ملخص
الانقلابات في مالي خلال عامي 2020 و2021، وبوركينا فاسو عام 2022، والنيجر عام 2023، كلها بُررت بكون الأنظمة المنتخبة فشلت في مواجهة التهديد الإرهابي المتصاعد منذ عقد، وعلى رغم بعض التحركات الميدانية ضد الجماعات المتطرفة، فإن الخريطة الأمنية لم تتحسن جذرياً.
دشن عسكريون في مالي موجة من الانقلابات العسكرية بمنطقة الساحل الأفريقي خلال أغسطس (آب) 2020، وهي التي غيرت بصورة كبيرة وجه المنطقة على صعد سياسية وعسكرية واقتصادية.
وإثر ذلك الانقلاب الذي أطاح الرئيس أبو بكر كيتا، شهدت مالي انقلابين آخرين خلال عام 2021 انتهيا بصعود العقيد آسيمي غويتا إلى سدة الحكم، فيما شهدت بوركينا فاسو المجاورة انقلاباً مماثلاً عام 2022.
ووعد الانقلابيون بإعادة الحكم إلى المدنيين وتنظيم انتخابات عامة داخل هذه الدول، وهو الهدف الذي لا يزال صعب المنال مع تعمق الفوضى الأمنية وأزمات اقتصادية عمقتها عقوبات دولية وإقليمية.
مختبر أمني وسياسي
والتحقت النيجر خلال الـ26 من يوليو (تموز) 2023 بركب "حزام الانقلابات" في الساحل الأفريقي، حيث قاد قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبدالرحمن تياني انقلاباً أسقط الرئيس محمد بازوم.
إثر هذه الانقلابات أنشأ الحكام الجدد للساحل تحالفاً ثلاثياً، ووعدوا بإرساء الأمن والاستقرار، وتحقيق "السيادة الاقتصادية" على الثروات الوطنية، وأيضاً استعادة القرار الوطني في مواجهة "التدخلات الأجنبية".
والآن طُرحت التساؤلات الأهم في المنطقة، هل حققت هذه الانقلابات العسكرية ما كان ينقص الساحل الأفريقي؟
يجيب الباحث السياسي في الشؤون الدولية نزار مقني بالقول، إن "منطقة الساحل الأفريقي تحولت منذ بداية عصر الانقلابات إلى مختبر أمني وسياسي وجيوسياسي كبير، حيث تغيرت خريطة التحالفات الدولية، ولكن لنقل إنها لم تشكل تغييراً كبيراً في حياة المواطنين هناك، لأن الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية لم تتغير كثيراً".
وعد مقني ضمن حديث خاص مع "اندبندنت عربية" أن "على الصعيد الأمني، الانقلابات داخل مالي عامي 2020 و2021، وبوركينا فاسو عام 2022، والنيجر عام 2023، كلها بُررت بكون الأنظمة المنتخبة فشلت في مواجهة التهديد الإرهابي المتصاعد منذ عقد، وعلى رغم بعض التحركات الميدانية ضد الجماعات المتطرفة، فإن الخريطة الأمنية لم تتحسن جذرياً، ففي مالي التنظيمات المرتبطة بـ’القاعدة‘ و’داعش‘ لا تزال تسيطر على مساحات واسعة شمالاً ووسطاً".
وذكر المتحدث أن "داخل بوركينا فاسو، الهجمات ازدادت كثافة منذ عام 2022، ومئات القرى هُجرت، وفي النيجر على رغم الانقلاب الأخير، فإن الحدود الغربية مع مالي وبوركينا فاسو لا تزال ملتهبة، وبعض الأنظمة العسكرية طردت القوات الفرنسية وطالبت بدعم روسي عبر ’فاغنر‘ أو صيغ تعاون جديدة، لكن حتى الآن لم ينجح هذا التحول في تحقيق اختراق أمني واضح، أي إن الاستقرار الموعود لم يتحقق بالكامل".
احتقان سياسي وأمني
وعلى الصعيد الخارجي، عدلت دول الساحل الأفريقي بوصلتها نحو روسيا وتركيا بدلاً من الحلفاء التقليديين وفي مقدمهم فرنسا، وتلقت تلك الدول دعماً أمنياً سخياً لكنه لم يكن كافياً لوضع حد للأزمة الأمنية التي تغرق فيها.
وفي اعتقاد الباحث السياسي النيجري محمد أوال فإن "دول الساحل الأفريقي التي شهدت انقلابات، تنزلق نحو احتقان سياسي وأمني غير مسبوق" حيث حُلت وحُظرت الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية.
ويرى أوال أن "ذلك يدفع هذه الدول نحو ديكتاتورية مقنعة تُبرر باستعادة القرار السيادي والسيطرة على الثروات المحلية، لكن الواقع يزداد سوءاً فالهجمات في تصاعد في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأيضاً تزداد جماعات مثل ’نصرة الإسلام‘ و’المسلمين قوة‘".
ويستدل المتحدث بـ"هجمات لا تجد رادعاً" من قبل هذه الجماعات، مشدداً على أن "الأنظمة العسكرية الحاكمة عاجزة بصورة كبيرة عن وضع حد للتدهور الأمني المستمر وتكتفي بالتنديد بمؤامرات ودعم أجنبي لهذه الجماعات"، وفق قوله.
وبالفعل تحدثت الحكومة في مالي أخيراً عن "إحباط محاولة لزعزعة المرحلة الانتقالية تورط فيها فرنسي"، وهو ما نفته باريس ودعت إلى إطلاق سراح موظف لدى سفارتها احتُجز رفقة نحو 50 جندياً وضابطين كبيرين.
وعد التحرر الاقتصادي
على الصعيد الاقتصادي، أطلق الانقلابيون في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وعوداً بـ"التحرر" وإنهاء الهيمنة الغربية على ثروات البلاد، لكن مقني يعتقد أن هذا الوعد أيضاً لم يتحقق.
ويفسر نزار مقني بالقول إن "العسكريين رفعوا شعار استعادة السيادة الاقتصادية، وركزوا على إنهاء هيمنة فرنسا، سواء عبر عملة الفرنك الأفريقي أو عبر عقود المناجم والذهب واليورانيوم، أما الواقع فيشير إلى أنه داخل مالي، هناك خطاب متصاعد حول مراجعة العقود مع الشركات الأجنبية، لكن الأزمة الاقتصادية تتعمق مع العقوبات الإقليمية (من إيكواس) والعزلة السياسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الباحث السياسي نزار مقني أن "داخل بوركينا فاسو الاقتصاد الريعي (ذهب وقطن) لم يتحرر بعد، والاستثمارات الخارجية شبه مجمدة بسبب هشاشة الوضع الأمني، أما في النيجر التي تمتلك واحدة من أكبر احتياطات اليورانيوم في العالم، بعد الانقلاب تراجعت صادراتها نحو أوروبا، مما عمق الأزمة بدلاً من أن يحلها"، ويستنتج أنه "بالتالي لم يتحقق وعد التحرر الاقتصادي إلا جزئياً، بل ربما زادت الضغوط الاقتصادية بسبب العقوبات وفقدان الشركاء الغربيين دون بدائل قوية".
لا نموذج حكم مستقر
ودولياً، لا يزال الساحل الأفريقي محور ترقب كبير، فيما يحاول الانقلابيون إيجاد حلفاء جدد مثل روسيا والصين وتركيا بعيداً من القوى الغربية التي أضحت "منبوذة" بصورة لافتة.
ويقول مقني إن "على الصعيد السياسي والجيواستراتيجي، شهد هذان المحوران تحولات عميقة، فالانقلابات صنعت نوعاً من جبهة عسكرية موحدة بين باماكو وواجادوجو ونيامي، وأعلن عن تحالف دفاعي مشترك (تحالف دول الساحل)، وهذا قد يكون نواة لترتيب إقليمي جديد خارج الهيمنة الفرنسية".
وبيَّن أن "النفوذ الفرنسي تراجع بصورة ملحوظة، ودخلت روسيا كلاعب سياسي وعسكري بديل، أما الصين تواصل التغلغل الاقتصادي بهدوء، وكذلك الولايات المتحدة ما زالت مترددة بين القبول بالأمر الواقع أو محاولة الضغط".
وخلص مقني إلى أن "وسط هذه التحولات فإن الحكم العسكري لا يقدم نموذج حكم مستقر طويل الأمد، لأنه يحكم عبر القوة لا عبر الشرعية الشعبية الكاملة".