ملخص
لبنان يوزع كغنيمة ما بعد الحروب لا لأنه ضعيف، بل لأن نخبه السياسية تجيد الانتظار أكثر من الفعل، وصمتت حين وجب الكلام. وفي ظل إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط تتقدم دول وتتراجع أخرى. ولبنان لم يتأخر عن القطار فحسب بل لم يصل بعد إلى المحطة. لبنان اليوم لا يملك ترف الوقت، فالقاطرة الإقليمية تتحرك والعالم يعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات، ومن لا يعلن تموضعه بوضوح سيتم تخطيه، ومن لا يملك قراره لن يؤخذ برأيه.
في مشهد يلخص انهيار المعنى السياسي للدولة، يقف لبنان اليوم منتظراً السفير الأميركي توماس باراك، كما لو أنه، أو أنه فعلاً، يحمل مصير البلاد في حقيبته. لكن الأخطر من هذا الانتظار هو أن بيروت الرسمية لا تملك حتى الآن رداً موحداً أو موقفاً سيادياً جامعاً تجاه الورقة الأميركية التي طرحت بالتنسيق بين واشنطن وباريس والقاهرة، في محاولة أخيرة لانتشال لبنان من هاوية الحرب. وما يحمله باراك ليس مبادرة لاحتواء التوتر، بل خريطة طريق حاسمة، أي إن توقف الاستهدافات والغارات الإسرائيلية في الداخل اللبناني، سيكون مشروطاً بانسحاب "حزب الله" من الجنوب، بصورة كاملة وفعلية، ونشر الجيش بدعم دولي، أو تصنيف لبنان منصة تهديد إيرانية، مع ما يعنيه ذلك من عقوبات وضربات وأثمان سيادية.
المفارقة أن لبنان الرسمي، بدلاً من أن يناقش الورقة أو يعيد تموضعه في المشهد الإقليمي، اختار الوقوف على الرصيف بانتظار "موقف الحزب"، فلم تجتمع الحكومة، ولم تستدع الكتل النيابية، ولم يخرج موقف واضح من الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام)، وهذا الصمت يعكس موقفاً واضحاً، وهو أن القرار ليس عنده، وهنا تكمن المأساة، إذ يتصرف لبنان لا كدولة، بل كرهينة تنتظر قرار الجهة الخاطفة.
السفير باراك المبعوث المقرب من الدائرة الضيقة في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لن يقدم أوراق تفاوض في هذه الزيارة بل يحمل تحذيراً صريحاً، أمامكم فرصة محدودة للانتظام في تسوية تحفظ الحدود أو استعدوا لما هو أسوأ، من تصنيف سياسي وأمني، إلى تخلي الدول العربية والغربية عن أي مظلة حماية، وصولاً إلى احتمال نشوب مواجهة واسعة لن تبقي ولن تذر.
"الفرصة سانحة الآن"
وكان الموفد الأميركي استبق وصوله إلى بيروت، بتوجيه رسالة بأن "الفرصة سانحة الآن"، في إشارة إلى حل لأزمة سلاح "حزب الله"، فيما فشل لبنان الرسمي في الوصول إلى صيغة نهائية للرد على ورقة المطالب الأميركية، وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري "إن المسؤولين حريصون على رد موحد في شأن ورقة المبعوث توماس باراك... وإن باراك أتانا بشيء ومن المفروض أن نرد عليه. ونحن نسعى أن يكون الموقف واحداً، بخاصة بين الرؤساء الثلاثة، على أن نأخذ موقف ’حزب الله’ بالاعتبار عينه، كما طلب باراك في ورقته"، وأكد بري أنه حتى الآن لا جواب نهائياً من الحزب.
ووصل باراك، اليوم الإثنين، إلى بيروت، لمناقشة الرد اللبناني على الورقة الأميركية التي تتضمن تنفيذاً لتعهدات الدولة اللبنانية بحصرية السلاح بيد الأجهزة الرسمية، وتنفيذ الإصلاحات الإدارية والمالية والسياسية. وعشية وصوله، كتب باراك عبر حسابه على منصة "إكس" "يستيقظ أمل لبنان. الفرصة سانحة الآن، إنها لحظة تاريخية لتجاوز الطائفية المتوترة في الماضي، وتحقيق وعد لبنان الحقيقي بأمل (بلد واحد، شعب واحد، جيش واحد)"، وتابع "وكما دأب رئيس الولايات المتحدة على مشاركة العالم، لبنان مكان عظيم، بشعب عظيم. فلنجعل لبنان عظيماً من جديد". إذاً فمن الواضح أن الهدف من وراء هذه الجولة، وضع حد لتورط "حزب الله" في صراعات خارجية، وإعادة ترسيم وظيفة لبنان وحدوده.
بالتوازي مع كل هذه المعطيات خرج الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم ليعلن قرار الحزب بـ"المواجهة" ورفضه الخضوع للضغوط الأميركية والإسرائيلية، وقال إن "التهديدات لن تجعلنا نستسلم ولا تطلبوا منا ترك السلاح بل على من يضيق علينا أن ينضم إلى منظومة الدفاع برعاية الدولة".
أين هو الصوت اللبناني؟
يدرك اللبنانيون أن ما يطبخ الآن هو مصير وطنهم، وأن الصمت لم يعد خياراً بل تواطؤاً. وما لم يفهمه البعض، أو يتعمد تجاهله، أن الورقة الأميركية ليست بنداً تفاوضياً مفتوحاً، بل هي تحذير صارم من أن استمرار الوضع الراهن سيجعل من لبنان طرفاً في الحرب لا ضحية لها، ومن شعبه درعاً بشرية لمصالح محور إيران لا لقضاياه. والأسوأ أن كل هذا يجري والدولة تنتظر "ملاحظات حزب الله"، في مهزلة وطنية تعيد إلى الأذهان مشاهد ما قبل الحرب الأهلية في الثمانينيات، ازدواج سلطات وغياب القرار، ومجتمع دولي يحمل الضحية مسؤولية تغطية جلادها.
البلد يقف على حافة خيارين قاتلين
إذاً، لم يعد مطلب تسليم سلاح "حزب الله" مجرد بند في دفاتر المجتمع الدولي، ولا مطلباً ترفياً تطالب به عواصم القرار، بل بات صرخة صريحة من الغالبية الساحقة من اللبنانيين الذين يدفعون وحدهم ثمن الحروب المتكررة، والانهيارات المتوالية، والعزلة القاتلة. ذلك أن البلد يقف على حافة خيارين قاتلين، إما الانزلاق إلى حرب مدمرة جديدة مع إسرائيل تهدد وجوده، وإما التفكك الداخلي الذي قد يعيد شبح الحرب الأهلية إلى شوارعه. فالمشهد السياسي الميداني يشبه إلى حد مرعب ما عاشه البلد في الثمانينيات، فصائل مسلحة، وقرار مصادر، وحدود مستباحة، ودولة تتآكل تحت سطوة السلاح غير الشرعي. ومع توالي التحذيرات تضيق الفرص، وبات اللبنانيون أمام معادلة واضحة، إما أن يستعيدوا دولتهم أو أن يتحولوا نهائياً إلى رهائن في ساحة معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
ديناميكيات التطبيع في المنطقة
وفي ظل التحولات الإقليمية المتسارعة، يبدو لبنان وكأنه يُدفع دفعاً إلى مفترق طرق حاسم، إما أن يدخل في مسار التطبيع الإقليمي الذي ترعاه الولايات المتحدة ويعاد تشكيله على وقع تسويات كبرى، أو أن يظل في موقعه التقليدي ضمن محور "الممانعة"، بما يعنيه ذلك من مزيد من العزلة السياسية والاقتصادية، وانسداد آفاق الدعم العربي والدولي. لكن السؤال الأعمق: هل هذان الخياران هما فعلاً قدر لبنان، أم إن هناك خياراً ثالثاً مغيباً أو ممنوعاً من الظهور؟
لا يمكن للبنان البقاء في "المنطقة الرمادية"
ومنذ توقيع "اتفاقات أبراهام" عام 2020، والمنطقة تشهد تبلور محور إقليمي جديد، تتقدمه دول الخليج وإسرائيل، مدعوماً أميركياً، ويراهن على احتواء إيران وسحب المنطقة من دوامة الحروب. هذا المحور يضغط اليوم باتجاه تسويات واسعة تشمل غزة، ومستقبل الضفة، وبالطبع لبنان، الذي بات ينظر إليه على أنه ساحة حرب مفتوحة يستخدم فيها "حزب الله" ورقة ضغط إيرانية. ومع دخول دول عربية، بخاصة خليجية في هذه المعادلة، لم يعد ممكناً للبنان الرسمي أن يراهن على تمايز عربي يسمح له بالبقاء في موقع رمادي.
وتكمن المعضلة الأساسية في أن لبنان لا يملك قراره السيادي بصورة كاملة، فـ"حزب الله"، المرتبط عضوياً بإيران، يحتكر قرار الحرب والسلم، ويعطل أي مسار تسووي يتعارض مع مصالح طهران. واليوم، وبينما يطرح المجتمع الدولي مبادرات لوقف النار في الجنوب، وفتح باب لتفاهمات ترعاها الدول المقررة على الساحة اللبنانية، ينتظر لبنان الرسمي موقف الحزب، وليس العكس. وهذا ما يجعل التطبيع أو حتى مجرد الانتظام في تسوية إقليمية، رهناً بقرار خارج الحدود، يمر عبر طهران أولاً، ولا تراعى فيه المصلحة اللبنانية المباشرة.
العزلة الفعلية لا الرمزية
وعليه، يلوح في سماء لبنان شبح العزلة، وهذا الأمر ليس من باب التهويل ولا مجرد تهديد، بل واقع ملموس، إذ إنه لا مساعدات عربية مباشرة منذ أعوام، وهناك حظر دولي شبه معلن على أي دعم مالي من دون إصلاحات سياسية، في حين تتسارع وتيرة العقوبات على رجال أعمال وشخصيات مرتبطة بالحزب. أيضاً هناك تراجع في التمثيل الدبلوماسي العربي والغربي، حتى دول "الحياد التقليدي" بدأت تغير خطابها، من الدعوة إلى النأي بالنفس إلى الضغط المباشر على لبنان للخروج من "قبضة الحزب".
"لا يوجد شيء اسمه سلام مجاني"
وتوازياً، نقلت قناة "i24News" الإسرائيلية، خبراً مثيراً، تحدث عن صفقة مفترضة بين حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع وإسرائيل، بموجبها تطالب دمشق بـ"ضم" طرابلس مقابل الجولان. ووفقاً للقناة الإسرائيلية، التي نقلت عن مصدر مقرب من الرئيس الشرع، قال "إن عودة أجزاء من مرتفعات الجولان أمر بالغ الأهمية لدعم الرأي العام المحلي لمثل هذه الخطوة"، وذكر المصدر السوري أن هناك سيناريوهين مطروحين حالياً للتسوية السياسية المقبولة بين إسرائيل وسوريا، الأول "ستحتفظ إسرائيل بمناطق استراتيجية في مرتفعات الجولان تعادل ثلث أراضيها، وتسلم ثلثاً لسوريا، وتستأجر الثلث الآخر من سوريا لمدة 25 عاماً". أما السيناريو الثاني، "فتحتفظ إسرائيل بثلثي هضبة الجولان، وتسلم الثلث المتبقي إلى سوريا، مع إمكانية تأجيره. ووفقاً لهذا السيناريو، سيتم تسليم مدينة طرابلس اللبنانية، القريبة من الحدود اللبنانية - السورية، وربما مناطق لبنانية أخرى في شمال لبنان وسهل البقاع، إلى سوريا".
وتابع المصدر، ودائماً بحسب القناة الإسرائيلية، "تسعى سوريا إلى استعادة السيادة على طرابلس، وهي واحدة من خمس مناطق اقتطعت من سوريا لتأسيس دولة لبنانية خلال الانتداب الفرنسي. ويجب أيضاً أن تشمل التسوية تسليم طرابلس ومناطق لبنانية أخرى ذات غالبية سنية إلى سوريا، بشرط السماح لإسرائيل بتمديد خط أنابيب لنقل المياه من الفرات إلى إسرائيل، وذلك في إطار اتفاق مائي يشمل تركيا وسوريا وإسرائيل"، وأكد المصدر السوري أن الرئيس الشرع "أبدى انفتاحاً غير مسبوق وفتح قنوات اتصال مباشرة مع إسرائيل للتنسيق الأمني والعسكري في جنوب سوريا"، مضيفاً "أن استعادة أجزاء من هضبة الجولان، بخلاف تلك التي استولت عليها إسرائيل داخل الأراضي السورية على يد القوات الإسرائيلية بعد سقوط نظام الأسد، أمر بالغ الأهمية لكي تحظى مثل هذا الخطوة بتأييد الرأي العام المحلي"، ورجح "أن يواجه الشرع مقاومة داخلية كبيرة إذا فشل في القيام بذلك".
يتقاسمان لبنان… والدولة غائبة
الخبر الذي لم تؤكده أي جهة ولم تنفِه، يعكس خطورة الانكشاف اللبناني وسط تسويات كبرى يرسم فيها الشرق الأوسط الجديد، ولبنان يقبع خارج المشهد. وفي حين يغرق لبنان رويداً رويداً في الرمال المتحركة لأزماته الداخلية، ويكتفي مسؤولوه بانتظار "الورقة الأميركية"، كانت الصفقة تطبخ على نار هادئة في مكان آخر، دمشق وتل أبيب يتفاوضان، ولبنان على الطاولة، كملف وليس كمقرر، لا حول له ولا قوة. هذه الصفقة، إن صحت تفاصيلها، فهي ليست مجرد مناورة سياسية، بل جرس إنذار مدو، هناك من يتقاسم النفوذ على لبنان، في غياب الدولة، فالسلطة موجودة شكلياً، لكنها عاجزة، مستلبة الإرادة، خاضعة للحسابات الإقليمية، فيما القرار الفعلي موزع بين سلاح "حزب الله" من جهة، وحسابات خارجية تتعامل مع لبنان كمساحة متروكة من جهة أخرى وهي إعلان صريح بأن لبنان بات أرضاً متروكة يساوم عليها من دون استئذانه، والأخطر أن ذلك بات ممكناً لأن لبنان نفسه فقد القدرة على الدفاع عن حدوده، وعن قراره، وعن نفسه.
طرابلس الهدف المثالي
ولا بد من طرح سؤال وهو لماذا طرابلس تحديداً؟
ذلك لأنها المدينة التي تقف على تقاطع الجغرافيا والضعف السياسي، وحدودها متاخمة للحدود السورية، وتاريخياً كانت ساحة لاختراقات دمشق، وتعاني تهميشاً اقتصادياً واجتماعياً، مما يجعلها بيئة خصبة لأي نفوذ جديد. أما توازنها الديموغرافي الهش فيغري اللاعبين الخارجيين بإعادة إنتاج السيطرة بطريقة ناعمة. من هنا لا تعد طرابلس مجرد مدينة كبرى في الشمال اللبناني، بل خاصرة رخوة أمنياً واقتصادياً، ومهمشة منذ عقود، وعندما تطالب دمشق "بضم طرابلس"، فهي تطلب موطئ قدم سياسياً وأمنياً واقتصادياً، يسمح لها بالعودة إلى لبنان، بعد خروج قوات النظام السوري السابق منها، وتحت ضغط دولي، في أبريل (نيسان) 2005.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إسرائيل... صفقات ما بعد الانتصار
تعرف إسرائيل تماماً أنها خرجت من حروبها في المنطقة، بخاصة حربها الأخيرة مع إيران، بمكاسب سياسية إقليمية، وتبحث الآن عن تثبيتها على الأرض. وإذا كان الثمن المطلوب هو تثبيت سيطرتها على الجولان نهائياً، فما المانع من تمرير اعتراف من دمشق، مقابل "غض نظر" عن تمدد نفوذها شمال لبنان؟
كما أن لبنان ليس أولوية في أجندة تل أبيب، بل ساحة مراقبة، تهمها فيها نقطتان فحسب، الجنوب وسلاح الحزب. وما دامت بيروت لا تقول شيئاً، فالآخرون سيتكلمون باسمها. كما أنه في حسابات إسرائيل، يعد الجولان أولوية استراتيجية قابلة للتفاوض إذا ضمنت هدوءاً مستداماً على حدودها الشمالية، ولبنان ليس جزءاً من المعادلة، لأنه فقد صوته ومكانته، وصار أضعف من أن يؤخذ برأيه.
الدولة الحاضرة الغائبة
عند هذه النقطة، السؤال الأخطر، لماذا وصل لبنان إلى هذه المرحلة من العجز؟
الدولة اللبنانية الحاضرة بلا فاعلية، موجودة شكلياً وغائبة فعلياً، فلا ردود على مستوى الحدث واللحظة الإقليمية، على ما يطرح من صفقات من حولها. ولا موقف واضحاً من المشاريع التي ترسم في الجنوب أو الشمال، ولا خطة سياسية لإثبات أن لبنان طرف، وليس مجرد ساحة ومساحة جغرافية. وهذا التراجع لم يحصل صدفة، بل هو نتيجة تراكم عقود من التعطيل، ومحاصرة القرار السيادي، وربط مصير لبنان بمحور خارجي يقوده "حزب الله" ممسكاً بخيوط الحرب والسلم.
هل هناك خطر حقيقي على وحدة لبنان؟
نعم، للمرة الأولى بهذا الوضوح، حين تصبح مدن لبنانية قابلة للتفاوض بين عواصم أجنبية، فهذا يعني أن السيادة انتهت فعلياً، والأسوأ أن بعض اللبنانيين، داخل السلطة وخارجها، يتعاطون مع هذه التطورات بلا أي إحساس بالخطر، بل كأنهم شركاء صامتون في التخلي عن البلد. وما لم يخرج صوت لبناني حقيقي، وطني، سيادي، صريح، فإن المستقبل سيتقرر من دون أن يسأل أحد هنا عن رأيه. ولقد آن الأوان ليدرك المسؤولون أن "الحياد" لم يعد موقفاً، بل هو انتحار بطيء. وأن انتظار التسوية من دون أن يكون البلد جزءاً منها، يعني أن يصبح جزءاً من الثمن، لا من الحل. الخيار المفترض هو، حياد فعلي وتوازن سيادي داخلي، عبر بناء موقف وطني موحد يفصل بين الدولة والحزب. وذلك عبر انتزاع القرار السيادي من قبضة "الممانعة"، والدخول في حوار داخلي يوازن بين رفض التطبيع الكامل، ورفض البقاء رهينة إيران. لكن هذا المسار ممنوع بقوة السلاح، ومعطل بانقسام داخلي وتآكل المؤسسات، فيما يجهد المجتمع الدولي والعربي لدفع لبنان نحو "التموضع النهائي". فإما أن ينضم لمسار التسوية الكبرى ويتلقى دعماً لإنعاش اقتصاده واستعادة موقعه الإقليمي، أو أن يواصل الارتهان لـ"محور الممانعة"، مقابل مزيد من الانهيار، والعزلة، والتصنيف كدولة فاشلة تابعة لإيران.
لبنان يوزع كغنيمة ما بعد الحروب
في المحصلة، ما يناقش اليوم في الكواليس لم يعد سراً، أي تقاسم النفوذ على حساب لبنان. فدمشق تطلب طرابلس، وإسرائيل تريد الجولان، و"حزب الله" يسيطر على الجنوب، وسلاح خارج الشرعية يضعف الجيش ويمنع اتخاذ موقف، والدولة لا تجرؤ حتى على الاعتراض، أو مجرد التعليق.
لبنان يوزع كغنيمة ما بعد الحروب، لا لأنه ضعيف، بل لأن نخبه السياسية تجيد الانتظار أكثر من الفعل، وصمتت حين وجب الكلام. وفي ظل إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، تتقدم دول وتتراجع أخرى. ولبنان لم يتأخر عن القطار فحسب، بل لم يصل بعد إلى المحطة. لبنان اليوم لا يملك ترف الوقت، فالقاطرة الإقليمية تتحرك، والعالم يعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات، ومن لا يعلن تموضعه بوضوح سيتم تخطيه، ومن لا يملك قراره لن يؤخذ برأيه.