسياسات إيران الإقليمية، وبعبارة أخرى كان بإمكانها البقاء في "خطة العمل الشاملة المشتركة" واستخدامها كورقة ضغط للتوصل إلى اتفاق لاحق يحد من العدوان الإيراني في المنطقة.
ولو اتبعت الولايات المتحدة هذا المسار لظل البرنامج النووي الإيراني محدوداً بالمعايير التي نص عليها الاتفاق النووي، فحتى بعد القصف الإسرائيلي والأميركي يُرجح أن البرنامج النووي الإيراني بات أقرب كثيراً إلى مرحلة "الاختراق" النووي مما كان عليه في العقد الماضي، في الأقل من حيث المعرفة الفنية (الخبرة) والقدرة على إعادة بناء برنامج متقدم، ولو استمر الاتفاق مدة أطول لزادت الثقة بين إيران والولايات المتحدة، ولكان بإمكان واشنطن استخدام تلك الثقة للتأثير في سلوك طهران الإقليمي.
كان من الممكن لاتفاق نووي ناجح أن يخفف من إحساس إيران بالخطر من الولايات المتحدة، وهذا بدوره كان سيسمح لإيران بالتراجع عن أنشطتها الإقليمية المقلقة، بل وحتى مناقشة قيود لبرنامجها الصاروخي، أما المكاسب الاقتصادية التي كانت ستجنى من البقاء في "خطة العمل الشاملة المشتركة" فكانت ستقنع إيران بالامتثال لبنود الاتفاق وعدم استخدام غطاء الدبلوماسية للقيام باستفزازات إضافية، وعلى رغم الإحباط في طهران من بطء وتيرة تخفيف العقوبات، لم تكن إيران، بل الولايات المتحدة، هي السبب في انهيار الاتفاق النووي، ولا يزال ذلك يمثل أهم فرصة ضائعة لإصلاح العلاقات بين البلدين.
انسحاب مصيري
أدى تفكك "خطة العمل الشاملة المشتركة" إلى تصعيد حاد في التوترات بين طهران وواشنطن، فبعد إلغاء الاتفاق فرض ترمب عقوبات مشددة على إيران في إطار حملة "الضغط الأقصى"، وكان الهدف المعلن لتلك الحملة إجبار إيران على العودة لطاولة المفاوضات، لكن طهران رأت في إستراتيجية ترمب محاولة صريحة لتغيير النظام من خلال خنق اقتصاد البلاد وإضعاف مؤسساتها الحكومية لتشجيع التمرد الشعبين وردت إيران باستئناف نشاطها النووي بقوة من خلال تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60 في المئة، متجاوزة السقوف المسموح بها في "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وعلاوة على ذلك اتخذت خطوات أكثر عدوانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط عام 2019، بدءاً من الهجوم على ناقلات نفط في مياه الإمارات في مايو (أيار)، ثم إسقاط طائرة أميركية مسيرة في يونيو (حزيران)، ثم الهجوم على منشآت نفطية في السعودية في سبتمبر (أيلول)، وقد أدى هذا التصعيد إلى حدث مدوّ وهو أن ترمب أصدر أمراً بقتل سليماني، قائد فيلق القدس، في يناير 2020 أثناء وجوده في العراق، وقد أثار مقتله غضب الإيرانيين وردت الجمهورية الإسلامية بضرب قاعدة عسكرية في العراق تضم قوات أميركية، وهكذا وجدت إيران والولايات المتحدة نفسيهما على شفا حرب مباشرة، وفي أقل من خمسة أعوام تحول الأمل في انفراج جديد في العلاقات إلى صراع مفتوح.
كان من الممكن أن يؤدي انتخاب جو بايدن رئيساً عام 2020 وعودة إدارة ديمقراطية عام 2021 إلى إيقاف التوتر المتصاعد، فخلال الحملة الانتخابية أشار المرشحون الديمقراطيون، بمن في ذلك بايدن، إلى استعدادهم لإحياء "خطة العمل الشاملة المشتركة"، ولكن بمجرد توليه المنصب تراجع بايدن، وبدلاً من العودة لسياسة أوباما تبنى موقف ترمب في ممارسة "الضغط الأقصى"، وأصرت الإدارة الأميركية على أن إيران يجب أن تفي أولاً بجميع التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وعندئذ ستنظر الولايات المتحدة في العودة للاتفاق، وفي غضون ذلك ستبقى عقوبات الضغط الأقصى سارية، وقد تزامنت الأشهر الأولى لإدارة بايدن مع نهاية ولاية روحاني.
وبالاسترجاع، كان روحاني وفريقه من مهندسي "خطة العمل الشاملة المشتركة"، رغبوا في استعادتها، لكنهم لم يجدوا في بايدن شريكاً متجاوباً، ورأت طهران في ذلك استمراراً للنهج نفسه، فبايدن مثل سلفه كان يريد تغيير النظام في إيران.
وافقت الولايات المتحدة على إجراء محادثات مع إيران في فيينا في أبريل (نيسان) 2021، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت طهران قد خلصت إلى أنه لن يكون هناك تغيير حقيقي في السياسة الأميركية، فأعلن القادة الإيرانيون أن البلاد ستبدأ في تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60 في المئة، وكان هذا التصعيد مثيراً للقلق لأنه سيقرب إيران كثيراً من إمكان امتلاك قنبلة نووية، وفي مواجهة هذا التهديد غيرت إدارة بايدن مسارها وأولت اهتماماً أكبر للمحادثات مع إيران، وناقشت خطوات ملموسة من شأنها إعادة الولايات المتحدة للاتفاق النووي ورفع العقوبات المفروضة على إيران في مقابل امتثالها الكامل لالتزاماتها بموجب الاتفاق، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت رئاسة روحاني قد شارفت على الانتهاء، وسرعان ما حل محله إبراهيم رئيسي، وهو معارض متشدد لـ "خطة العمل الشاملة المشتركة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا السياق قررت إيران دعم حرب روسيا الشاملة على أوكرانيا عام 2022، وفي الواقع كانت إيران قد طورت علاقات استخباراتية وعسكرية وثيقة مع روسيا خلال الحرب الأهلية السورية (إذ وقفت روسيا أيضاً إلى جانب الأسد)، لكنها الآن ترى في شراكتها الإستراتيجية مع موسكو أمراً حيوياً من أجل الصمود في مواجهة الجهود الأميركية الحثيثة الرامية إلى عزل الجمهورية الإسلامية وسحقها، وهذا الدعم لروسيا، بدوره، أبعد أوروبا من طهران ومنح واشنطن دافعاً أكبر للضغط على إيران، وهكذا أصبحت العلاقات الأميركية - الإيرانية مرتبطة بصدام الولايات المتحدة وأوروبا مع روسيا التوسعية، ولو كانت إدارة بايدن قد أبرمت اتفاقاً مع إيران قبل هجوم روسيا على أوكرانيا لكانت طهران رأت أن لديها أموراً كثيرة على المحك في علاقاتها مع أوروبا، إذ لا يمكنها التفكير في مساعدة روسيا في أوكرانيا، ولكن بما أن بايدن لم يكن مستعداً للتخلي عن سياسة ترمب الرامية إلى إعادة إحياء اتفاق أوباما، فقد قررت إيران أنها بحاجة إلى تعزيز علاقاتها مع روسيا، وهذا بدوره زاد من صعوبة المهمة الدبلوماسية، فتراجعت ثقة كل من إيران والولايات المتحدة ببعضهما بعضاً أكثر من ذي قبل، واضطرت واشنطن إلى التعامل مع طهران التي ازدادت تصلباً، ولم تُحقق المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة والدول الأخرى الموقعة على "خطة العمل الشاملة المشتركة "أي تقدم يُذكر، ولم تستطع إدارة بايدن أن تضمن استمرار أي اتفاق في حال تغير الحكومة لاحقاً، في حين كان المتشددون في طهران غير مستعدين للمخاطرة بانسحاب أميركي آخر من أي اتفاق يجري التوصل إليه عبر التفاوض.
من بين الأنقاض
خلال الأعوام اللاحقة تدهور موقع إيران الإقليمي بصورة كبيرة، فبعد هجمات "حماس" على إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، واصلت إسرائيل ضرب الوكلاء الإيرانيين في المنطقة بصورة منهجية مما ألحق أضراراً جسيمة بحركة "حماس" في غزة، وأفقد "حزب الله" كثيراً من قدرته في لبنان، أما انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024 فأفقد إيران أحد أهم حلفائها الإقليميين وأثار احتمال ظهور سوريا جديدة معادية لإيران وبقيادة سنيّة، وفي عامي 2024 و2025 شنت القوات الإسرائيلية ضربات عميقة داخل الأراضي الإيرانية كاشفة عن ثغرات استخباراتية هائلة في جهاز الأمن الإيراني، وعن العجز النسبي للجمهورية الإسلامية في إلحاق الضرر بإسرائيل من خلال ترسانتها من الصواريخ والطائرات المسيرة، وعلى رغم الدمار الذي ألحقه ترمب بالمنشآت النووية الإيرانية، لا يزال الغموض يكتنف إلى حد كبير حال البرنامج النووي الإيراني وإمكان أن يسعى قادة إيران، وقد حُشروا في الزاوية، إلى تطوير قنبلة نووية على عجل.
إذا كان ترمب لا يريد لإيران أن تحذو حذو كوريا الشمالية وتصبح دولة نووية، ولا يريد الاستمرار في خوض حرب مع إيران لمنع ذلك، فعلى إدارته البحث عن حل دبلوماسي، وإيران بدورها لا تريد حرباً مع الولايات المتحدة، كما أنها لا تستطيع بناء ترسانة من الأسلحة النووية بسرعة أو بسهولة لردع الهجمات الإسرائيلية والأميركية، لذا ليس أمام طهران خيار سوى أخذ الدبلوماسية على محمل الجد، فلقد وصلت إيران والولايات المتحدة إلى مفترقات مماثلة من قبل واضطرتا إلى الاختيار بين المواجهة والتسوية، وعليه ينبغي للبلدين أن يتبنيا الدبلوماسية، ليس فقط لإبرام اتفاق عاجل في شأن القدرات النووية الإيرانية، بل أيضاً لبناء الثقة ورسم مسار جديد لعلاقاتهما، ويجب أن تكون الدبلوماسية النووية مجرد بداية، أي الحد الأدنى لا السقف، لهذه العلاقة.
ترى إدارة ترمب أن الحرب التي استمرت 12 يوماً قد ألحقت بإيران ما يكفي من العقاب لإجبار قادتها على إجراء مراجعة جادة للذات، ولكن إذا كان على طهران أن تصل إلى الاستنتاجات الصحيحة، وأن تشعر بأنها قادرة على التخلي عن طموحاتها النووية وسياساتها الإقليمية العدوانية، فلا بد من أن ترى في الدبلوماسية مساراً موثوقاً لتحقيق مكاسب استعصت عليها حتى الآن، ومهما بدا ذلك مستبعداً فقد تفضي حملة القصف التي شنها ترمب إلى اختراق، لكن ذلك لن يتحقق إلا إذا تمكن البلدان من تجاوز تاريخهما الحافل بالإخفاقات والتعامل مع الدبلوماسية برؤية وبصبر.
مترجم عن "فورين أفيرز" سبتمبر (أيلول) / أكتوبر (تشرين الأول) 2025
والي نصر أستاذ في الشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في "كلية الدراسات الدولية المتقدمة" في قسم مجيد خدوري التابع لجامعة جونز هوبكنز، وهو مؤلف كتاب "الإستراتيجية الكبرى لإيران: تاريخ سياسي"