ملخص
في روايتها "شباك المنور" الفائزة بجائزة "خيري شلبي" والصادرة حديثاً عن دار الشروق – القاهرة، قررت الكاتبة فاطمة الشرنوبي أن تطأ منطقة شائكة من المسكوت عنه.
تحفر فاطمة الشرنوبي في تاريخ موسوم بانتهاك الأنثى واستباحتها. وانطلقت تحوك بناءها السردي بخيطين متوازيين، أحدهما نفسي، غاصت عبره في أعماق النفس الإنسانية، استنطقت جراحها واستجلت انكساراتها، والآخر اجتماعي، اشتبكت من خلاله مع ثقافة ترسخ العنف ضد المرأة، ومجتمع يطبع مع قهرها.
وكما انفتحت الرواية على أجناس أدبية متنوعة كالشعر واليوميات والرسائل، عمدت الكاتبة إلى التنويع أيضاً في أسلوب السرد، إذ وزعت سلطة الحكي بين الشخصية الرئيسة، والراوي العليم، معتمدة نسقاً غير منتظم تجولت عبره بين لحظة راهنة في حياة بطلتها "رقية إسماعيل المندراوي"، وأزمنة سابقة على زمن السرد، استعادتها عبر تقنية التذكر والاسترجاع. فكانت عودة الأب بعد ما يقارب عقدين من الغياب، ومشهد جسده المسجى على سرير أحد المستشفيات مقيداً بالأصفاد، نقطة انطلاق في رحلة عكسية سلكتها نحو ماضٍ شهد طفولة البطلة/ رقية، ومراحل مختلفة من حياتها، لم تخل من ألم وقسوة، أسفرا عن روح معطوبة ونفس مأزومة وهوية متشظية.
وبينما منحت الكاتبة لشخصيتها المحورية، وبعض زميلاتها في المدرسة، هويات وأسماء معلومة، تجاهلت كلاً من شخصية الأم والأخت "س"، والأخ "ص". وحمل هذا التجهيل دلالات رمزية، وعبر عن الغياب العاطفي لأخويها، في حين اتسق تجهيل الأم مع حال القطيعة التي هيمنت على علاقتها بابنتها في غالب مراحل السرد.
غموض واستباق
غلفت الكاتبة سردها بغلالة من الغموض، تبدت في قسوة الأم الملغزة، وتجاهلها ابنتها الصغرى، وبدت كذلك في التعتيم على دوافع الأب للسفر، والدولة التي سافر إليها، والغرض من إقامته الطويلة فيها، وصلة ذاك الغرض بعودته مكبلاً بالأغلال. في حين لجأت للتلميح إلى مرجعيته الأصولية وانفعاله بالمجازر الدائرة – آنذاك - ضد المسلمين في البوسنة، لتحيل ضمناً إلى احتمالية انضمامه إلى صفوف أحد التنظيمات الجهادية. "أخيراً وصل جواب من الأب يفيد أنه لا يزال حياً يرزق، وينتظر من زوجته وأبنائه رداً يرسلونه على العنوان المدون... لا تتذكر رقية تفاصيل العنوان، ولكنها تتذكر مقطعاً طويلاً ينتهي بما تنتهي به أسماء دول عدة، ستان"، ص 61.
كذلك أحاط الغموض بالخبيئة التي حرصت البطلة على إخفائها منذ طفولتها، وظلت لغزاً بالنسبة إلى القارئ، أرجأت الكاتبة حله والكشف عنه، كما الحال في بقية الأحداث التي لفها الغموض، إلى مرحلة متأخرة من السرد. ودفعت عبر ذلك الغموض، وتلك الاستباقات، بجرعات من التشويق إلى النص. وضمنت استبقاء القارئ قيد رحلتها، التي تكشفت خلالها مفاجآت صادمة، وعمدت إلى كسر الإيهام ومخاطبته بصورة مباشرة في غير موضع من النص، مما أسهم في تعزيز حال الاعتراف والتواطؤ، ومشاركته في لعبة السرد. وفي المقابل عززت من تماهيه مع النص بفضل جاذبية البطلة، وما منحتها إياها من سمات غير نمطية، ولا سيما خلال مرحلة طفولتها ومراهقتها، إذ كانت فتاة كسولة، انطوائية، سلبية، غير مرئية، ضائعة، ملفوظة من عائلتها وزميلاتها.
سلسلة من الانتهاكات
عبر شخصية البطلة تعرضت الكاتبة لميراث من القهر، عادة ما تتكبده المرأة في المجتمعات الشرقية. ورصدت صوراً لما تتعرض له من عنف وانتهاك. فالأم التي كانت تصوب نحو ابنتها نظرات دائمة من الشك، لم تتوان عن التحقق من عذريتها، ودفعتها أفكارها ومفاهيمها عن الشرف، إلى ختان ابنتيها واغتيال أنوثتهما. أما الانتهاك الأقسى فتعرضت له البطلة حين قام ابن عامل المدرسة بالاعتداء عليها، والمفارقة التي ساقتها الكاتبة عبر تلك الأحداث، أن كل انتهاك واجهته البطلة كان صنيعة امرأة مثلها، فالتي انتهكتها بالكشف عن عذريتها امرأة، والتي قامت بختانها امرأة، حتى حادثة الاعتداء الجسدي عليها، كانت بتحريض من زميلاتها في المدرسة، إشباعاً لميولهن السادية ورغباتهن المنحرفة بالانتقام.
ولم تكن البطلة، الشخصية النسائية الوحيدة، التي استخدمتها الكاتبة لرصد ما تتعرض له المرأة من عنف واستباحة، فكانت "أنيسة" أنموذجاً آخر، وثقت عبره أشكالاً أخرى من العنف تواجهها النساء في مجتمعات أبوية، تسمح للأب بضرب ابنته حتى تبلغ صرخاتها بيوت الجيران وآذانهم، ويرتع فيها التنمر والسادية، ولا سيما خلف جدران المدارس، إلى حد يدفع طالبات صغيرات إلى الانتحار. كذلك كانت "أنيسة" إلى جانب البطلة وكذلك "فاتن" وشلتها، نافذة فتحتها الكاتبة للولوج إلى بقعة قاتمة ومظلمة داخل المؤسسات التعليمية، وسبيلاً طرقت عبره قضايا اجتماعية وتربوية ونفسية مثل العنف والتنمر والانهيار القيمي والأخلاقي ورداءة التعليم والتشوه النفسي لدى بعض المعلمات اللاتي يخلقن بدورهن أجيالاً مشوهة. "إحدى مدرسات أنيسة... أمرتها أن تقف في مقدم الفصل، وانهالت عليها سباباً ومعايرة بهيئتها ونسبها وحماقتها. أمرت أنيسة بأن تخرج لسانها، جعلت منها أراجوزاً خنوعاً ذليلاً منحط القدر، موضع سخرية من الجميع، ثم قامت من دون سابق إنذار بإطباق فكيها على لسانها، وانطلقت عاصفة من الضحك الخبيث"، ص 132.
وتطرقت الشرنوبي إلى قضايا أخرى مثل التشدد والعنف والتفكك الأسري وتردي المؤسسات الصحية والسلبية والغش والاحتيال والاغتراب وغياب الدفء وتراجع العاطفة. ووظفت رباعيات صلاح جاهين، التي نثرتها في مواضع متفرقة من النسيج، كي تؤدي دوراً يشبه دور الكورس في التراجيديا اليونانية، يتمثل في التعليق على الأحداث، ولا سيما أنها كانت تحمل المعنى الفلسفي نفسه، وتصطبغ بالمرارة ذاتها. وبهذا منحت السرد نبضاً موازياً، ومساحات تحفز التأمل، وأضفت عليه إيقاعاً بنيوياً أسهم في إنعاش النسيج.
تيمات وتناقضات
رصدت الكاتبة صوراً من تناقضات النفس والعالم، فبينما كانت البطلة ترفض سلوك "فاتن" المنحرف وشلتها، ظلت تتمنى أن تكون واحدة منهن. وبينما نقشت فوق جدران المدرسة عبارات عن الصدق والحب والإيثار والأخلاق، كان الواقع داخلها ينوء بالكراهية والكذب والانحطاط. وقادت التناقضات إلى بروز تيمات بعينها عكست مشاعر البطلة، وتجلت في الوحدة التي عاشتها نتيجة شعورها بالرفض واللفظ، وكذلك الفقد والحنين، الغضب والألم، والاحتياج إلى الحب والاحتواء. وكانت هذه التيمات والمشاعر، وقوداً أجج الصراع في النص ولا سيما في دواخل رقية التي انقسمت بين حنين لأبيها وغضب من غيابه، وبين بغض لأمها واحتياج إليها، بين كراهية لفاتن وإعجاب بها، وكذلك بين إلحاح رغبات جسدها، ونقاء روحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإلى جانب الصراع في العوالم الداخلية للبطلة اندلعت صراعات أخرى على المستوى الخارجي، بين رقية وطيف أبيها الغائب، بينها وبين فاتن وشلتها، كما اندلعت بين رقية وأمها. وفي خلفية السرد نقلت الكاتبة صراعات محلية وخارجية، منها صراع الأيديولوجيات السياسية، والصراعات التي نشبت بين الشباب الذين صنعوا ثورة يناير، والصراعات الدولية التي تأججت في تسعينيات القرن الماضي خلال الحرب بين كرواتيا والبوسنة. ومهدت كل تلك الصراعات على مختلف مستوياتها، لسيل من التحولات، فتحولت رقية إلى بغض أمها وعدم الاكتراث بها، وتحولت إلى نسخة أكثر اهتزازاً وضياعاً بعد ختانها. وتحول الأب الغائب إلى طيف لشدة احتياج البطلة إلى حبه، وتحول البيت إلى سجن بعد رحيله عنه. ومع تدفق الزمن وتقدم أعمار الشخصيات، تحولت قسوة الأم وبرودها إلى دفء، وتحولت رقية من المظهر الرث إلى البهاء والأناقة، ومن انعدام ثقتها بذاتها إلى الشجاعة والاعتداد بنفسها، انتقلت من غير مرئية ومنبوذة إلى محط اهتمام وانتباه، وتراوحت أيديولوجيتها السياسية مرات بين الفعل النشط من جهة، والعزوف والسلبية من جهة أخرى. ولم يكن التحول من نصيب الشخوص وحدهم بل كان للمدينة والشوارع أيضاً نصيب منه.
استنفار الحواس
عززت مشهدية اللغة ما اكتسى به النص من سمة بصرية، دعمتها بعض التقنيات السينمائية مثل عين الكاميرا والتقطيع، كما عمدت الكاتبة إلى استنفار بقية الحواس وتوظيفها لاستجلاء مشاعر البطلة وأزماتها، ولتمرير دلالات رمزية حول الشريحة الاجتماعية التي تنتمي إليها، وأيضاً لخلق تجربة حسية غامرة كان أبطالها الصوت والملمس والرائحة التي كانت بمثابة بوابة للذاكرة. وقد استدعت رقية عبرها الأمكنة والمشاعر والشخوص، فحفزتها رائحة المعقمات والمنظفات والعقاقير، لاستعادة لحظة انتهاك وتشويه جسدها. وحملتها رائحة أبيها العائد بعد رحيل طويل، إلى ماض منحت فيه القليل من الحب. "رائحتك هذه يا أبي هي هي رائحتك التي ملأت بها أنفي وأنا في الثامنة، حينما دفنت رأسي في صدرك، وهمست في أذني: سأبتاع لك فستاناً جديداً يوم غد. غير أن رائحتك هذه المرة ممتزجة برائحة عنبر المرضى"، ص 189.
وكما كانت الحواس سبيلاً لاستجلاء ما يعتمل في دواخل البطلة، وظفت الكاتبة المونولوغ الداخلي لتحقيق الغاية نفسها، وكذلك الحلم الذي تنوعت أدواره بين تمهيدية، وتفسيرية تعكس هواجس الشخصية وأزماتها، كذلك لجأت الشرنوبي إلى استخدام التكرار في عبارة "أهكذا يحبني؟" التي ظلت تساور رقية وتعيدها إلى سؤال أبيها في طفولتها، عن رأيها في وضع حزام ناسف حول خصرها والاستشهاد، لتحيل عبر هذا التكرار، إلى الخلل الذي أحدثه الأب في نفس ابنته، وإلى مفارقة كبرى تكمن في تحول العائلة من ملاذ إلى تهديد. وتواطؤ الحب المفقود في البيت مع عالم قاس، يزهق كل يوم إنسانية الإنسان بلا رادع ولا رحمة.