ملخص
في ظل الاتهامات المتبادلة يظل السؤال الأبرز من سيطلق الرصاصة الأولى؟ لا سيما أن كل طرف يؤكد استعداده لصد هجوم من قبل الطرف الآخر من دون التورط في إطلاق الرصاصة الأولى، ففي حين أكدت أسمرة مراراً أنها لن تنجر نحو حملات الحرب، لكنها مستعدة للدفاع عن سيادتها، أكد رئيس الوزراء الإثيوبي أن حكومته لن تطلق الرصاصة الأولى، لكنها في حال تعرضت لهجوم إريتري فإن الحرب القادمة لن تكون كسابقاتها.
تبادلت كل من حكومتي إثيوبيا وإريتريا اتهامات حول الإعداد لحرب جديدة بينهما في منطقة القرن الأفريقي، ففي حين ظلت أسمرة تكرر اتهاماتها ضد أديس أبابا، بخاصة في خطاب الرئيس الإريتري أسياس أفورقي بمناسبة العيد الـ34 للاستقلال، فضلاً عن بيانات وزارتي الإعلام والخارجية حول الرغبة الإثيوبية بشن هجوم على إريتريا بغرض احتلال ميناء عصب الإريتري على البحر الأحمر، وجه وزير الخارجية الإثيوبي غيداون تيموتاوس اتهامات ضد أسمرة في رسالة بعث بها إلى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، إذ اتهم الحكومة الإريترية بالإعداد لحرب محتملة في موسم الأمطار القادم، واستشهد الوزير الإثيوبي بخطاب الرئيس الإريتري في مناسبة عيد استقلال بلاده، موضحاً أن الخطاب تضمن روحاً عدائية ضد أديس أبابا، وشدد على أن إريتريا تدعم مجموعات مسلحة داخل إثيوبيا مناوئة لحكومته، وأشار إلى أن أسمرة أخلت بالقانون الدولي والاتفاقات الموقعة بين البلدين عام 2018، وذلك من خلال اتصالها بمجموعات مسلحة داخل إقليمي تيغراي والأمهرة، وإغلاق مجالها الجوي أمام الخطوط الجوية الإثيوبية، فضلاً عن قطع الاتصالات السلكية بين البلدين.
وردت وزارة الإعلام الإريترية على رسالة الوزير الإثيوبي، مفندة الادعاءات الواردة فيها، وعدد بيان أسمرة الأسباب الرئيسة للتوتر الجديد في القرن الأفريقي، بالإشارة إلى الخطة التي أعلنها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والهادفة إلى احتلال الموانئ السيادية الإريترية بحجة أن بلاده لن تبقى دولة حبيسة. وذكر البيان الإريتري أن ميثاقي الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، ينصان على قدسية الحدود الدولية، محذراً من أن محاولات إعادة تعيين الحدود وفق مصالح طرف واحد، تعد تعدياً صارخاً للقانون الدولي، وأشار البيان إلى التحركات الميدانية التي اعتمدتها أديس أبابا تجاه إريتريا، من بينها تحريك الآليات العسكرية الثقيلة بمحاذاة الحدود المشتركة في إقليم عفار الإثيوبي، في تصعيد نحو حرب تبدو وشيكة.
من جهة أخرى سعت أسمرة، من خلال ناشطين محسوبين عليها، إلى التقارب مع "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، ونظمت مجموعة من الأنشطة، في الحدود المشتركة مع تيغراي، في ما عرف باللقاءات الشعبية بين ممثلي السكان على طرفي الحدود، مما أثار غضب أديس أبابا التي لا تزال تتعاطى مع الإقليم بحذر شديد، وبوصف قياداته بأنها "مارقة" على رغم توقيع اتفاق بريتوريا للسلام بين الجبهة والحكومة المركزية.
من سيطلق الرصاصة الأولى؟
في ظل الاتهامات المتبادلة يظل السؤال الأبرز من سيطلق الرصاصة الأولى؟ لا سيما أن كل طرف يؤكد استعداده لصد هجوم من قبل الطرف الآخر من دون التورط في إطلاق الرصاصة الأولى، ففي حين أكدت أسمرة مراراً أنها لن تنجر نحو حملات الحرب، لكنها مستعدة للدفاع عن سيادتها، أكد رئيس الوزراء الإثيوبي، الأسبوع الماضي أمام برلمان بلاده، أن حكومته لن تطلق الرصاصة الأولى، لكنها في حال تعرضت لهجوم إريتري فإن الحرب القادمة لن تكون كسابقاتها، وقد تغرق المنطقة بأسرها في مواجهات دامية.
يأتي ذلك في ظل انشغال المجتمع الدولي بعدد من القضايا الساخنة من بينها الأوضاع في غزة وإيران والحرب الأوكرانية – الروسية، فضلاً عن حرب السودان، ما يرجح أن قيام الحرب بين البلدين الفقيرين في القرن الأفريقي لن يسترعي، بصورة كافية، الاهتمام الدولي اللازم للجم نيران المعركة في هذه المنطقة، إذ يرى عدد من المراقبين أن من يتوفر على خطة واضحة تجاه هذه الحرب، ويملك الإمكانات العسكرية اللازمة، قد يتمكن، هذه المرة، من تحقيق مراده، من دون عرقلة من المجتمع الدولي المنشغل بعدد من القضايا الساخنة.
ورأى المحلل السياسي الإثيوبي بيهون غيداون أن الأوضاع السياسية بين البلدين قد بلغت مرحلة ما قبل إطلاق الرصاصة الأولى، "إذ رفع الطرفان حال التأهب القصوى في الأوساط العسكرية، كما تم إطلاق حملات إعلامية ودعائية لتهيئة الرأي العام لأي تطور طارئ، في وقت كشفت فيه رسالة وزير الخارجية الإثيوبي لنظيره الأميركي عن الموعد المحتمل لبدء المعركة، إذ أشار إلى أن النظام الإريتري قد يشن هجوماً في موسم الأمطار القادم، والذي يبدأ عادة في منتصف يوليو (تموز) وحتى سبتمبر (أيلول) من كل عام".
رسالة في بريد واشنطن
وقرأ بيهون رسالة أديس أبابا الموجهة إلى روبيو بأنها بمثابة تحذير أخير لأسمرة من أن بلاده تتحرك بالتوافق مع واشنطن، وأنها تبلغ المجتمع الدولي بمبررات الحرب المحتملة، بخاصة أن أسمرة تعاني عزلة دولية خانقة وحصاراً اقتصادياً وسياسياً فرضه مجلس الأمن الدولي باتهامها بدعم مجموعات متطرفة في الصومال، "ومن ثم فإن أديس أبابا تسعى إلى استثمار هذه المواقف الدولية لصالحها، في حين يكتفي النظام الإريتري بالتأكيد أنه مستهدف وقادر على حماية مصالحه وأراضيه"، وأضاف بيهون "أن هذا الإدراك يضع فارقاً موضوعياً كبيراً بين خطط الطرفين ورؤيتهما"، وأوضح أن هذا الفارق ناتج من الفوارق الإدراكية للطرفين، فضلاً عن تجارب كل طرف، مشيراً في الوقت نفسه "إلى أن إثيوبيا لها تجارب وأعراف دبلوماسية عريقة، ولها علاقات متميزة مع الولايات المتحدة من أكثر من قرن ونيف، فيما تتميز السياسة الخارجية الإريترية بالارتجال والتقلب من معسكر إلى آخر، فضلاً عن دخولها في أزمات عدة بخاصة مع الدول الغربية، كما أن تجربة أسمرة في الدبلوماسية لا يتعدى ثلاثة عقود"، ولفت المتخصص الإثيوبي إلى هذا الأمر "بفشل إريتريا في الحصول على الدعم الدولي اللازم لتطبيق مقررات اتفاق الجزائر للسلام، على رغم صدور قرار من محكمة لاهاي لصالحها، إذ تنص بنود اتفاقية الجزائر على قرار تحكيم نهائي وملزم لكلا الطرفين، وفي حال تمنع أحدهما أو كليهما عن التنفيذ، يتكفل مجلس الأمن الدولي بتنفيذ القرار بالإكراه وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة". وتابع بيهون أن توتر علاقات إريتريا مع القوى العظمى وضعف مسارها الدبلوماسي حالاً دون تطبيق القرار لأكثر من عقدين من الزمن.
التحالفات المحتملة
ورأى المحلل السياسي الإثيوبي أنه على رغم أن الحرب قد تقع بين البلدين فإن من المؤكد أنها ستأخذ أبعاداً إقليمية ودولية، "فإثيوبيا تتمتع بعلاقات متميزة مع الولايات المتحدة من جهة، ومع عدد من الدول الإقليمية من جهة أخرى، لا سيما الإمارات العربية المتحدة التي تتقاطع مصالحها مع أديس أبابا في ملفات السودان وجيبوتي والصومال، في حين ترتبط إريتريا بتحالف مع كل من مصر والصومال، فضلاً عن علاقاتها المتقدمة مع السعودية، في إطار منتدى دول البحر الأحمر، بينما تشهد فتوراً في علاقاتها مع الدول الغربية". ورجح، في الوقت عينه، عدم تورط هذه الدول بمشاركة مباشرة في الحرب المحتملة، لكن تأثيرها سيظل قائماً في مجريات الأحداث، سواء بالدعم الدبلوماسي والسياسي أو من خلال الدعم اللوجيستي، مشيراً إلى أن بإمكان هذه الدول الإقليمية التدخل في المرحلة الحالية لمنع قيام الحرب في حال توفرت لديها الإرادة السياسية.
ونوه المحلل الإثيوبي إلى التصريح الأخير لوزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي من أن بلاده لن تسمح لأي دولة غير مطلة على البحر الأحمر بامتلاك منافذ جديدة على سواحله أو إقامة قواعد عسكرية عليه، مشيراً إلى أن هذا الكلام رسالة لأديس أبابا، بخاصة أنه تزامن مع السعي الرسمي الإثيوبي لإيجاد منفذ بحري سيادي على سواحل البحر الأحمر، إذ من المرجح أن اندلاع الحرب سيفضي إلى استعادة إثيوبيا أحد الموانئ التي كانت تحت سيادتها قبل استقلال إريتريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مبررات الحرب
من جهته رأى المتخصص في شؤون القرن الأفريقي عبدالرحمن أبو هاشم أن الحرب المحتملة بين البلدين قائمة، بالأساس، على مغالطات تاريخية ظل يرددها رئيس الوزراء الإثيوبي، من بينها قوله في خطابه أمام البرلمان "إذا لم تمتلك إثيوبيا البحر، فستزول من الوجود"، وأوضح أن هذا الادعاء يتنافى مع مقررات القانون الدولي، إذ لا يوجد قانون يسمح لإثيوبيا بامتلاك منافذ بحرية خلافاً لخريطتها المعترف بها دولياً، تحت أي مبررات كانت، بل لها حق الاستفادة من خدمات الموانئ المجاورة عبر اتفاقات ثنائية مع الدول الساحلية. وأضاف "تاريخياً لم تمتلك إثيوبيا أي ميناء بحري سيادي، إلا في الفترة من عام 1952 إلى عام 1991"، مضيفاً أن المفارقة أن إثيوبيا حققت تنمية اقتصادية غير مسبوقة في الفترة بين عامي 1991 و2018 باستخدام موانئ الدول المجاورة خلال حكم "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية"، في حين لم تحقق النسب ذاتها في الأعوام التي احتلت فيها الموانئ الإريترية، مما ينفي الادعاءات المتعلقة بارتباط التنمية بمدى توفر منافذ بحرية.
ولفت أبو هاشم إلى أن قيام الحرب للادعاءات القائمة يعد بمثابة تكرار لتجارب سابقة مع توقع نتائج مغايرة، موضحاً أن الحرب التحريرية، التي استغرقت نحو ثلاثة عقود بين إريتريا وإثيوبيا (1961-1991)، كانت قائمة على المزاعم ذاتها، وأفضت إلى استقلال إريتريا، ومن ثم من غير المجدي تكرار التجارب الأليمة ذاتها، مؤكداً "أن منطقة القرن الأفريقي كثيراً ما شهدت حروباً متكررة نتيجة الأطماع التي تسكن قادة إثيوبيا"، وأوضح أيضاً أن ميثاق الاتحاد الأفريقي واضح في هذا الشأن، إذ يقر قدسية الحدود الموروثة من الاستعمار الأوروبي، وأن أي تغيير لتلك الحقائق التاريخية يمثل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، فضلاً عن أنه خرق للقانون الدولي وميثاقي الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، ورأى أبو هاشم أن هذا الأمر يمثل سابقة تاريخية قد تجر القارة الأفريقية إلى حال من عدم الاستقرار، بخاصة أن الدول الأفريقية تحتكم لمبدأ قدسية الحدود الموروثة عن الحقبة الاستعمارية.
وتابع المتخصص في شؤون القرن الأفريقي أن ثمة فرصاً لا تزال سانحة لتجنب الحرب، سواء لجهة عدم حصول توافق شعبي على هذه الحرب، أو لجهة أن إثيوبيا لا تزال غارقة في نزاعات داخلية، ودلل على ذلك على ما وصفها بتقلبات آبي أحمد في عدد من الملفات، متوقعاً تراجعه عن خوض غمار الحرب مع كل من إريتريا وإقليم تيغراي، "إذ إن اندلاع المعركة قد يكلف نظامه الانهيار التام، وقد يكون مقدمة لتفكك إثيوبيا، بخاصة أن مؤشرات التراجع كانت واضحة في خطابه الأخير أمام البرلمان الإثيوبي، إذ أقر باحترامه سيادة الدول المجاورة مثل إريتريا والصومال".
سيناريوهات المواجهة
في قراءته لسيناريوهات المواجهة في حال اندلاعها قال أبو هاشم "التحالف بين جبهة تيغراي والنظام الإريتري أضحى واضحاً، في حين تحالف رئيس الإقليم السابق السيد قيتاشو رداً وأعوانه من الجناح المنشق عن الجبهة مع أديس ابابا لم يعد سراً، بينما يبقى موقف ميليشيات الفانو في إقليم أمهرة غامضاً إلى حد ما، في ظل معلومات عن حصولهم على دعم سياسي ومعنوي من أسمرة"، وأشار إلى أن حل إشكالية المناطق المتنازع عليها بين تيغراي والأمهرة، سيفضي، بلا شك، إلى تحالف بين هاتين القوميتين للسيطرة على أديس أبابا، بخاصة إذا ما حظي بدعم إريتريا، ومن ثم فإن احتمالات قيام الحرب في ظل التجاذبات الداخلية الإثيوبية يظل ضعيفاً. ورأى المتخصص في شؤون القرن الأفريقي أن ثمة قناعة متزايدة لدى النخب الإثيوبية تتمثل في أن رصيد رئيس الوزراء الإثيوبي للبقاء في الحكم يتقلص "لجهة فشله المتراكم في حل المعضلات المتفاقمة في حكمه داخلياً وخارجياً".