ملخص
متوسط العمر المتوقع عالمياً يتباطأ ويتراجع بسبب عوامل اقتصادية واجتماعية وصحية مع تزايد التفاوتات وارتفاع الأمراض المزمنة، مما يستدعي تنفيذ إستراتيجيات وقائية شاملة لتحسين الصحة العامة وإطالة العمر.
إذا نظرنا إلى العناوين الصاخبة التي تتصدر وسائل الإعلام ظننا أن البشر يعيشون اليوم أعماراً مديدة أكثر من أي وقت مضى، فقد أثار المجال الطبي الذي يركز على إطالة عمر الإنسان اهتماماً واسع النطاق، مدفوعاً بإنفاق مليارديرات العالم ثرواتهم الطائلة على علاجات تجريبية في سعيهم خلف إكسير الخلود، وفي الوقت نفسه تزايد الاهتمام بما يسمى العمر البيولوجي الذي يعكس الحال الجسدية والعقلية للمرء وليس عمره الزمني، في حين أطلق على المناطق ذات النسبة الأعلى من المعمرين اسم "المناطق الزرقاء"، وخضعت لدراسات عدة على أمل اكتشاف ما إذا كان سكانها يحملون سر الحياة الأبدية.
ولكن مع ذلك تكمن خلف كل الاختبارات فوق الجينية المتقدمة [التي تهدف إلى فهم تأثير العوامل البيئية وأنماط الحياة على نشاط الجينات] والمكملات الغذائية التي يسوق لها بوصفها منتجات خارقة، حقيقة مغايرة تماماً، ففي الواقع نحن لا نعيش اليوم أعماراً أطول مقارنة بالماضي، بل على العكس يسجل متوسط العمر المتوقع في المملكة المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة حول العالم تباطؤاً ملاحظاً.
متوسط العمر المتوقع مقياس يستخدم لتقدير عدد السنوات التي يتوقع أن يعيشها الإنسان العادي منذ ولادته، وذلك بناء على معدلات الوفيات السائدة في المجتمع حاضراً، وطوال الـ 150 عاماً الماضية تقريباً سجل هذا الرقم المتوقع قفزة كبيرة، فقد كان من المتوقع أن يعيش رجل وامرأة ولدا في إنجلترا عام 1841 حتى الـ 40.2 والـ42.3 عاماً من العمر على التوالي، علماً أنهما رقمان منخفضان جداً وفق مقاييس اليوم، ولكن بحلول عام 1920 ارتفع متوسط العمر إلى 55.8 للرجال و58.7 للنساء بفضل تحسن مستويات التغذية والنظافة والسكن والصرف الصحي ومكافحة الأمراض المعدية، وبعد الحرب العالمية الثانية استمر التقدم حتى بلغ متوسط العمر المتوقع مع مطلع القرن الـ 21 نحو 76.6 عاماً للرجال و80.4 للنساء، وقد أسهمت في ذلك عوامل عدة أبرزها برامج تلقيح الأطفال ضد أمراض كانت شائعة ومميتة، والرعاية الصحية الشاملة، والتقدم الطبي في علاج أمراض القلب والسرطان، إضافة إلى الانخفاض الحاد في معدلات التدخين.
ولكن في عام 2010 بدأت وتيرة التحسن في متوسط العمر المتوقع تتباطأ، فخلال العقد الماضي ارتفع متوسط العمر المتوقع إلى 79 عاماً للرجال و83 عاماً للنساء، ولكن بحلول 2019 لم يسجل هذا المعدل سوى زيادة طفيفة، ثم حل عام 2020 ومعه اجتاحت جائحة كورونا العالم، وهكذا شهدت إنجلترا وويلز بين مارس (آذار) 2020 وديسمبر (كانون الأول) 2022 طفرة كبيرة في إجمال الوفيات "الزائدة" [أي فوق المعدل المعتاد]، مصطلح يشير إلى عدد الوفيات التي تجاوزت المتوسط المعتاد خلال الأعوام الخمسة السابقة، وتخطى الـ 167 ألف حالة، وفي النتيجة انخفض متوسط العمر المتوقع للمرة الأولى منذ عقد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان السبب وراء تراجع متوسط العمر المتوقع واضحاً في غمرة جائحة بهذا الحجم، ولكنه لا يغير حقيقة أن وتيرة تقدم العمر في البلاد كانت فعلاً بدأت في التوقف، ولم يقتصر التباطؤ على المملكة المتحدة وحدها، فقد وجدت دراسة موسعة نشرتها مجلة "لانسيت" في وقت سابق من العام الحالي أنه في مختلف أنحاء أوروبا تباطأت وتيرة التقدم في متوسط العمر المتوقع بصورة ملاحظة بين عامي 2011 و2019، ومن بين 20 دولة شملتها الدراسة سجلت جميعها هذا التباطؤ باستثناء النرويج.
يمكن تفسير هذا التباطؤ إلى حد ما بقفزات سابقة حققها التقدم الطبي، تلك "الإنجازات المذهلة التي شهدناها في تدابير الصحة العامة والتقنيات الطبية وعلاجات أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان في أواخر القرن الـ 20 وأوائل القرن الـ 21"، والتي كان لها "أثر بالغ السرعة والوضوح" في خفض معدلات الوفيات، كما تقول عالمة الأوبئة والزميلة البارزة في مؤسسة "كينغز" الخيرية والمتخصصة في الصحة العامة والتفاوتات الصحية، الدكتورة فينا رالي.
وفي الوقت نفسه يشير توقيت التباطؤ في معدل الزيادة في متوسط العمر المتوقع أيضاً إلى أن الأزمة المالية العالمية عام 2008 قد خلفت سلسلة من التأثيرات غير المباشرة، بحسب المدير المساعد في "مؤسسة الصحة" ديفيد فينش، والذي يقول إن عاملين رئيسين انبثقا عن تلك الأزمة، أولاً صدمة في مستويات المعيشة، إذ نعلم أن الدخل الذي نحصل عليه ومدى قدرتنا على الوصول إلى السلع والخدمات يشكلان محركات أساسية لقدرتنا على تعزيز صحتنا والحفاظ عليها". وفي موازاة ذلك كانت الحكومات تسعى جاهدة إلى استعادة التوازن المالي عبر خفض الإنفاق العام وتطبيق سياسات تقشفية بدرجات متفاوتة من الشدة، وعلى مر التاريخ ارتبط تحسن متوسط العمر المتوقع بارتفاع مستويات المعيشة على المستوى الوطني، ومن هنا فمن المنطقي أن يقود تراجع تلك المستويات إلى نتائج معاكسة تؤثر سلباً في أعمار الأفراد.
وبعيداً من الجغرافيا السياسية والعوامل الاقتصادية فليس تسجيل بعض التباطؤ في وتيرة تحسن متوسط العمر أمراً مفاجئاً أو غير متوقع تماماً، وفق رئيس "أكاديمية أبحاث الصحة وطول العمر" ومدير "معهد أبحاث الشيخوخة" في "كلية ألبرت أينشتاين للطب" في الولايات المتحدة، نير بارزيلاي، ويشرح أن متوسط العمر المتوقع عند الولادة بقي مستقراً نسبياً على مدى آلاف السنين من تطور البشرية، إذ راوح بين 30 و35 سنة، ولم يشهد ارتفاعاً ملاحظاً إلا منذ منتصف القرن الـ 19 حتى أواخره، ويضيف أنه "في مرحلة ما بدأنا نكابد أمراضاً مرتبطة بالتقدم بالعمر، علماً أن هذه الحالات الصحية لم تكن جزءاً من مسار التطور البشري، ببساطة لأننا لم نكن نعيش طويلاً بما يكفي لنصاب بها، من قبيل ألزهايمر وأمراض القلب والسرطان، ولم تندرج هذه الأمراض ضمن أسباب الوفاة سابقاً، بل كان الناس يموتون بسبب الأمراض المعدية والحروب والصراعات وقتل بعضهم بعضاً."
وعلى رغم التقدم الهائل في علاج هذه الأمراض فثمة سقف بيولوجي لعمر الإنسان لا يسعنا تجاوزه، ويقول بارزيلاي "إننا كنوع حيّ لدينا حد أقصى للعمر يمكننا بلوغه، وتنطبق هذه الحقيقة على الكائنات الحية كافة، فالفئران مثلاً، مع كل التدخلات الطبية، لا يمكنها أن تعيش لأكثر من أربعة أعوام، وفي العادة تبقى حية لعامين فقط."
عندما نقترب من الحد الأقصى يبدأ التقدم بالتباطؤ ويتجه منحنى متوسط العمر المتوقع [الخط الذي يمثل متوسط العمر المتوقع في الرسم البياني] نحو الاستقرار أو التسطح، ويعلق بارزيلاي قائلاً "نشهد انحناء في المنحى، أليس كذلك؟ ولو كان يسعنا العيش إلى الأبد فعلاً لكان المنحى مستمراً في الصعود بلا حدود، ولكن بوجود سقف بيولوجي واضح يبدأ المنحنى في التراجع أو الاستقرار، ويأخذ شكلاً منحنياً يعكس هذا الحد."
ولا يعني ذلك أن الباب مغلق أمام تحقيق مزيد من التقدم في متوسط عمر الإنسان، فقد افترض بعض العلماء أن الحد الأقصى الحالي لعمر الإنسان يقترب من 115 سنة (مع وجود حالات استثنائية، إذ يعتبر 122 سنة أطول عمر بشري موثق حتى الآن). يقول بارزيلاي "إذا كان الحد الأقصى المتوقع لعمرنا اليوم 115 سنة، في حين أن متوسط أعمارنا لا يتجاوز عادة الـ 80، فإننا بذلك نمتلك إمكان العيش لـ35 سنة إضافية، وعلينا أن نركز جهودنا على تحسين جودة الحياة خلال هذه الفترة، وسنحرز تقدماً كبيراً في تعزيز الصحة وإطالة العمر"، وفي الوقت نفسه حددت دراسات استخدمت شكلين مختلفين من النمذجة "معادلة غومبيرتز" Gompertz [التي ترصد ارتفاع خطر الوفاة مع التقدم في السن] و"مؤشر الحالة الديناميكية للكائنات الحية" [الذي يقيس العمر البيولوجي بناء على المؤشرات الصحية]، الحد الأقصى المطلق لعمر الإنسان المحتمل عند 140 و150 سنة على التوالي.
"إذا كان الحد الأقصى المتوقع لعمرنا اليوم 115 سنة في حين أن متوسط أعمارنا لا يتجاوز عادة الـ 80 فإننا بذلك نمتلك إمكان العيش لـ 35 عاماً إضافية" نير بارزيلاي، "أكاديمية أبحاث الصحة وطول العمر"
وعلى رغم أن فكرة بلوغ الحد الأقصى للعمر تبدو أقرب إلى عالم الخيال العلمي البعيد، فإن مصدر القلق الحقيقي اليوم يكمن في موقع المملكة المتحدة على خريطة التقدم العالمي في هذا المجال، أو بالأحرى تراجعها اللافت، والدراسة المنشورة في "لانسيت" وصفت إنجلترا بأنها "رجل أوروبا المريض"، بعدما سجلت أبطأ وتيرة نمو في متوسط العمر المتوقع بين الدول الأوروبية، تلتها مباشرة بقية أقاليم المملكة المتحدة، إيرلندا الشمالية وويلز واسكتلندا، ولكن منذ عام 2010 شهدت دول أخرى مماثلة في الوضعين الاجتماعي والاقتصادي تحسناً معتدلاً في متوسط العمر المتوقع، في حين بقيت المملكة المتحدة خارج دائرة التحسن.
"حافظت دول عدة من بينها النرويج وأيسلندا والسويد والدنمارك وبلجيكا على متوسط عمر متوقع أفضل بعد عام 2011، وشهدت تراجعاً في الأضرار المرتبطة بأبرز عوامل خطر الإصابة بأمراض القلب بفضل السياسات الحكومية المتبعة"، قال البروفيسور نيكولاس ستيل من كلية الطب في نوريتش بإنجلترا في "جامعة إيست أنجليا" والباحث الرئيس في الدراسة، مضيفاً أنه "في المقابل سجلت إنجلترا وسائر أقاليم المملكة المتحدة أسوأ النتائج بعد عام 2011، وخلال جائحة كوفيد أيضاً"، مشيراً إلى أن أداء إنجلترا في ما يخص أمراض القلب والسرطان "لا يزال دون المستوى المطلوب"، ومؤكداً أن هذا الاتجاه السلبي "ممتد لعقود عدة مضت ولا حلول سريعة له".
وتشير بيانات صادرة عن "ورلد بوبوليشن ريفيو" World Population Review إلى أن الفارق في متوسط العمر المتوقع بين المملكة المتحدة واليابان، التي تتصدر دول العالم في هذا المجال، يتجاوز حالياً أربع سنوات ونصف السنة للنساء، ولكن هذا الفارق لم يظهر مصادفة، وفق الدكتورة رالي، التي تؤكد أن العقد الأول من القرن الـ 21 اتسم بسياسات تقشف قاسية، وتوضح أن "الخفض في موازنة الصحة العامة في المملكة المتحدة بلغت نحو الربع بين عام 2015 وأوائل عشرينيات القرن الـ 21، وأن "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" البريطانية واجهت أعباء هائلة، وكذلك أخذت التفاوتات الصحية تتسع أكثر مما يترك بطبيعة الحال تأثيراً سلبياً في متوسط العمر المتوقع".
وفي الواقع نلاحظ في المملكة المتحدة تفاوتاً صارخاً في متوسط العمر المتوقع، بحسب الموقع الجغرافي، ففي المناطق الأكثر حرماناً مثل مدينة بلاكبول في الشمال الغربي، لا يتجاوز متوسط العمر المتوقع المعدلات المسجلة في دول مثل بنغلاديش، فيما تسجل المناطق الأكثر ثراء معدلات تضاهي الأرقام التي تحققها اليابان، وتظهر بيانات "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" أن المملكة المتحدة تندرج ضمن دول الاتحاد الأوروبي ذات المستويات الأعلى في اللامساواة في توزيع الدخل.
وتصنف أعداد كثيرة من الوفيات ضمن فئة "الوفيات القابلة للتفادي"، مصطلح مستخدم لوصف الوفيات الناجمة عن عوامل خطر قابلة للتغيير من قبيل السمنة أو التدخين، وترتبط هذه العوامل أيضاً ارتباطاً وثيقاً بالتفاوتات الاجتماعية، حيث تسجل المناطق الأكثر حرماناً في إنجلترا معدلات تدخين تعادل أربعة أضعاف المعدلات المسجلة في المناطق الغنية، وكذلك تتجاوز معدلات السمنة لدى الأطفال فيها الضعف مقارنة بنظيراتها في المناطق الأكثر ثراء.
وعند النظر إلى سوء الحال الصحية وارتفاع معدلات الوفيات يتبين أن التراجع في المملكة المتحدة لا يقتصر على كبار السن المصابين بأمراض مرتبطة بالعمر، فحتى مطلع عام 2025 سجلت البلاد عدداً قياسياً من الأشخاص الذين خرجوا من سوق العمل بسبب اعتلال صحي طويل الأمد، مع أنهم ما زالوا في سن تسمح لهم بالعمل، وواحد من كل أربعة أشخاص من هؤلاء لم يتجاوز الـ 35 سنة، في ظل ارتفاع حاد في معدلات الاضطرابات العقلية والنفسية.
ويربط فينش هذا الاتجاه "المقلق" بالارتفاع الكبير في "وفيات اليأس"، كما تسمى، وتشمل الانتحار وتعاطي المخدرات وإدمان الكحول، خصوصاً في أوساط الشباب، فخلال الفترة الممتدة بين عامي 2019 و2021 شكلت هذه الوفيات أكثر من 41 في المئة من مجمل وفيات الفئة العمرية بين 25 و29 سنة، وكانت المعدلات الأعلى في المناطق التي تعاني معدلات مرتفعة من البطالة والعيش بعزلة وتراجع النشاط الاقتصادي.
وإضافة إلى ذلك كله شهدت معدلات الشعور بالوحدة المزمنة ارتفاعاً بنسبة ستة في المئة داخل المملكة المتحدة منذ جائحة "كوفيد- 19"، وفق تقديرات "الحملة من أجل القضاء على الوحدة" Campaign to End Loneliness التي أشارت إلى أن الفئة العمرية بين 16 و24 سنة واحدة من بين أكثر الفئات الأكثر عرضة لهذه المعاناة، وقد أظهرت بحوث عدة أن التأثيرات السلبية التي تطرحها الوحدة لا تقل خطورة عن تدخين نحو 15 سيجارة يومياً، بل تفوق الأضرار الصحية الناجمة عن السمنة المفرطة وقلة النشاط البدني.
التغلب على الشعور بالوحدة أمر أساس للحفاظ على صحة الإنسان، إذ يقول بارزيلاي إن "التواصل الاجتماعي" أحد الأعمدة الأربعة الرئيسة لطول العمر، إضافة إلى ممارسة التمارين الرياضية والنظام الغذائي والنوم، والتي لا بد من العمل على تعزيزها لتحقيق أقصى تأثير إيجابي منها، ويضيف أن "لكل من هذه الركائز آلية بيولوجية أساسية تؤثر في الشيخوخة".
"علينا أن نضع الصحة العامة والوقاية من الأمراض في صدارة الأولويات وتعبئة جميع الموارد لها" د. فينا رالي، مؤسسة "كينغز" الخيرية
وإضافة إلى اعتماد خطة صحية شخصية تراعي تلك الجوانب الأساس من صحتنا [التواصل الاجتماعي وممارسة التمارين الرياضية والنظام الغذائي والنوم]، يسلط بارزيلاي الضوء على فاعلية أربعة أنواع من الأدوية القادرة على تقليص احتمال الإصابة بأمراض مرتبطة بالعمر: "ميتفورمين" Metformin (المستخدم لعلاج النوع الثاني من السكري)، ومثبطات "أس جي أل تي 2" SGLT2 inhibitors (المستخدمة في علاج النوع الثاني من السكري وقصور القلب وأمراض الكلى)، ومحفزات مستقبلات "جي أل بي- 1" GLP-1 agonists (المصطلح الشامل لأدوية مثل "أوزمبيك" Ozempic و"مونجارو" Mounjaro، المستخدمة لعلاج النوع الثاني من السكري والسمنة، و"البيسفوسفونات"bisphosphonates (المستخدمة لعلاج هشاشة العظام)، إذ تشكل هذه الأدوية بارقة أمل في تعزيز متوسط العمر المتوقع، ومع ذلك يرى خبراء أن تحقيق تقدم حقيقي في المملكة المتحدة يستلزم تنفيذ إجراءات صحية عامة شاملة على مستوى البلاد، ويُعد التدخين مثالاً بارزاً على التأثير القوي والواضح للتشريعات في تحسين الصحة وطول العمر، فمنذ عام 1993 أدت الزيادات الضريبية الكبيرة على السجائر إلى تراجع حاد في مبيعاتها، ومع فرض حظر التدخين في الأماكن العامة خلال العقد الأول من القرن الـ 21 سجلت معدلات التدخين انخفاضاً كبيراً، مما انعكس تراجعاً في الوفيات أيضاً، إذ انخفض معدل وفيات سرطان الرئة 53.2 في المئة لدى الرجال و20.7 في المئة لدى النساء خلال الفترة الممتدة بين عامي 1993 و2018، ولكن ماذا عن الأمراض الجديدة التي تتهدد الصحة؟ أي السمنة، وأنماط الحياة الخاملة، والاستهلاك المفرط للكحول.
من وجهة نظر الدكتورة رالي تتوافر إمكانات كبيرة لتطبيق إجراءات مالية وتنظيمية تستهدف مكافحة السمنة عبر الحد من الأطعمة غير الصحية، بدلاً من تحميل الأفراد وحدهم هذه المسؤولية، فمثلاً في المستطاع فرض ضوابط على أماكن إنشاء مطاعم الوجبات السريع، مثل عدم السماح بانتشارها قرب المدارس أو في المناطق المحرومة، إضافة إلى تنفيذ إجراءات للحد من محتوى الدهون والملح والسكر في الأطعمة المصنعة، مما يحقق تأثيراً واضحاً لا شك فيه، وتؤكد رالي أن "الإجراءات التي تطبق على مستوى المجتمع تؤتي أثراً أكبر من الاعتماد على تغييرات السلوك الفردي، ذلك أن الأشخاص الأكثر رفاهية هم السكان الذي يستجيبون غالباً للرسائل التوعوية، فيغيرون عاداتهم الغذائية إلى الأفضل ويزيدون نشاطهم البدني" [بينما تواجه الفئات الأقل حظاً صعوبة في الاستجابة لهذه الرسائل بسبب محدودية الإمكانات المادية].
فينش يوافق الدكتورة رالي الرأي على ضرورة "التدخل على مستوى السكان"، موصياً بخطوات تشمل تقييد الإعلانات الخاصة بالأطعمة غير الصحية، وتحفيز الشركات على تعديل تركيبة ومكونات منتجاتها لتصبح أكثر صحة، وذلك عبر فرض ضرائب تحفيزية (من قبيل ضريبة السكر التي أظهرت فعلاً نتائج واعدة في هذا المجال).
وفي الخطة الصحية العشرية التي أصدرتها الحكومة البريطانية حديثاً، والتي تحدد سبل تطوير خدمات "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" وإعادة هيكلتها، يرد أن الهدف العام يتمثل في "تقليص الفجوة في متوسط العمر المتوقع بين أغنى المناطق وأفقرها إلى النصف، مع رفع المتوسط لجميع السكان"، وفي هذا الإطار ستتخذ إجراءات لمكافحة السمنة عبر تقييد إعلانات الوجبات السريعة الموجهة للأطفال، وحظر بيع مشروبات الطاقة كثيرة الكافيين لمن تقل أعمارهم عن 16 سنة.
هل تفي هذه الخطة بالمطلوب؟ للأسف لا يبدو كذلك، إذ تحذر رالي من أن "مستوى تدهور صحة السكان قد بلغ مرحلة حرجة تستدعي وضع الصحة العامة والوقاية من الأمراض في صدارة الأولويات وتعبئة جميع الموارد لها"، مضيفة "أعتقد أننا بحاجة إلى أن نكون أكثر جرأة في تبني سياسات صحية وقائية مما نحن عليه الآن".
© The Independent