ملخص
في العاصمة الخرطوم ومدن دارفور والبحر الأحمر، تحولت أزمة المياه إلى مشهد من المعاناة اليومية البالغة التعقيد، إذ يضطر معظم سكان تلك المناطق إلى شراء حاجتهم من المياه من الباعة المتجولين داخل الأحياء بأسعار باهظة.
لم تقتصر تبعات الحرب المندلعة في السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) عام 2023 على نزوح الملايين وانهيار الخدمات الصحية، بل طاولت أيضا مورداً أساساً للحياة هو المياه.
ففي العاصمة الخرطوم ومدن دارفور والبحر الأحمر، تحولت أزمة المياه إلى مشهد من المعاناة اليومية البالغة التعقيد، إذ يضطر معظم سكان تلك المناطق إلى شراء حاجتهم من المياه من الباعة المتجولين داخل الأحياء بأسعار باهظة، بينما يعتمد بعضهم الآخر على المياه التي توزعها منظمات الإغاثة بكميات محدودة، في وقت تضررت محطات الضخ وانقطعت شبكات الإمداد لفترات طويلة.
معاناة يومية
في أحياء الخرطوم وأم درمان، لم يعُد مشهد الطوابير أمام نقاط توزيع المياه استثناءً، بل تحول إلى جزء من الحياة اليومية. فالانقطاع المستمر الذي قد يمتد لأسابيع بسبب تضرر محطات الضخ وانقطاع الكهرباء، دفع كثيراً من الأسر إلى شراء المياه عبر بائعين متجولين بأسعار تصل إلى 40 ألف جنيه سوداني (ما يعادل 12 دولاراً) للبرميل الواحد، في وقت لا يتجاوز سعره الرسمي بضع عشرات الجنيهات حين تتوافر المياه عبر الشبكة الحكومية.
توضح أم محمد، وهي ربة منزل نزحت إلى أم درمان، "نقضي ساعات في البحث عن جركانة (20 ليتراً) ماء واحدة تكفي يومنا، أحياناً نعود بلا ماء، وأحياناً نشتريها بأضعاف السعر، فلا خيار آخر".
ويضيف عبدالله، وهو موظف يسكن في حي الصحافة بالخرطوم، "غالبية الوقت لا تصلنا المياه عبر الشبكة، وإن وصلت فهي ضعيفة جداً، اضطررت إلى شراء خزان بلاستيكي بسعة 1000 ليتر وخط أنابيب خاص لجلب المياه من بئر يبعد من منزلي أكثر من كيلومترين".
وأردف "لكن المشكلة أن كلفة النقل وحدها تصل إلى 15 ألف جنيه في الأسبوع، فكثير من الجيران لم يتمكنوا من تحمل هذه الكلفة، فصاروا يعتمدون على بائعين يضاعفون السعر، وعليه فإن المسألة لم تعُد مجرد نقص في المياه، بل تحولت إلى عبء اقتصادي يهدد قدرتنا على العيش في المدينة".
من جانبه يقول العامل في إدارة المياه بولاية الخرطوم عبدالرحمن الطيب "الأزمة ليست في انعدام المياه الجوفية، بل في تشغيل المحطات ونقل المياه إلى الأحياء، فمنذ اندلاع الحرب خرج أكثر من 60 في المئة من الشبكات الرئيسة عن الخدمة، كما توقفت بعض المحطات بسبب انقطاع الكهرباء ونقص الوقود".
وأردف "نعمل حالياً على تشغيل آبار إضافية في أطراف الولاية وتسيير صهاريج متنقلة لتغطية المناطق الأكثر تضرراً مثل أمبدة والصالحة، لكن الطلب يفوق قدرتنا الحالية بثلاثة أضعاف".
مياه ملوثة
في مراكز النزوح داخل دارفور والخرطوم، ارتبط نقص المياه مباشرة بانتشار أمراض الجهاز الهضمي والأوبئة الموسمية، إذ أشارت تقارير من منظمات إنسانية إلى ارتفاع حالات الإسهال والتيفوئيد والكوليرا خلال الأشهر الأخيرة، خصوصاً بين الأطفال وكبار السن الذين يواجهون صعوبة في التكيف مع شح المياه وضعف معايير النظافة.
ويقول هيثم عمر، طبيب في مركز صحي بمنطقة مايو جنوب الخرطوم، "نستقبل يومياً عشرات الحالات المرتبطة بصورة مباشرة بالمياه الملوثة أو قلة النظافة، فالأطفال أكثر الفئات تضرراً، إذ نعالج إصابات متكررة بالإسهال والجفاف وسوء التغذية نتيجة قلة السوائل النظيفة. كما لاحظنا زيادة في الأمراض الجلدية والحساسية بسبب استخدام مياه غير صالحة أو إعادة استعمالها في أكثر من غرض".
وتابع أن "الضغط اليومي الناتج من البحث عن المياه بات يضاعف التوتر وسط الأسر، فكثير من النساء يشتكين من الإرهاق والقلق الدائم بسبب البحث عن المياه لأسرهن، مما ينعكس أيضاً على الأطفال الذين أصبحوا جزءاً من طوابير المياه بدلاً من مقاعد الدراسة".
عبء اقتصادي
وتحولت أزمة المياه في السودان إلى عبء اقتصادي ثقيل على الأسر، إذ ارتفعت كلفة الحصول على البرميل الواحد في بعض أحياء الخرطوم وأم درمان إلى ما بين 40 ألف جنيه (12 دولاراً) و50 ألفاً (15 دولاراً)، وهو مبلغ كبير في ظل ظروف الحرب الحالية التي عطلت الأعمال. ومع ندرة الإمداد عبر الشبكات الحكومية برزت سوق موازية للمياه يسيطر عليها باعة يعتمدون على الآبار الجوفية أو نقل المياه من أطراف المدن.
ويوضح محمد الحاج، موظف وأب لخمسة أطفال يقيم في الخرطوم بحري، "أصرف ما لا يقل عن 60 ألف جنيه (18 دولاراً) شهرياً في شراء المياه، وأصبحت مضطراً إلى تقليل مصروف الأكل من أجل توفير المياه، وهو أمر بلا شك يشكل عبئاً على دخل الأسرة البسيط، بخاصة أن معظم الناس أفقرتهم الحرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال "تفاقم مشكلة المياه جعلت كثيراً من الأطفال يتغيبون عن الدراسة بسبب مشاركتهم في جلب المياه من نقاط التوزيع أو الوقوف في الصفوف الطويلة، بينما تتحمل النساء العبء الأكبر في تنظيم استهلاك المياه داخل المنازل ومواجهة ضغوط ندرتها".
مبادرات جماعية
في ظل انسداد الأفق الرسمي، اتجهت مجتمعات عدة إلى ابتكار حلول بديلة لتخفيف وطأة الأزمة، إذ نظمت بعض الأحياء الشعبية مبادرات جماعية لحفر آبار سطحية أو تركيب خزانات مشتركة تُدار عبر لجان محلية، فضلاً عن قيام مجموعات على "واتساب" بشراء المياه بصورة جماعية من أجل خفض الكلفة.
وعلى رغم محدودية أثر هذه المبادرات، فإنها كشفت عن ديناميكية المجتمع في مواجهة غياب الدولة. ويقول المتخصص في الموارد المائية عبدالرحمن علي إن "المياه أصبحت سلاح ضغط في الحرب، لكن في الوقت نفسه يمكن أن تكون مدخلاً للتعافي. فالحلول ليست فقط في إصلاح الشبكات الحكومية، بل في الاستثمار في محطات تحلية صغيرة بالطاقة الشمسية، وتنظيم حفر الآبار بصورة علمية حتى لا يستنزف المخزون الجوفي".
وبيّن علي أن الأهم حالياً أن تكون هناك إدارة مجتمعية تشاركية تضمن العدالة في توزيع المياه، مردفاً أن "أية خطة للسلام وإعادة الإعمار لن تكون ذات معنى إذا لم تدرج قضية المياه كأولوية قصوى لأنها تمثل أساس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي".