ملخص
عادت إلى الواجهة أزمة نقص الأدوية في تونس، مما دفع وزارة الصحة إلى الدعوة لترشيد استهلاك الدواء ما أثار سخط البعض الذين أكدوا على حق كل تونسي في العلاج والدواء، فما قصة نقص الأدوية في تونس؟
أثارت وفاة شابين بمرض السرطان خلال الفترة الأخيرة، جدلاً واسعاً في تونس، وعادت إلى الواجهة مشكلة نقص الأدوية، وسط تباين الآراء بين مَن يرى أن هناك نقصاً في بعض الأدوية، وأن تزويد الصيدليات والمستشفيات بها يتم بنسق عادي، وبين من يعتبر أن أزمة نقص الأدوية في تونس، ليست بجديدة لأنها أزمة هيكلية مزمنة، بينما تعترف وزارة الصحة بأن الأزمة ظرفية، داعيةً إلى ترشيد استهلاك الأدوية.
واستدعى البعض الحق في العلاج، كحق دستوري وإنساني، إثر تأكيد شاب تونسي يدعى أسامة الحرباوي في تدوينة قبل وفاته، أنه "لم يتلقَّ العلاج الكيماوي طيلة شهرين بانتظار موافقة صندوق التأمين على المرض (الكنام)، على التكفل بنفقات علاجه"، قبل أن يُصدم برفض طلبه، بينما نشر المهندس حسين عبودي مقطع فيديو قبل وفاته، أوضح فيه أنه يواجه المرض للمرة الثالثة، وقد انتظر لأكثر من ثلاثة أسابيع ردّ الصندوق الوطني للتأمين على المرض في شأن ملفه، ليتلقى بدوره رداً سلبياً.
وتحولت قصة الشابين إلى رمز لمعاناة آلاف المرضى الذين يواجهون محنة مزدوجة، المرض من جهة، وتعقيدات المنظومة الصحية للحصول على الدواء، من جهة أخرى.
فهل تواجه تونس فعلاً أزمة في توفر الأدوية وبخاصة تلك المخصصة للأمراض المزمنة؟ وما أسباب هذا الوضع؟ وما هي الحلول الممكنة؟
يمرّ الحصول على أدوية السرطان في تونس عبر مسار إداري طويل ومعقد يبدأ بتقديم ملف إلى الصندوق الوطني للتأمين على المرض، وينتهي باستيراد الجرعات المطلوبة في حال الموافقة، غير أن طول الوقت الذي يتطلبه إتمام الإجراءات أو رفض الملفات، يجعل الكثير من المرضى دون علاج في فترات حاسمة من مسارهم الصحي، ومنحت الدولة التونسية الصيدلية المركزية اختصاصاً حصرياً للتحكم بتوريد الأدوية وتوزيعها على الصيدليات.
بوادر الأزمة في 2018
وبدأت تونس تستشعر أزمة نقص الأدوية في بدايات عام 2018، حينما أقرت الحكومة للمرة الأولى بوجود أزمة دوائية، وتعهدت بتسديد ديون الصيدلية المركزية، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، سجلت البلاد نقصاً حاداً في أدوية حياتية أهمها الأنسولين والجرعات الكيماوية، على الأثر دعت وزارة الصحة إلى تحديد حاجات البلاد من الأدوية بهدف ترشيد الإنفاق الحكومي.
وبدأ فعلاً دق ناقوس الخطر الدوائي في ديسمبر (كانون الأول) 2022، عندما نشرت جمعية الصيادلة التونسيين قائمة بحوالى 700 دواء مفقود، بينما أعلن رئيس نقابة الصيادلة السابق نوفل عميرة أن "عام 2023 هو الأصعب من حيث التزود بالأدوية في تونس".
وبنتيجة ارتفاع مديونية الصناديق الاجتماعية، والمستشفيات العمومية، باتت الصيدلية المركزية مهددة بعدم الإيفاء بتعهداتها المالية تجاه المختبرات الدولية، إذ بلغت ديونها تجاهها أكثر من 600 مليون دينار (200 مليون دولار) مع تأخير عام كامل في تسديد تلك الديون، وهو ما حال دون تمكنها من توفير الأدوية بالكميات المطلوبة وفي الآجال المحددة.
تضاعف كلفة الدواء
في السياق، كشف الرئيس المدير العام للصيدلية المركزية، شكري حمودة، في مارس (آذار) الماضي، أن كلفة شراء الأدوية ارتفعت من 30 مليون دينار (10 مليون دولار) لعام 2021 إلى 300 مليون دينار (100 مليون دولار) عام 2024، مما دفع الصيدلية المركزية إلى اتخاذ إجراءات لتعديل أسعار الأدوية المستوردة التي لها بدائل محلية، في محاولة لترشيد النفقات ودعم الصناعة الوطنية.
وانسجاماً مع لوائح منظمة الصحة العالمية التي تعتبر أن ترشيد استهلاك الأدوية يعني "حصول المرضى على الأدوية المناسبة لحاجاتهم السريرية بجرعات تلبي متطلباتهم" دعت وزارة الصحة إلى ترشيد استهلاك الأدوية، إلا أن هذه الدعوة رأى فيها البعض مسّاً بالحق في العلاج.
تحولات ديموغرافية وغياب تفاعل الدولة
يقرّ الرئيس السابق لنقابة الصيادلة، نوفل عميرة، بـ "وجود أزمة حادة، ومزمنة، في توفير الدواء في تونس"، مُرجعاً ذلك إلى "تراخي الدولة، وعدم تفاعلها السريع مع المشكلات التي أدت إلى نقص في الأدوية في البلاد، إضافة إلى التغيرات الديموغرافية الحاصلة في المجتمع التونسي، التي لم تتفاعل معها الدولة بالشكل المطلوب"، لافتاً إلى "اختلال المعادلة بين عدد النشطين في المجتمع وعدد المتقاعدين".
يُذكر أن تونس اختارت ترابط الأنظمة الاجتماعية، من خلال ربط منظومة التقاعد بمنظومة التأمين على المرض، على رغم اختلافهما إدارةً وتصرفاً، والنتيجة الحاصلة اليوم هي أن صندوق التأمين على المرض، بات ضحية لمنظومة التقاعد، علاوةً على ترابط هذه المنظومة بالصيدلية المركزية التي تواجه بدورها صعوبات كبيرة.
ويرى عميرة أن "أزمة نقص الأدوية بدأت تجلياتها عام 2018، واليوم نعيش ذروة الأزمة، بينما تواجه الصيدلية المركزية أزمة ثقة مع المختبرات الدولية بسبب تراكم ديونها".
وبخصوص تصنيع الأدوية يشير عميرة إلى أن 80 في المئة من الأدوية في تونس مصنعة محلياً، وتبلغ قيمة التصنيع الدوائي محلياً 180 مليون دينار تونسي (60 مليون دولار) منها 40 مليون دينار (13 مليون دولار) تُصدَّر إلى أفريقيا وأوروبا وخاصة السوق الليبية.
استهلاك غير مدروس للدواء
وبينما تشير تقارير المنظمة إلى أن البلدان النامية، ومن بينها تونس، يتلقى فيها 50 في المئة من الأفراد الدواء على نحو غير صحيح، يقترح الصيدلي نوفل عميرة "صياغة بروتوكولات واضحة تحدد الوصفات الطبية التي يقدمها الأطباء للمرضى"، داعياً إلى "اعتماد الاسم العلمي للدواء، وليس الاسم التجاري، من أجل التحكم بمخزون الدواء وتفكيك شبكات العلاقات بين الأطباء والمختبرات في وصف الأدوية، ودعوة صندوق التأمين على المرض إلى اعتماد السعر الأدنى للاسم العلمي للدواء"، لافتاً إلى "وجود مجموعات ضغط تتحكم بمنظومة الدواء في تونس".
كما اقترح "تنظيم حملات كبيرة للتعريف بالأدوية الجنيسة من أجل حسن التصرف بمخزون الأدوية، ورقمنة الوصفات الطبية، لتكون آلية رقابية على الأطباء من حيث المداخيل والقضاء على التهرب الضريبي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
60 في المئة من الحاجات مصنعة محلياً
من جهته، يعتبر رئيس الجمعية التونسية للأدوية الجنيسة، المتخصص لدى منظمة الصحة العالمية، كمال إيدير، أن "سياسة الأدوية الجنيسة والبدائل الحيوية هي إحدى القضايا الرئيسة في تطوير النظام الصحي العالمي بهدف ترشيد النفقات الصحية والحصول العادل على الأدوية للمواطنين"، مضيفاً أن "60 في المئة من حاجات تونس من الأدوية يتم تغطيتها من الصناعة الوطنية للأدوية الجنيسة التي انطلقت منذ التسعينيات".
لا وجود لأزمة بل هناك نقص
في المقابل، ينفي رئيس نقابة الصيدليات الخاصة بتونس زبير قيقة، "وجود أزمة دواء في تونس"، معترفاً في الوقت ذاته بوجود "نقص في بعض الأدوية"، لافتاً إلى أن "تونس عاشت فترة أسوأ بكثير من الوضع الحالي"، واعتبر أن "التزويد عادي بمختلف الأدوية، بينما تسجل بعض أدوية الأمراض المزمنة، كالسكري وضغط الدم نقصاً في بعض الصيدليات".
ودعا قيقة إلى "دعم الصناعة المحلية"، معتبراً أنها تعزز استقلالية القرار الوطني، وهي نوع من الأمن الدوائي، على غرار الغذاء والماء.
وبخصوص أدوية السرطان، يرى رئيس نقابة الصيدليات الخاصة أن "تونس توفر الأدوية بصورة مجانية للمواطنين، ولا يمكن التشكيك بتوجهات الدولة الاجتماعية، لأن تلك الأدوية تستوردها الصيدلية المركزية ويتم توزيعها على المستشفيات العمومية"، رافضاً ما يروَّج على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي من "إجحاف بحق الدولة التونسية"، ومشدداً على أن "تلقي الدواء هو حق مكفول لجميع التونسيين".
ويُرجع قيقة نقص بعض الأدوية إلى "الأزمة التي تعيشها الصناديق الاجتماعية التي تراكمت مشكلاتها المالية منذ أكثر من 10 أعوام نتيجة سياسات خاطئة سابقة".
منصة إنذار مبكر وحملة وطنية
يذكر أن الرئيس التونسي قيس سعيّد أكد في مناسبات عدة أن "حق المواطن في الصحة حق دستوري يجب أن يتجسد في أقرب الأوقات على أرض الواقع".
ولضمان ديمومة التزويد، والتخلص من ظاهرة فقدان الأدوية، وضمان حقّ المواطن في الحصول على حاجاته الدوائية، اتخذ وزير الصحة التونسي مصطفى الفرجاني جملة إجراءات ضمن خطة وطنية لمواجهة النقص الظرفي في الأدوية، كتركيز منصة إنذار مبكر بـ"الصيدلية المركزية" للتبليغ عن أي خطر نفاذ، وإلزام مصنّعي الأدوية بالتصريح المنتظم بمخزونهم لتجنّب النفاذ المفاجئ، والتنسيق السابق مع المختبرات عند أي اضطراب في الإنتاج، علاوةً على إطلاق حملة وطنية للتوعية بأهمية استخدام الأدوية الجنيسة.