ملخص
تشهد مناطق حزام بغداد عملية ممنهجة تحمل في طابعها أبعاداً طائفية لإفراغ هذه المناطق من سكانها وتهجيرهم من طريق التضيق عليهم أو محاولة ابتزازهم لغرض بيع أراضيهم.
ينظر حسن ناصر بحيرة وانكسار، وهو يرى الحفار مسرعة لتهديم جدران منزله الذي ورثه عن أبيه. أفرغ أغراض المنزل البسيطة لتتصاعد حدة بكاء عائلة حسن المكونة من 11 فرداً مع صوت الحفار وهي تهدم أركان المنزل وتهدم معها أحلامهم وذكرياتهم.
قرار صادم من وزارة النفط العراقية تفاجأ به أهالي منطقة اللطيفية، الواقعة جنوب العاصمة بغداد، بهدم ما يقارب 92 منزلاً تأوي 500 عائلة بحجة تعدي هذه المنازل على أنبوب النفط المار في المنطقة.
يقول أحد أهالي المنطقة، "سكنا في أربعينيات القرن الماضي ولم يكن أنبوب النفط قائماً، وعندما مد الأنبوب فصلت مسافة بين منازلنا وبينه. وعلى مر السنوات لم نتعد على أنابيب النفط". وأضاف، "فوجئ أهالي المنطقة بقرار يلزمنا الابتعاد 115 متراً، وهذا يعني فقدان منازلنا وأراضينا على أن نتعهد تهديم منازلنا ودفع تعويض لوزارة النفط، وسيتعرض من يرفض هدم داره لعقوبة السجن".
اضطرت العائلات بعد اعتقال أصحاب المنازل إلى جلب حفارات لهدم منازلها بغية إنقاذ ذويهم من عقوبة السجن لمدة تسعة أشهر التي تجدد في حال عدم امتثال صاحب الدار لقرار المحكمة.
"اضطرت إلى هدم الدار لإنقاذ والدي من السجن، فذهبت إلى المحكمة للإبلاغ بأنني هدمت البيت وبدورها أرسلت المحكمة معي موظفاً لكي يؤكد الهدم"، هذا ما قاله أحد أهالي المنطقة بعدما قرر هدم داره إثر اعتقال والده الذي رفض الامتثال لقرار الهدم. وتابع "هل من المعقول أن أتحمل كلفة هدم منزلنا التي تبلغ مليوناً ونصف مليون دينار عراقي (1000 دولار) وأن أتوسل لصاحب الحفار لهدم الدار كي أنقذ والدي من عقوبة السجن".
بنيت غالب المنازل في منطقة اللطيفية في فترة الخمسينيات والستينيات ويمتلك الأهالي عقوداً زراعية تجدد كل عام مع دفع كلف الحصص المائية وأجور الكهرباء، والمنازل بعيدة عما تسمى "منطقة المحرمات" القريبة من أنبوب النفط وفق ما قررته شركة النفط التي مدته عام 1976. ولم تشهد المنطقة أي تجاوزات على الأنبوب بل سعت العائلات لحماية هذه الأنابيب خلال الفترات الأمنية المضطربة التي عاصرتها المنطقة، وفق ما ذكر الأهالي. لم يُحدد بديل للعائلات التي هدمت منازلها، ولم يتم تعويض الأهالي وهم من أصحاب الدخل المحدود والعاملين بالزراعة، مما اضطرهم إلى السكن بجوار أنقاض منازلهم على أمل إنصافهم والعدول عن هذا القرار.
عملية ممنهجة
تشهد مناطق "حزام بغداد" ومنها منطقة اللطيفية عملية ممنهجة تحمل في طابعها أبعاداً طائفية لإفراغ هذه المناطق من سكانها وتهجيرهم من طريق التضييق عليهم أو محاولة ابتزازهم لبيع أراضيهم، ففي المناطق المجاورة لمنطقة اللطيفية مثل المحمودية والمحاويل يمر ذات الأنبوب النفطي الذي شهد الجدل، وهنا اكتفت الحكومة بأخذ تعهدات من الأهالي بعدم التعرض والتجاوز على الأنبوب النفطي.
لمنطقة اللطيفية أهمية جغرافية إذ يحدها نهر الفرات من الغرب ونهر دجلة من الشرق كما يمر بها الخطوط الناقلة للكهرباء ومستودعات النفط وتقع على طريق بابل – بغداد إذ تربط العاصمة بمناطق الفرات الأوسط كما تشكل نقطة مهمة على الطريق الدولي، وتهيمن "فصائل روح الله" وهي مجموعة فصائل مرتبطة بـ"حزب الله" على مناطق شرق اللطيفية ومناطق الكيلو 14 والكيلو 5 والعمران والبوعوسج، وهي مناطق محاذية لجرف الصخر وتقع فيها منشآت التصنيع العسكري السابق القعقاع وحطين. وبدأت هذه الفصائل بزراعة مناطق شرق اللطيفية بمحاصيل الذرة والحنطة والشعير ليكون محصولها مورداً لها، وبدأ هذا الفصيل بالتوسع على طريق بغداد وصولاً إلى الشارع الرئيس.
يشكل "حزام بغداد" نحو 84 في المئة من مجمل المساحة الكلية لمحافظة بغداد وتتصف مناطقه بكونها مناطق خصبة تشكل عنصراً مهماً لرفد الاقتصاد الزراعي لمدينة بغداد، إذ تشتهر بكثرة بساتين النخيل وزراعة مختلف المحاصيل على مدار السنة. ويضم حزام بغداد عدة أقضية منها قضاء المدائن شرقاً، والمحمودية جنوباً، وقضاء أبوغريب غرباً، وقضاء الطارمية شمالاً، في حين تنفتح حدودها الشمالية الشرقية على قضاء بعقوبة التابع لمحافظة ديالى.
عقود زراعية
"يواجه بعض الأهالي عدم إمكانية تجديد العقود الزراعية من قبل وزارة الزراعة بحجة وجود 'مؤشر أمني' من دون تحديد طبيعة هذا المؤشر مما يتسبب في رفض وزارة الزراعة تجديد العقود للأهالي، ومع مرور الوقت يخسر صاحب الأرض ما يملكه بسبب هذه المشكلة"، هذا ما يقوله أحد أهالي منطقة اللطيفية.
في السياق يوضح نائب مدير مركز الرافدين الدولي للعدالة وحقوق الإنسان عادل الخزاعي، أنه "نظرياً، تعد العقود الزراعية الرسمية سنداً قانونياً لحيازة الأرض وتضمن حقوق المستفيدين منها بموجب القانون العراقي رقم 35 لعام 1983 المعدل وقوانين وزارة الزراعة. لكن فعلياً، غياب سلطة الدولة في مناطق النفوذ المسلح وضعف تطبيق القانون سمح للميليشيات بتجاوز هذه العقود، واستخدام أساليب من قبيل الإكراه، وتزوير المحررات الرسمية، أو الضغط على الدوائر الزراعية لفسخ العقود بحجج أمنية أو غياب المستفيد لأعوام، وهو ما يسهل الاستيلاء على الأراضي".
وأضاف الخزاعي، "وعليه فالمحاولات مستمرة من قبل الميليشيات وجهات سياسية متنفذة للهيمنة على أراضي حزام بغداد بحجة الاستثمار واستغلالها اقتصادياً، فارتفعت فيها المجمعات السكنية ذات البناء العمودي وتحولت بساتينها إلى أراضي كونكريتية. وعلى المدى البعيد، يمكن النظر إلى ما يجري في مناطق حزام بغداد على أنه يشكل مدخلاً مهماً من مداخل التغيير الديموغرافي واسع المدى من طريق تهجير السكان الأصليين وتحويل جنس الأراضي الخصبة من زراعية إلى استثمارية من دون اعتبار لحقوق الملكية للمواطنين الذين لديهم سندات رسمية منذ عشرات السنين".
صراع الميليشيات على أراضي حزام بغداد
في 27 يوليو (تموز) الماضي شهدت بغداد اشتباكات في إحدى دوائر الزراعة بمنطقة الدورة بين القوات الأمنية ممثلة بالشرطة الاتحادية وفصائل مسلحة. بدأت المشكلة بين فصيلين مسلحين بعد تغيير مدير الزراعة في منطقة الدورة، ثم تدخلت القوات الأمنية، مما تسبب باندلاع اشتباكات بينها وبين أحد الفصيلين أدت إلى إصابة تسعة من عناصر القوات الأمنية. أثارت عملية الاشتباك تساؤلات حول أهمية منصب مدير الزراعة في منطقة الدورة وما يخفي في طياته من تساؤلات. وأظهرت الاشتباكات أن أراضي "حزام بغداد" تتداخل فيها مصالح أكثر من فصيل مسلح بهدف الهيمنة عليها وخلق شبكة موالين لحزب أو فصيل ما وإسكانه في هذا الحزام ليحل محل السكان الأصليين، فأصبحت هذه المناطق مركز جذب للفصائل للسيطرة على إجراء واسعة منها وتحويلها إلى أراض سكنية ومنتجعات ترفيهية.
وكان بيان لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني شدد على "متابعة كل تداعيات حادثة الاعتداء الآثم على إحدى دوائر الزراعة في جانب الكرخ". وبحسب البيان وبعد إلقاء القبض على مدير دائرة زراعة الدورة السابق الذي استعان بعناصر مسلحة للحيلولة دون توقيفه، وثبوت مخالفاته وفساده، وفي ضوء ما ورد من شكاوى عديدة، فقد "أمر السوداني بتشكيل لجنة تحقيقية برئاسة نائب رئيس ديوان الرقابة المالية، وعضوية ممثلين عن هيئة النزاهة الاتحادية، ومكتب رئيس مجلس الوزراء، لغرض التدقيق والنظر في الشكاوى والمظالم التي تعرض لها الفلاحون والمزارعون في منطقة الدورة وأطراف محافظة بغداد".
"كتاب حزب الله"
بعد حادثة مدير الزراعة في منطقة الدورة أصدر "الحشد الشعبي" بياناً أوضح فيه "عدم التساهل مطلقاً مع أي فرد يتجاوز الأوامر أو يخالف السياقات الأمنية المتبعة وأي تصرف فردي أو جماعي يخرج عن هذا الإطار يعد خرقاً للقانون".
ولعل هذا البيان كان بمثابة اعتراف واضح بتورط جهات منضوية تحت "الحشد" في عملية الاشتباك التي حصلت، وتورط الفصائل بالمخالفات التي تحدث في مناطق "حزام بغداد". وقد دخلت "كتائب حزب الله" في حرب البيانات إذ كتب المسؤول الأمني فيها، أبوعلي العسكري، تغريدة على منصة "إكس" وصفت الاشتباكات التي حدثت بأنها "فخ محكم نسج خيوطه خونة الشيعة". وأكمل قائلاً، "لقد استدرج شبابنا إلى هذا الفخ الخبيث ولكي لا نعطي الذرائع لتشويه سمعتنا فقد قررت قيادة 'حزب الله' إيقاف عملها في مشروع طوق بغداد وتسليم ما في عهدتها إلى قيادة الحشد الشعبي".
يذكر أن مشروع "طوق بغداد" أطلق عام 2014 رسمياً كعملية أمنية لحماية العاصمة عبر تطهير المناطق المحيطة بها من التهديدات لكنه تحول لاحقاً إلى غطاء لإعادة رسم التركيبة السكانية عبر تهجير سكان محيط بغداد، وإحلال سكان آخرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف يتم الاستيلاء على الأراضي؟
يشير نائب مدير مركز الرافدين الدولي للعدالة وحقوق الإنسان عادل الخزاعي إلى أن "مركز الرافدين رصد عبر فريقه الميداني عمليات التغيير الديموغرافي الممنهج التي تجري في مناطق حزام بغداد، وهي مناطق ذات طابع ريفي تسكنها غالبية سنية". وعد أن "ما يحصل هناك ليس مجرد تجاوزات فردية، بل هو مشروع متكامل للاستيلاء على الأراضي والعقارات ينفذه الحشد الشعبي والفصائل، بدعم مباشر أو غير مباشر من أطراف داخل مؤسسات الدولة، بهدف فرض واقع سكاني جديد يخدم أجندات سياسية وطائفية تتماشى مع توجهات الجهات الحكومية والحشد وجهات أيديولوجية دينية أصولية شيعية تتبع في أوامرها للولي الفقيه في إيران".
يكمل الخزاعي أن الآلية المتبعة تبدأ بالاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي، سواء عبر فسخ العقود الزراعية أو عبر الضغط والابتزاز أو إصدار قرارات إخلاء بحجج أمنية أو اعتقالات تعسفية لأبناء هذه المناطق وتهديدهم بالسجن بتهمة الإرهاب ثم تقتلع الأشجار، وتطمر الأنهر، لتغيير طبيعة الأرض وجعلها قابلة للتقسيم بعد ذلك، تبدأ عملية توزيع الأراضي على منتسبين ينتمون إلى فصائل مسلحة، أو بيعها بمبالغ كبيرة إلى مستثمرين تابعين لتلك الجهات.
كيف تبدو مناطق حزام بغداد حالياً
بحسب تقارير ميدانية وشهادات الأهالي التي وثقها "مركز الرافدين الدولي للعدالة وحقوق الإنسان" خلال الفترة (2018–2024)، فإن أسوأ المناطق التي تغيرت معالمها والبنية الديموغرافية لها هي منطقة جرف الصخر (جنوب غربي بغداد) إذ تحولت بالكامل إلى منطقة مغلقة بعد تهجير سكانها الأصليين ويبلغ عدد سكانها المهجرين ما يقارب 150 ألف نسمة أما اللطيفية واليوسفية (جنوب بغداد) فقد شهدت أكبر عمليات ابتزاز لعقود الأراضي الزراعية. اللطيفية وحدها تم الاستيلاء على مئات الدونمات فيها بعد فسخ العقود، وتهجير قرابة 150 عائلة. أما في ما يخص منطقتي التاجي والطارمية (شمال بغداد) فقد تعرضت مساحات واسعة فيها لمحاولات تغيير ديموغرافي من طريق مضايقات مستمرة للسكان الأصليين حيث جرفت أراضي كبيرة في التاجي وجرى تقطيعها ودخول مستثمرين متنفذين من "الحشد" إليها لبناء مجمع سكني. أما مناطق أبو غريب والرضوانية التي تقع غرب بغداد، فيتم فيها شراء أراض بأسعار منخفضة تحت الضغط، أو يتم الاستيلاء عليها بالقوة، خصوصاً الأراضي القريبة من المطار، ويجري فسخ عقود مالكي الأراضي الذين عاشوا فيها عشرات السنين.
بالعودة إلى الخزاعي، فإن "أسلوب الاستحواذ في حزام بغداد يكون على نمط أساسه أولاً إفراغ المناطق عبر التهجير، حيث يتم التضييق الأمني الممنهج وشن اعتقالات عشوائية، أو تهديد السكان بالقتل أو الاعتقال أو الخطف، مما يضطرهم للنزوح وترك أراضيهم لتصبح مناطق شبه خالية من السكان. أما النمط الثاني فيتمثل بالابتزاز المباشر والتهديد، إذ يتعرض الأهالي لابتزاز مالي أو إجبارهم على بيع أراضيهم بأسعار بخسة، عبر التلويح بتقارير أمنية أو إدراج أبنائهم على لوائح الاتهام بالإرهاب. وفي معظم الحالات، تقوم جهات مسلحة بفرض سيطرتها عملياً قبل استكمال أي إجراءات قانونية، ليفرض واقع يصعب تغييره لاحقاً".
قصة منطقة عرب جبور
"نشأت أنا وإخوتي في عائلة تمتهن الفلاحة، كانت لنا قطعة أرض تبلغ مساحتها 120 دونماً لوالدي وأعمامي الثلاثة، درسنا فيها وكبرنا وأكملنا الجامعات وكانت بمنزلة وطن صغير لنا"، هذا ما يقوله صباح الفلاحي، أحد أهالي منطقة "عرب جبور" عن تجربته بفقدان أرضه البالغة مساحتها 30 دونماً. ويكمل، "شهدت المنطقة، حالها كحال باقي مناطق العراق، عمليات إرهاب فغادر كثير من الناس أراضيهم إلى أماكن أخرى بسبب الأحداث التي مرت فيها المنطقة، ومن بقوا في مزارعهم تعرضوا لحملات اعتقالات بدأتها القوات الأميركية وبعدها حلت محلها الميليشيات والأحزاب المتنفذة لتستولي على الأراضي بقوة سلاح الدولة كونهم يعملون تحت مظلتها وشيدوا مجمعات سكنية مثل جوهرة بغداد، وشناشيل والحوراء، وجزء كبير من هذه الأراضي مراقب بكاميرات حرارية وشركات أمنية تمنع الدخول إلى المنطقة كونها ضمن الاستثمار الذي حصل عليه السياسيان خميس الخنجر ومشعان الجبوري والفصائل المسلحة".
كما شهدت المنطقة حملات اعتقالات لأصحاب الأراضي الذين رفضوا بيع أراضيهم بتهمة الإرهاب وهنا بدأوا مساومة النساء بالطلب منهن أن يذهبن إلى ذويهن في السجون لإصدار وكالات لهن، ليقوموا بعدها بشراء الأراضي من النساء من طريق الوكالات، والثمن هو إطلاق سراح أبنائهن وأزواجهن.
وأوضح الفلاحي أن "عملية إتلاف هذه المناطق لا تشمل فقط تخريب البساتين بل شملت حتى تراب هذه الأرضي إذ جعلوا منها مستنقعات غير صالحة للزراعة، بيع ترابها لدفن المجمعات قبل بنائها، ومنها ما باعوه لمقاولين لدفن طريق الخط السريع الذي يربط بغداد باليوسفية وصولاً إلى كربلاء والنجف، حتى اسم قريتنا لم يسلم من التغيير فتغير اسمها من الزمبرانية إلى المناري".