ملخص
حين يختل النوم، لا يتعب الجسد فحسب، بل يربك سلاحه الأول: المناعة، وتضعف الأجسام المضادة، وتتراجع فعالية اللقاحات، ويفتح الباب أمام الفيروسات، وتبدأ أمراض العصر بالتسلل. النوم ليس رفاهية، بل معركة يومية لا ترى.
لم يعد رفاهية تؤجل إلى عطلة نهاية الأسبوع، ولا استراحة يمكن التفاوض على مدتها، إنه الرفيق الخفي في معركة الجسد ضد غزوات الأمراض. ما نراه طقساً يومياً بسيطاً، كأن نغلق أعيننا ونغرق في السكون، هو في الحقيقة طقس بيولوجي بالغ التعقيد، تنسج خلاله شبكة من التفاعلات الكيماوية والهرمونية، تعيد شحن المناعة، وتضبط ميزان الهشاشة والمقاومة.
وفي دراسة نشرت في The Journal of Immunology، في فبراير (شباط) الماضي، تبين أن ليلة واحدة فقط من الحرمان من النوم، أي 24 ساعة، تغير سلوك خلايا المناعة في الجسم لتشبه تلك الموجودة لدى المصابين بالسمنة، وهي حال مرتبطة بالالتهاب المزمن.
في السياق شرح الاختصاصي في جراحة وأمراض الأذن والأنف والحنجرة كابي فارس أن "النوم ليس مجرد راحة للجسد والعقل، بل هو عملية بيولوجية معقدة تؤثر بصورة مباشرة في كفاءة الجهاز المناعي وصحة الجسم ككل. فقد أثبتت دراسات حديثة، أبرزها في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، وجود ارتباط وثيق بين النوم والمناعة، إذ يحفز النوم الجيد جهاز المناعة عبر آليات بيولوجية متعددة". وتابع فارس أن "النوم العميق يحسن كفاءة الخلايا القاتلة الطبيعية المسؤولة عن مهاجمة الفيروسات والخلايا المصابة والأورام، كذلك يزيد من عدد الخلايا اللمفاوية المسؤولة عن مقاومة الفيروسات والخلايا الغريبة. وخلال مرحلة النوم العميق ينتج الجسم بروتينات مناعية، وهي عناصر أساسية لمحاربة الالتهابات وتنشيط الجهاز المناعي".
العلاقة بين النوم والمناعة
أضاف الاختصاصي في جراحة وأمراض الأذن والأنف والحنجرة أن "قلة النوم أو الأرق تؤدي إلى انخفاض إنتاج الأجسام المضادة، مما يجعل الجسم أكثر عرضة للإصابة بنزلات البرد والإنفلونزا، وتضعف استجابة الجسم للقاحات المختلفة، مثل لقاح الإنفلونزا أو كوفيد-19، نتيجة تراجع قدرة الجسم على إنتاج ما يكفي من الأجسام المضادة. كذلك، ترتفع مستويات هرمون الكورتيزول مع اضطرابات النوم، وهو هرمون معروف بتأثيره السلبي في الاستجابة المناعية، إضافة إلى انخفاض إفراز الميلاتونين، وهو هرمون مضاد للأكسدة يدعم المناعة ويحمي من الالتهابات".
ساعة نوم إضافية حماية ملموسة
وأشاف فارس إلى أن "الدراسات السريرية أثبتت أن ساعة نوم إضافية فقط يمكن أن تحدث فرقاً كبيراً في تعزيز المناعة. فزيادة مدة النوم من ست إلى سبع ساعات تقلل خطر الإصابة بعدوى الإنفلونزا والفيروسات التنفسية بنسبة تراوح ما بين 30 و40 في المئة. أما النوم بين سبع وثماني ساعات فيرفع قدرة الجسم على إنتاج الأجسام المضادة بعد التطعيم، مما يعزز استجابته للقاحات ويزيد مناعته ضد الأمراض". ورأى أن "تأثير قلة النوم يختلف بين الفئات العمرية، إذ يحتاج الأطفال إلى ما بين 9 و12 ساعة من النوم يومياً لدعم نموهم الجسدي والعقلي، إذ يحفز النوم إنتاج هرمون النمو وبروتينات المناعة التي تحارب الفيروسات والبكتيريا"، محذراً من أن "قلة النوم عند الأطفال تؤثر سلباً في إنتاج الأجسام المضادة بعد اللقاحات، مما يزيد من احتمالات الإصابة بالالتهابات المتكررة للأذن والجهاز التنفسي، فضلاً عن تأثيرها في نمو الدماغ وتسببها في اضطرابات سلوكية، أما كبار السن، تابع فارس، فيواجهون ما يعرف بـ"الشيخوخة المناعية"، إذ يقل عدد وكفاءة الخلايا المناعية وتنخفض قدرتهم على إنتاج الأجسام المضادة، مما يجعلهم أكثر عرضة للأمراض المزمنة والالتهابات، خصوصاً في الجهاز التنفسي والمسالك البولية.
الأرق وانقطاع التنفس خطر مستمر
وتحدث فارس عن تأثير اضطرابات النوم مثل الأرق وانقطاع التنفس أثناء النوم، موضحاً أن "الأرق يقلل من فترات النوم العميق، وهو ما يؤدي إلى انخفاض إفراز السايتوكينات المناعية الضرورية لمقاومة الأمراض، ويرفع مستويات الكورتيزول، ويضعف إنتاج الأجسام المضادة بعد اللقاحات. أما انقطاع التنفس أثناء النوم فيتسبب في انخفاض مستوى الأوكسجين في الدم، مما يؤدي إلى تنشيط الجهاز العصبي الودي، وزيادة إفراز الأدرينالين والنورأدرينالين، فيرتفع خطر الالتهابات المزمنة وتضعف وظائف الخلايا القاتلة الطبيعية والخلايا التائية، كما يزيد إنتاج بروتينات التهابية مما يعزز القابلية للإصابة بالعدوى البكتيرية والفيروسية".
القلب والسكري
وربط فارس بين اضطرابات النوم وأمراض القلب والسكري، مشيراً إلى أن "ضعف النوم وانقطاع التنفس الليلي يزيدان احتمالات الإصابة بتصلب الشرايين نتيجة نقص الأوكسجين وارتفاع ضغط الدم، ويؤديان إلى اضطراب في نبضات القلب قد يصل إلى فشل عضلة القلب أو الجلطات القلبية. كذلك، تسهم قلة النوم في مقاومة الأنسولين، مما يرفع خطر الإصابة بداء السكري من النوع الثاني، ويعود ذلك إلى اختلال مستويات هرموني اللبتين والغريلين المسؤولين عن تنظيم الشهية، فمع قلة النوم ينخفض اللبتين الذي يمنح الإحساس بالشبع، بينما يرتفع الغريلين الذي يزيد الشعور بالجوع، خصوصاً تجاه الأطعمة الغنية بالسكريات، مما يزيد خطر متلازمة الأيض".
إعادة التوازن
وأكد فارس أن "تحسين جودة النوم ضرورة أساسية للحفاظ على المناعة والصحة العامة، مقترحاً مجموعة من الإرشادات العملية: تهيئة بيئة نوم مثالية عبر تقليل الضوء والضوضاء وضبط درجة حرارة الغرفة بين 18 و22 درجة مئوية، وتجنب استخدام الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والتلفاز قبل ساعة من النوم لتقليل تأثير الضوء الأزرق على إفراز الميلاتونين، والالتزام بروتين نوم ثابت يحافظ على استقرار الساعة البيولوجية، والابتعاد عن الكافيين بعد الظهر، وتناول وجبة خفيفة وصحية قبل النوم إذا لزم الأمر، مثل كوب حليب دافئ أو القليل من المكسرات، وممارسة نشاط بدني معتدل كالمشي نصف ساعة يومياً مع تجنب التمارين المجهدة قبل النوم، وأخيراً تعزيز الاسترخاء من خلال قراءة كتاب أو أخذ حمام دافئ لتهيئة الجسم والعقل للنوم العميق".
كمية ونوعية ساعات النوم
بدوره أكد الاستشاري في الأمراض الداخلية وطبيب قسم الطوارئ عماد عزار "وجود ترابط وثيق بين كمية ونوعية ساعات النوم وكفاءة عمل الجهاز المناعي"، مشيراً إلى أن "النوم الجيد يؤدي دوراً محورياً في حماية الجسم من الالتهابات والأمراض المزمنة". وقال عزار إن "ساعات النوم الكافية تحسن أداء الخلايا المناعية القاتلة الطبيعية، وهي الخلايا المسؤولة عن تدمير الخلايا المصابة بالفيروسات، كذلك تنشط إفراز الهرمونات المناعية التي تقلل من حدة الالتهابات وتعزز فعالية الجهاز المناعي"، لافتاً إلى أن "النوم المنتظم يسهم أيضاً في تحسين فعالية اللقاحات، إذ يرفع جودة الاستجابة المناعية ويزيد من إنتاج الأجسام المضادة"، مشدداً على أن "هذه النتائج أثبتتها دراسات علمية متخصصة في علم المناعة". وأوضح عزار أن "نقص ساعات النوم أو تراجع نوعيته يؤثر بصورة مباشرة في توازن الإفرازات الهرمونية في الجسم، مما يزيد خطر الإصابة بالأمراض الالتهابية المزمنة مثل أمراض القلب والشرايين والاضطرابات الأيضية"، مشيراً إلى أن "النوم غير الكافي يرفع مستويات الهرمونات المسببة للالتهابات، وهو ما يجعل الجسم في حال استنفار دائم تزيد معه احتمالات الإصابة بأمراض خطرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن ساعات النوم المثالية حسب الفئات العمرية، شدد عزار على أن "الحد الأدنى لساعات النوم عند البالغين يجب ألا يقل عن سبع ساعات يومياً"، مضيفاً أن "الأطفال والمراهقين يحتاجون إلى تسع ساعات في الأقل لضمان سلامة نموهم الجسدي والعقلي". وأشار عزار إلى أن "قلة النوم تضاعف خطر الإصابة بالعدوى الميكروبية والجرثومية، كذلك ترتبط بارتفاع احتمالات تطور الخلايا السرطانية بسبب ضعف الجهاز المناعي"، مبيناً أن "الأطفال أكثر عرضة لهذه التأثيرات مقارنة بكبار السن، نظراً إلى أن جهازهم المناعي لا يزال في طور النمو".
وتحدث عزار عن ارتباط اضطرابات النوم المزمنة وضعف الجهاز المناعي، موضحاً أن "الأرق وانقطاع التنفس الليلي يؤثران سلباً في نوعية النوم ويزيدان من احتمال الإصابة بالجلطات الدماغية والقلبية، ويرفعان ضغط الدم، كذلك يؤديان إلى الإصابة بالسكري نتيجة اختلال التوازن الهرموني"، وهو ما يضعف الجهاز المناعي بصورة مباشرة.
تهيئة بيئة النوم السليمة
وأوصى عزار بـ"ضرورة تهيئة بيئة نوم صحية لضمان جودة الراحة الجسدية والنفسية"، موضحاً أن "النوم يشكل ما يقارب ثلث حياة الإنسان، مما يجعله عنصراً أساسياً للحفاظ على الصحة"، داعياً إلى "تقليل الضوضاء والضوء في غرفة النوم، واستخدام فراش بمعايير طبية يوفر راحة للجهازين العصبي والعضلي، والحفاظ على روتين نوم منتظم لضمان راحة مستمرة وتوازن في الساعة البيولوجية". وأكد عزار أن "النوم ليس ترفاً، بل ضرورة حيوية لصحة الجسم والمناعة"، لافتاً إلى أن "التزام ساعات نوم كافية وجودة عالية يشكل استثماراً مباشراً في الوقاية من الأمراض المعدية والمزمنة والحفاظ على التوازن الجسدي والذهني".