ملخص
تنتمي الروائية الفلسطينية ليانة بدر إلى جيل من الروائيات، اللواتي خضن تجربة الحرب والمنفى، وأعدن صياغتها من منظور ذاتي نسوي، يدمج بين العاطفة والفكر، وبين الخاص والعام. منذ بداياتها، ظهرت بدر كقلم نسائي مختلف، يكتب من قلب التجربة، لا من هوامشها، صوت لا يخجل من التعبير عن الحب والقلق والانكسار، كما لا يخاف من مواجهة الاحتلال والخذلان السياسي والوطني
تُعد "شرفة على الفاكهاني"، 1983، التي تضم ثلاث قصص عن نساء فلسطينيات يعشن اجتياح بيروت، من أبرز أعمالها، كتبتها في سياق تجربتها الشخصية أثناء العدوان الإسرائيلي عام 1982، حين كانت تقيم في حيّ الفاكهاني، الذي كان معقلاً للمقاومة الفلسطينية آنذاك. هذا العمل لا يُصنّف بسهولة ضمن قالب الرواية أو القصة أو السيرة، بل هو نص يقع في منطقة بين الاعتراف الشخصي والتوثيق التاريخي والتأمل الوجودي، ليكون بمثابة شهادة نسوية فلسطينية نادرة عن الحرب والحصار والموت الذي حل على بيروت. فالكاتبة لا تكتفي بسرد الوقائع، بل تُنصت لنفسها، لجسدها، لمخاوفها، لعلاقتها بالمدينة، بالرجال، بالمقاتلين، بالأمهات، بالملاجئ، بالهواء الثقيل لرائحة البارود.
ومن خلال الشرفة، التي هي رمز مجازي قوي في النص، تتحول نظرتها للعالم إلى عدسة فكرية ورؤيوية، ترى منها بيروت وهي تتشظى، لكنها ترى أيضاً ذاتها وهي تتغير، تتعرّى من الأوهام، وتتشبث بالكتابة كوسيلة للبقاء في زمن العدم. نقرأ من "شرفة على الفاكهاني": "أذكر أن للبحر رائحة في بيروت، تهب كلما اتسع الأفق، وبان عن الأزرق الجميل، بعد الحرب صار هناك براكسات الصفيح، ولم تحجز الرائحة".
الأمس واليوم
في روايتها الصادرة حديثاً "ورد السياج"، دار الثقافة الجديدة، يبدأ السرد عام 2021، في أعقاب الإغلاق بسبب وباء كورونا، تجلس الراوية في شرفة بلدة، تقع على أطراف مدينة رام الله. وانطلاقاً من نقطة الحاضر، وهي تتأمل عبور رجل أسمر غامض، ربما يكون أحد الفدائيين الهاربين من السجن، والمطاردين المطلوب تسليمهم، يتراجع السرد في "فلاش باك" بعيد إلى عام 1973، إلى شارع الفاكهاني الذي يقع في منطقة "الطريق الجديدة"، في قلب بيروت على وجه التحديد، وتتحول دفة السرد من الأنا، إلى راوٍ عليم، يُراقب الشابة الفلسطينية هند الصحافية التي جاءت من القدس إلى بيروت بسبب زواج عائلي مرتب مع الطبيب الفلسطيني أشرف.
تود هند أن تُجري حواراً مع سُمية زوجة أحد الشهداء الفلسطينيين. تمضي متجهة إلى الفاكهاني، تنظر إلى الشوارع والمحلات والأماكن، تتذكر فادي وتحس بشوق كبير لرؤيته، هو المختلف عنها في كل شيء، المذهب والعائلة والبلد، هو "المسيحي الذي يُعلن ثوريته، والثوري الرصين الذي يحاكم الأشياء بعين المصور المتمرد".
في كتابة بدر تشتبك الذاكرة مع الحاضر، فتبدو شخصياتها وكأنها تمشي وسط الحطام، تبحث عن حبٍّ مؤجل، أو بيت مهدوم، أو لحظة صدق في واقع مخيف. ويأتي عنوان الكتاب من قصيدة لمحمود درويش في ديوانه "ورد أقل"، حين يقول: "إذا كان لي أن أعيد اختيار البداية، أختار ما اخترت، ورد السياج".
مسارات ومصائر
تخوض الرواية في فضاء سردي كاشف عن حمولات عاطفية وفكرية. فالسرد لا يسير في خط مستقيم، بل يتشظى في مسارات متداخلة، يتتبع مصائر من بقوا ومن رحلوا، مما يجعل الرواية أقرب إلى محاولة تذكّر جماعي، يتداخل فيه صوت الراوية مع ذاكرة الأمكنة والأشخاص، حيث تستخدم الذاكرة كسلاح لفهم ما مضى، لا للبكاء عليه فقط، وعبر صوتها، تنبثق شخصيات الرواية الأخرى.
يتداخل السرد بين ضمير المتكلم والراوي العليم، صوت الأنا يمنح السرد طابعاً تأملياً، اعترافياً، حميمياً، ويقود القارئ إلى الدخول في نسيج التجربة الذاتية من دون وسيط. هذه الذات ليست بطلة تقليدية، بل امرأة متورطة في ذاكرتها، منشطرة بين الأمل والخذلان، وبين الفقد والرغبة في الاستعادة. ثم يتجلى هذا الانشطار في علاقة البطلة بشخصيات الرواية الأخرى، الذين تستدعيهم من بعيد، من زمن ومكان آخر، كي تكتب عنهم.
لا يبدو أبطال كاتبة "نجوم أريحا" مجرد شخصيات داخل حبكة روائية، بل إنهم يتحركون في مسرح السرد، محملين بمعانٍ إنسانية، ذات معادل موضوعي رمزي مع كل شخصية: عائشة، سمية، فادي، مروة، جورج، كلها وجوه ترتبط بالراوية، وتتقاطع مع أسئلتها عن الانتماء والخيانة والهوية، الخذلان، الخسارة، الأمل، كل هذه المعاني تستدعيها بدر كأدوات لتفكيك التجربة الفلسطينية، وإعادة تحليلها من زوايا عدة، بغرض تسليط الضوء على كل ما كان مع: المرأة المهمشة، المقاتل المتحول، الطفل الذي خذلته الحياة بفقدان والده وهو جنين، المقاتل الغائب أبداً، زوجة الشهيد التي ضاع عمرها هباء، آمنة التي نجت من مذابح صبرا وشاتيلا، أم جلال التي ظلت في بيروت بعد رحيل الفدائيين، وانتهى مصيرها إلى اكتئاب عميق تُمضيه أمام شاشة التلفزيون، في انتظار اتصال ابنها جلال الذي رحل إلى عمان، هذه الشخصيات كل منها يحمل في داخله جزءاً من الخسارة الفلسطينية الجماعية، والتشظي والمنفى.
سمية مثلاً، فتاة سورية من طبقة مهمّشة، وقعت في حب فدائي، ثم تُركت وحيدة بعد استشهاده، تحمل جنيناً لن يعرف أباه، لذا تتزوج من رجل ضعف عمرها. تُقدمها الرواية بوصفها ضحية صامتة لنظام يرفع شعارات الحرية، بينما يعجز عن إنصاف نسائه. إلى جانبها، تظهر عائشة، زميلة الراوية في المجلة، وهي شخصية قوية، عملية، تُمثل الجيل الجديد من النساء الفلسطينيات، المتصالحات مع فكرة أن لا شيء سيُمنح لهن إن لم يأخذنه بأنفسهن. لا تنتظر عائشة من أحد أن يُنقذها، بل تتحرك بإرادة واضحة.
أما جورج (أحمد العشي)، زوج عائشة المفقود الذي تتردد حوله الشكوك والذكريات، فيمثل شبح الثورة القديمة، ذلك المقاتل الذي صار اسماً في الأرشيف، ولا أحد يعرف إن كان حياً أم ميتاً، يبدو وجوده في الرواية بمثابة استدعاء لكل الرجال الذين ذهبوا من دون وداع، وتركوا خلفهم نساءً يربّين الأمل والخذلان معاً. لنقرأ: "منذ السادس من حزيران، حينما شقت أولى الدبابات الإسرائيلية طريقها إلى بيروت، وحتى منتصف آب، حينما بدأت ملامح اتفاق وقف إطلاق النار في السريان، جرى الكثير من الهدم والإصابات والدمار، انسحب المقاتلون الفلسطينيون نهائياً من الجنوب، ولم تسمع عائشة أي خبر من جورج. سألت عنه القيادة، والمكاتب، وكل من استطاعت العثور عليه، لكن أحداً لم يعطها إجابة شافية وافية عما جرى معه، هل اعتقله الغزاة واقتادوه إلى سجونهم؟ لم يكن هناك وقت للبكاء، لأنها تعرف أن الزمن ثمين، لذا لم تتوقف لحظة واحدة عن التفتيش عنه".
هناك أيضاً فادي، الشاب اللبناني المسيحي، الذي اختار الانضمام إلى المقاومة الفلسطينية، وتقع الراوية هند في حبه، يُمثل تجربة جيل عاش الثورة وتورّط في خيباتها، غادر بيروت مدة من الزمن، ثم اختار العودة إليها بملء إرادته. فادي لا يُقدَّم كبطل، بل كصدى لخيبة عاطفية، حال بينها وبينه اختلاف الهوية والدين، وواقعها كزوجة لم تتمكن من نيل حريتها: "لم يكن تركي إياه وارداً، لأنني لا أود ترك بيروت والعودة إلى حيث يعيش أهلي. كما لا يُمكنني الحياة وحيدة في بلد كل سنتيمتر مربع فيه مزروع بدوي الاشتباكات وانفجارات الأسلحة".
هكذا تُعيد ليانة بدر تشكيل الخريطة الإنسانية للشتات الفلسطيني من خلال شخصياتها. الجميع عالقون بين الذاكرة والفقد، بين المنفى الخارجي والمنفى الداخلي، وكل شخصية تعكس زاوية من الحقيقة المبعثرة في وجدان جيل لم يتوقف عن الرحيل والتشرد، ولم يملك فرصة حقيقية للعودة إلى وطنه. إنهم ليسوا أفراداً فقط، بل وجوهاً لغربة الفلسطيني ومنفاه.
أما بيروت الثمانينيات، كما تحضر في الرواية، فمدينة غير عادية، "تفور بالحياة، مهرجانات في جميع المناسبات والأنحاء، يشعر من يمشي في الشوارع كأنه يمتلكها، وكأنه كان فيها منذ الأزل". لكن بيروت، في الوقت نفسه، شاهدة على الحب والخذلان والموت، وموقع للمجازات الكبرى، التي تحكم مصير الفلسطيني داخل حدود المنفى، واللبناني المنتمي إلى القضية الفلسطينية، لذا غدت المدينة عقب الحرب فضاءً غريباً وممزقاً، يكشف عن تفكك العلاقة بين الذاكرة والمكان والأبطال.
بين الورد والشرفة
لا تبحث بدر عن البطولة بمفهومها التقليدي، بل عن المعنى وسط الفوضى، وعن صوت المرأة الفلسطينية، بوصفها شاهدة على التاريخ ومشاركة فيه، لا مجرد ضحية له. في حين تُمثل "شرفة على الفاكهاني" شهادة زمنية قريبة، عن الحرب الإسرائيلية على بيروت عام 1982، فإن "ورد السياج" تأتي بعد عقود، بوصفها إعادة تفكير أعمق في الذاكرة والزمن والهوية، من خلال قالب روائي ناضج ومتعدد الطبقات، يتوغل في استعادة ما حدث، وكتابته من جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تظهر براعة ليانة بدر في توظيف الكثافة الرمزية في البناء الروائي الموازي للواقع، حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن فخ المباشرة، عن طريق تداخل الأصوات، ووجود أكثر من راوٍ، إلى جانب تحول الأماكن أيضاً إلى شخصيات: مخيم شاتيلا، شارع الفاكهاني، بيروت القديمة، رام الله، كلها كيانات واقعية تستحضرها لتكون فاعلة في السرد.
ويتجلى بُعد "الميتاسرد" في "ورد السياج"، من خلال البنية السردية التي تكشف عن وعي النص بذاته كعمل مُتخيّل، الميتاسرد هنا لا يأتي كعنصر تقني فقط، بل خيار جمالي وفلسفي، يعكس انشغال الرواية بمسألة الهوية والذاكرة وحدود التخييل. فالرواية، عبر تقاطعات سردية فردية وجماعية، تتوقف عند أحداث وتواريخ بعينها، ترتبط بتحولات سياسية وجغرافية وتاريخية كبرى في القضية الفلسطينية، تطرح سؤالاً ضمنياً: هل نكتب لنفهم الواقع، أم لنُعيد تشكيله وفق رؤيتنا الخاصة؟
اللغة في الرواية تمتاز بواقعية السرد والوصف، مع جمل شعرية خافتة، وحنين مكثف، وتفاصيل دقيقة ترصد تقاطعات اللحظة الآنية بالذاكرة، والحياة اليومية بالمأساة العامة، بحيث تتضافر اللغة الحميمية والسياسية، مع حوارات اختارت لها الكاتبة اللهجة الفلسطينية.
تُظهر صاحبة "سماء واحدة" في "ورد السياج" قدرتها على تقديم الحكاية الفلسطينية من زاوية أنثوية، وجودية، تُقاوم النسيان عبر إعادة الحكي، والاحتفاء بذاكرة النساء الفلسطينيات المغيبات عن المرويات الكبرى. هذا الأسلوب هو ما يمنح الرواية نبرتها الخاصة، ويؤكد أن ما يُروى ليس فقط ما حدث، بل ما خُزن في اللاوعي العاطفي والفكري لجيل كامل، لأن ما جرى حقاً، كما ترى بدر، أكبر بكثير من "مسألة العد الزمني".