ملخص
ذكر أحد النقاد أن فيلم "القاهرة 30" لنجيب محفوظ وصلاح أبو سيف، هو اقتباس من فيلم المخرج الأميركي بيلي وايلدر "الشقة"، لكنه لم ينتبه إلى أن رواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" الماخوذ عنه الفيلم المصري نشرت عام 1945 أي قبل عقد ونصف العقد من تحقيق بيلي وايلدر "الشقة"
في الحقيقة، وبعد كل شيء، تبدو لنا حكاية فيلم "القاهرة 30" الذي حققه صلاح أبو سيف عام 1966 في اقتباس عن واحدة من أقوى روايات نجيب محفوظ، قبل "الثلاثية"، وهي المعروفة قبل السينما بـ"القاهرة الجديدة"، تبدو حكاية محيرة حقاً.
فالذي حدث هو أن واحداً ممن يكتبون عن الإنتاج السينمائي الجديد، وهم دائماً كثر، وغالباً ما يتسمون بجهل ربما يكون ناتجاً من طيبة قلب، حين عرض الفيلم وشاهده في واحد من عروضه الأولى أسرع إلى صحيفته ليكتب مقالاً يقول منذ عنوانه إنه فيلم مقتبس عن فيلم أميركي كان حقق قبل ذلك بما لا يقل عن ست سنوات هو "الشقة" من إخراج بيلي وايلدر عن سيناريو كتبه هذا الأخير بنفسه شراكة مع رفيقه في الكتابة في ذلك الحين، آي إي إل داياموندز، مستشهداً لتأكيد كلامه بالتشابه الكبير ليس فقط بين موضوعي الفيلمين، وحتى في بعض المواقف الحوارية. والحال أن الصحافي لم يكن مخطئاً فيما كتب والوقائع حاضرة لتفتي بصدق ما يقول.
ولكن في المقابل كان ثمة في كلامه غلطة فظيعة لم يتنبه إليها إلا متأخراً، وبعد ما نبهه إليها الآخرون. وهي لا تتعلق بتواريخ ظهور الفيلمين، ولكن بتاريخ من الغريب أنه لم يخطر في باله: تاريخ صدور رواية "القاهرة الجديدة" التي نشرها محفوظ للمرة الأولى عام 1945، أي قبل عقد ونصف العقد من تحقيق بيلي وايلدر "الشقة". وبالطبع قبل عقدين من تحقيق صلاح أبو سيف لاقتباسه السينمائي للرواية المحفوظية.
تفضيلات محفوظية
ونحن لئن كنا قد قلنا أول هذا الكلام إننا أمام حكاية محيرة، فإن حيرتنا تكمن ها هنا في أنه إذا كان ثمة "سرقة" في الأمر أو حتى استلهام أو حتى تشابه، فلا يجب البحث عنه في المقارنة بين الفيلمين، بل في المقاربة بين الفيلم الأميركي ورواية نجيب محفوظ. ولعل دراسة معمقة لتلك المقاربة تكون قادرة ليس على تبديد حيرتنا، بل على تعزيزها، وربما لسبب بسيط، وهو أن من العسير منطقياً الادعاء بأن وايلدر قد "لطش" الحبكة من أبو سيف، فالفيلم الهوليوودي ظهر قبل سنوات من الفيلم المصري، ولكن من العسير أكثر أن يكون "لطشها" من رواية محفوظ التي لا شك أنها كانت متداولة زمن تحقيق وايلدر فيلمه، لكن محفوظ لم يكن مترجماً حينها، وبخاصة بالنسبة إلى "القاهرة الجديدة"، كما أنه لم يكن معروفاً في زمن كان عليه أن ينتظر فيه أكثر من ربع قرن قبل أن ينال أرفع جائزة أدبية في العالم (جائزة نوبل) وتعم شهرته هذا العالم، ويصل الأمر إلى حد اقتباس السينما المكسيكية روايتين له، هما "بداية ونهاية" و"زقاق المدق" في فيلمين لا نكشف سراً إن نقلنا عن محفوظ أنه فضلهما عن معظم ما حققته السينما المصرية عن أعماله، مع أنه أخذ عليهما مبالغة في اللجوء إلى المشاهد الجنسية!
ونقول "معظم ما حققته السينما المصرية" بالنظر إلى أن أستاذنا الكبير كان لا يخفي أن "القاهرة 30" يمكن اعتباره من أفضل اقتباسات أعماله في مصر إلى جانب "بداية ونهاية" و"الجوع"، وهذا الأخير عبارة عن أفلمة لجزء من "ملحمة الحرافيش" حققها علي بدرخان. ولنُنهِ هنا هذا الحديث الجانبي إنما المضيء على فصل من فصول علاقة نجيب محفوظ بالسينما، لنتوقف عند "القاهرة الجديدة".
من واقع الحياة الجديدة
كانت رواية "القاهرة الجديدة" (وهو لم يكن عنوانها الأصلي، إذ إنها صدرت للمرة الأولى كـ"فضيحة في القاهرة" قبل أن تقرر الرقابة لها عنوانها الجديد. وهو على أية حال نفس العنوان الذي ستبدل الرقابة السينمائية لاحقاً به "القاهرة 30" حين قدم لها صلاح أبو سيف فيلمه...).
المهم أن هذه الرواية التي كتبها محفوظ آخر سنوات الحرب العالمية الثانية لتكون أول واحدة بين سلسلة رواياته الكبرى التي تتناول التاريخ الاجتماعي للقاهرة، أكثر مما لمصر على أية حال، والتي ستختتم بالثلاثية ("بين القصرين"، و"قصر الشوق" و"السكرية") التي بدورها انتهى كاتبنا منها مع حلول ثورة الضباط الأحرار ليتوقف سنوات طويلة عن الكتابة وقد هيمنت عليه حيرة إبداعية تسببت فيها "الثورة" وموقفه "الوفدي العتيق منها" ليعود، بعد تجريبية "اللص والكلاب" و"السمان والخريف"، إلى نوع من ميتافيزيقية مثلتها "أولاد حارتنا" (1962).
المهم في الأمر هنا أن "القاهرة الجديدة" كانت البداية الحقيقية والقوية لتلك المرحلة "الواقعية الاجتماعية" من مسار نجيب محفوظ الروائي العظيم. تماماً كما أنها، على الشاشة الكبيرة التي أمعنت في اقتباسات للنتاج المحفوظي، ودائماً من دون أن يمد هو نفسه يداً للمساهمة ولو التقنية في تلك الاقتباسات التي قد تنوف عن 30 فيلماً علمت جزءاً مهماً من تاريخ السينما المصرية، تميزت، كفيلم بفتح آفاق مدهشة أمام استشراء تدخل للفن السابع في "دراسة التاريخ المصري الاجتماعي"، بخاصة أن صلاح أبو سيف بدا هنا أميناً للنص المحفوظي وما بين السطور فيه، أمانته له في كتابة السيناريو الفيلمي المقتبس عن رواية محفوظ "بداية ونهاية" (1949، بالنسبة إلى الرواية و1960 بالنسبة إلى الفيلم) التي بدوره لم يكتب محفوظ السيناريو لها هو الذي كتب لأبي سيف نفسه، سيناريوهات مميزة عن نصوص لآخرين بينهم إحسان عبدالقدوس وأمين يوسف غراب ("شباب امرأة").
زواج مع وقف التنفيذ
يدور موضوع "القاهرة الجديدة" كما نعرف، بخاصة من حول محجوب عبدالدايم، الشخصية التي صورها نجيب محفوظ تصويراً رائعاً منطلقاً فيها، كما سيخبرنا فيما بعد، من شخص من معارفه كان التقى به باكراً ووجد لديه من الطموحات والأحلام الاجتماعية الكبيرة ما لا يمكن تحقيقه بالوسائل الشريفة، مما كشف حتماً بأنه سيكون بطلاً مضاداً، حتى في علاقاته النسائية وفي الأساليب التي يتبعها للوصول إلى أهدافه في مجتمع مديني تذوب فيه القيم على مذبح الواقع وتداس فيه الأخلاق مع تعليق الذنوب كلها على المجتمع. ومن هنا، إذ ينهي محجوب دراسته الجامعية كما حال أبناء طبقات اجتماعية بأسرها، سيكتشف أن الدروب ليست ممهدة له كي يصل إلى غاياته بصورة طبيعية، يلتقي ولو مع الحد الأدنى من القيم، ويتزامن اكتشافه ذاك مع تعرفه بواحد من كبار موظفي الدولة يتبين تطلعاته فيقترح عليه أن يتحول إلى نوع من غطاء اجتماعي لعلاقة يقيمها أحد كبار السلطة بعشيقة له، وذلك بأن يتزوج الشاب من تلك العشيقة زواجاً عرفياً ويعيش في شقة تتردد هي إليها بوصفها زوجته كي يوافيها هناك عشيقها الحقيقي و"لا مين شاف ولا مين دري"، كما يقول له صديقه الموظف. ولا يتردد محجوب طويلاً ويركز الكاتب أحداث الرواية عليه تماماً منذ عقد الصفقة التي سيلتزم هو بتفاصيلها مدركاً أن علاقته بـ"زوجته" لن تتعدى أبداً علاقة المصلحة المشتركة، ولو لفترة ستنقضي من الزمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النهاية في الانتظار
باختصار، في هذه الرواية المبكرة إلى حد ما، شرع محفوظ الخارج قبل حين من دراسة الفلسفة، والساعي قبل ذلك إلى الغوص روائياً في الحاضر، ولكن بصورة رمزية من خلال "ثلاثية" فرعونية لم يجد فيها ولا في أجوائها دربه الأدبي الحقيقي، شرع في تشريح المجتمع المصري في أعمال واقعية تكشف عن وعي مبكر لديه بضرورة التغيير، الأخلاقي ربما أول الأمر، ولكن الأكثر شمولاً بعد ذلك والأكثر ارتباطاً بالمجتمع المصري/ القاهري في عمق أعماقه. بالتالي ليست رواية "القاهرة الجديدة" سوى إشارة تأسيسية على طريق متن روائي بدا ومنذ تلك الرواية تحديداً، وكأنه ينطلق من خريطة اجتماعية – اقتصادية – وسياسية حتى للقاهرة، ككناية بالضرورة عن مصر كلها في ذلك الحين، موزعاً القيم والأبعاد التي يبحث عنها الكاتب الشاب كترياق للمآسي التي تعيشها مصر، وهي بالتحديد المآسي التي وصفها لنا من خلال الشخصيات الأساسية في تلك الرواية نفسها والحلول التي لم تجد أمامها سواها. وكانت إما حلولاً طوباوية لم تُجدِ نفعاً: الحل الذي اختاره علي طه (الأكثر تمسكاً بالقيم بين الخريجين الرفاق)، والحل التبسيطي القائم على الثرثرة الثقافوية الذي اختاره أحمد بدير... ولكن بخاصة الحل الانتهازي على رغم واقعيته، والذي اختاره محجوب عبدالدايم فأوصله إلى جحيمه برفقة إحسان، الشخصية النسائية الأهم في الرواية، والتي رمزت إلى سقوط أخلاقي لا يد لها فيه، ولا مهرب لها منه على أية حال.