ملخص
تمضي الكاتبة المصرية مي خالد في متوالية "بلاط مزركش"، بين المكان والزمان، لتنسج سرداً حميمياً يحكي عن البيوت القديمة التي تحمل في زواياها ذكريات الطفولة، راصدة التحولات الاجتماعية والثقافية التي عصفت بالمجتمع المصري.
يرى الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884–1962) في كتابه "جماليات المكان"، أن البيت ليس مجرد مأوى مادي، بل فضاء حميمي مشحون بالعاطفة والذكريات والخيال، يختزن التجربة الإنسانية بكل ما فيها من حنين وألم وأمل. تتجسد هذه الرؤية في المتوالية القصصية "بلاط مزركش" (العربي للنشر) للكاتبة مي خالد عبر رحلة الساردة مع البيوت منذ طفولتها في ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم، راصدة انعكاس التحولات الاجتماعية والمعمارية على هذه الأمكنة.
على نحو رؤية باشلار للذكريات في مقولته: "ونظراً إلى أن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كلحم يقظة، فإن هذه البيوت تعيش معنا طوال الحياة"، تعاود بطلة "بلاط مزركش" العيش في البيوت التي مرت بها، كأحلام يقظة، تستدعي عبرها تفاصيل الماضي وحرارة المشاعر المرتبطة بتلك الأمكنة. علاقة شاعرية تنسجها الكاتبة مع البيوت وتجد صدى لها في استهلالها العمل بشطر المتنبي: "لك يا منازل في القلوب منازل"، في إحالة إلى رمزية المكان في الثقافة العربية.
وقوف على الأطلال
ويذكر هذا التوظيف الأدبي بما أشار إليه غالب هلسا في ترجمته لكتاب باشلار، حين فسر ظاهرة افتتاح الشعراء العرب قصائدهم بالبكاء على الأطلال، باعتبارها ليست مجرد أماكن مهجورة، بل مساكن للطفولة، ومرآة لذاكرة لم يبق منها سوى أطلالها، شاهدة على ما مضى.
لذا تظهر بطلة "بلاط مزركش"، وهي تقف على أطلال بيوت الطفولة والشباب، "كاتبة تروي حكايات قديمة حدثت بداخل بيوت لها في القلب منازل"، ص 152. تستعيد ذكريات بعيدة في حي "مصر الجديدة" الراقي، حيث تتقاطع تفاصيل المكان مع ملامح الحياة اليومية: تعنيف الأم لها بسبب مكوثها طويلاً للعب مع أولاد الجيران، إلحاحها على المذاكرة في غياب الأب، والزيارات العائلية التي كانت تؤدى بدافع الواجب في العزاء أو الأفراح.
تتخذ هذه الذكريات بعداً يتجاوز الحنين، لتصبح أقرب إلى أرشفة أنثروبولوجية للحياة الاجتماعية في ذلك الزمن. العمل مسكون بما يمكن تسميته "سوسيولوجيا البيوت"، حيث لا يروى المكان لذاته، بل بوصفه كائناً حياً يحتفظ بالطقوس والروائح والانفعالات، والتناقضات، في سرد ناعم يوازن بين الذات الفردية والذاكرة الجمعية. فمع أن المكان هو البطل في "بلاط مزركش"، لكن هذه البطولة ليست فردية وإنما مرتبطة بالزمان والشخوص، فالبلاط المزركش يأتي في المتوالية رمزاً لما بات يعرف بالزمن الجميل، وبوابة سحرية تعيد من عاشوا في هذا الزمن إلى ذكرياتهم: "سيخرج إلينا راضياً مرضياً، بعدما يسرح كثيراً مع زركشات البلاطات السحرية ذات الطراز العتيق/ فيغيب عن مع شجن قديم أو ذكرى بعيدة من ماض سعيد، يهون عليه مشواره العسير والتيه بين الطرق الجديدة والأحياء النائية التي قطعها مرغماً"، ص 52.
تحولات اجتماعية
ويحضر في المتوالية الحديث عن أبطال هذا الزمن وسادة مسارح هذه البيوت من جيران وخالات وأعمام وعمات، فبعد رحيلهم فقدت هذه البيوت كثيراً من ألقها القديم ولم تعد صورتها كما كانت عليها، فهذا الحنين ليس مرتبطاً بالمكان فقط وإنما بالزمن والشخوص ككل، لا يمكن تجزئته والتعامل مع كل تيمة على أنها منفردة تصلح للحنين من دون البقية الأخرى.
ترصد المتوالية، في تطوافها بين الأماكن والذكريات، التحولات الاجتماعية العميقة التي طرأت على المجتمع المصري، فتستحضر زمناً كانت فيه زجاجات البيرة تباع بجوار المشروبات الغازية في الأكشاك، وزمناً كان فيه البيانو جزءاً من "جهاز العروس"، كما حدث في بيت الجيران حيث ولعت الساردة بالاستماع إلى عزف الابنة الكبرى "مديحة" على البيانو، أو تمرير يديها عليه، قبل أن تصرف بلطف بعبارة "البيانو نام".
غير أن هذا الزمن لم يدم، بسبب التغيرات الفكرية التي لحقت بـ"مديحة" التي حطمت الآلة الموسيقية، لأن التبرع بها يعني إفشاء الفساد في مكان آخر. وتحول البيت الذي كان يوماً ما موطناً للفن والموسيقى، إلى مساحة منغلقة، وباتت "مديحة" تسرع الخطى إن مرت أمام دكان يخرج منه صوت مغنيتها المفضلة، لأنها تحبها كثيراً وتخشى أن يلين قلبها إن تلكأت. وتبلغ التحولات مداها حين تخبر "كريستينا"، وهي جارة مسيحية تقطن في الطابق نفسه، الساردة أن "مديحة" وأولادها يبصقون عند مرورهم بجيرانهم الأقباط، ويلقون القمامة عمداً أمام شقتهم. تتلقى الساردة تلك الأخبار بذهول، وتقول: "ده أنا حبيت البيانو والفن في بيتهم!".
تمضي الكاتبة في رصد هذه التغيرات، فتقارن بين زمن كان فيه الحجاب نادراً، لا ترتديه سوى النساء الكبيرات الزاهدات في الدنيا، وزمن بات فيه غطاء الرأس أمراً شائعاً، وتجاوزه إلى النقاب، في إشارة إلى التحول الفكري الذي اجتاح الطبقة الوسطى، فلم يعد التدين الشكلي مقتصراً على الطبقات الدنيا، بل أصبح ظاهرة عامة تعكس تغيراً عميقاً في البنية الاجتماعية والثقافية.
حميمية مفتقدة
وتمتد المتوالية في رصد المتغيرات التي لحقت بالمجتمع عموماً، إلى البناية ذاتها، التي فقدت شيئاً من الحميمية والدفء اللذين كانت تتمتع بهما البيوت القديمة. يتجلى ذلك في وصف الساردة للموقع الذي اختاره ابنها للعيش فيه: "اختار ابني مسكناً في منطقة نائية يرتاح إليها هو وعروسه، لكن الطريق إليها يصيبني بالوحشة، تنفتح الشرفة على بيوت غير مأهولة بالبشر"، ص 51. فالبيت الجديد يبدو مأهولاً بالفراغ أكثر مما هو مأهول بالحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تقتصر التحولات التي ترصدها المتوالية على البشر وحدهم، بل امتدت إلى المكان ومكانته الاجتماعية. فالعباسية، التي كانت يوماً ما من الأحياء الراقية، تحولت مع الزمن إلى منطقة تنوء بوصمة اجتماعية، حتى باتت الساردة تخجل من الإفصاح عن سكنها فيها لزملائها في العمل، على رغم ما تحمله شقتها هناك من ذكريات الطفولة، في "بناية الفردوس"، التي تضم تلك الشقة. حاولت الساردة مراراً أن تشرح للآخرين القيمة الرمزية لهذا المكان، وأن تستحضر صورته في أعمال نجيب محفوظ، لكن هذه المعركة الوجدانية لم تفلح في صد نظرات الاستعلاء. بسبب رسوخ الوصمة في المخيلة العامة، فلم تجد بداً من العودة إلى "مصر الجديدة"، موطن طفولتها الأول، لتستعيد الإحساس بالانتماء إلى مكان لم يخدش بعد، بحسب تصورها، الذي لا يخلو من نزوع طبقي.
مستشفى العباسية
ومن اللافتات الطريفة الجديرة بالتوقف عندها، استخدام المتوالية لتعبير ملطف عن مستشفى العباسية للأمراض العقلية، فتصفها بـ"المستشفى الذي يأوي إليه من أصيبت عقولهم بجراح غير مرئية"، بدلاً من تسميته المتداولة "مستشفى المجانين، أو السرايا الصفرا". هذا النوع من التخفيف اللغوي شائع بين أبناء الطبقة الوسطى، إذ يحرصون على تجنب تسمية بعض المهن أو الحالات الاجتماعية بأسمائها المباشرة، فيقولون مثلاً عن "الخادمة": "الست اللي بتساعدنا في البيت". وهذا التصرف على ما يبدو عليه من مشاعر إنسانية لا يغير من واقع هذه المهن شيئاً بل ربما يشير إلى عنصرية مبطنة، تشبه التعاطف الذي تبديه الكاتبة الأميركية هيريت بيتشر ستو، على استحياء، في روايتها "كوخ العم توم"، تجاه السود.
وتكشف المتوالية عن تعاطف الساردة مع خادمتها، على غرار جدتها المحبة للتباسط مع الطبقات الدنيا، التي اعتادت استقبال أسرة الخادمة حين يأتون من قريتهم لتحصيل أجرتها: "نجت من الحياة مع أسرة ريفية معدمة، حتى إنهم اضطروا إلى أن يبيعوا ابنتهم الهزيلة لتعمل خادمة في القاهرة، ويقبضوا راتبها كل شهرين، تستقبلهم نينه حياة ليقضوا يومين أو ثلاثة مع سهام، حتى لو استغرق تنظيف البيت من البراغيث والبق أكثر من أسبوع بعد أن يرحلوا"، ص 65.
تعاملت الساردة مع "سهام" بالطيبة نفسها، بل وتنسب إليها جزءاً من نجاحها، بفضل رعايتها أطفالها، مما أتاح لها التفرغ للكتابة والعمل. غير أن هذا الإعجاب تأثر، لاحقاً بعدما علمت أن "سهام" كانت تخدعها، إذ بنت من أموال التبرعات خمس شقق، قبل أن تعلن تقاعدها عن العمل في البيوت!