ملخص
صدر في باريس كتاب جماعي بعنوان "غزة... حرب استعمارية" عن دار أكت سود- سندباد ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، وتتناول الدراسات فيه أبعاد الحرب الإسرائيلية على غزة منذ السابع من أوكتوبر (تشرين الاول) 2023، من وجهات نظر متعددة.
هل يمكن وصف ما يحدث في غزة بأنه حرب إبادة جماعية أو حرب إبادة ثقافية أو حرب تدمير للمستقبل؟ وهل يمكن أساساً تسمية ما يجري في القطاع حرباً في ظل عجز الفلسطينيين منذ أشهر عن أي مقاومة عسكرية تذكر تجاه الاجتياح الإسرائيلي؟ وما الذي تمثله هذه الحرب؟ وهل من منطق يقود العمليات العسكرية الإسرائيلية التي بلغت ذروتها في المجازر اللاإنسانية التي ترتكب بحق الفلسطينيين وسط صمت عالمي مطبق؟ وما هي الأهداف التي يريد الإسرائيليون تحقيقها؟ وكيف يمكن تفسيرها؟
عن هذه الأسئلة وسواها يحاول الكتاب الجماعي الموسوم بـ "غزة... حرب استعمارية"، الإجابة عبر تحليل الحرب الإسرائيلية على القطاع من منظور استعماري، ولو تميز كل باحث في دراسته بمقاربة خاصة لهذا الصراع الذي يبدو أنه صراع إبادة جماعية، فقد كان الأجدر بالناشر أن يبرزه في عنوان الكتاب، لكن يبدو أن قدرة الإسرائيليين ونفوذهم كان وراء اعتماد عنوان أخف وطأة، وقد أشرف على تنسيق الدراسات الواردة في الكتاب كل من الباحثة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية الفلسطينية فيرونيك بونتان، والمؤرخة والباحثة في العلوم السياسية، مديرة الأبحاث في "المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية" ستيفاني لاط عبدالله، التي سبق لها أن عملت على تاريخ اللاجئين الفلسطينيين والحركات النسوية في الشرق الأوسط وقضايا الحدود والسجون والمبادرات الاجتماعية والبيئية في فلسطين ولبنان.
فضلاً عن إسهامات كل من الباحثة والأستاذة المتخصصة في شبه الجزيرة العربية في "معهد البحوث الإستراتيجية في المدرسة الحربية ومعهد الدراسات السياسية" في مدينة هني ليل الفرنسية، فتيحة دازي، والباحثة في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس" ليلى سورا، والباحث والأستاذ المشارك في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في "جامعة بيرزيت" أباهر السقا، والمؤرخ توما فيسكوفي، والمتخصص في القانون الدولي يوهان صوفي، وإميلي فيري وأنطوان شلحت وطاهر اللبدي ومنى دجاني وسواهم.
سياسة الاستعمار
تتفق جميع الدراسات التي عالجت جوانب مختلفة من الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي على أن السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 شكل حدثاً مفصلياً في تاريخ القضية الفلسطينية، لكنها تدرجه ضمن سياق اجتماعي وسياسي مرتبط بالعملية الاستعمارية التي استباحت أرض فلسطين عام 1948، مشددة على أن "طوفان الأقصى" لم يكن سوى حجة للمضي باحتلال كل الأرض الفلسطينية، مما يعني أن الحرب التي اندلعت بعدها لن تقتصر على قطاع غزة بل ستمتد لتشمل كل أراضي فلسطين التاريخية والمجتمعات المحيطة والمتأثرة بها.
يقدم الكتاب تحليلات متعددة الاختصاصات تجمع بين العلوم السياسية والحقوق والعلاقات الدولية والتاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد لفهم الأحداث الدامية التي تتشكل اليوم أمام أعيننا، بالاستناد إلى منهجيات العلوم الإنسانية وأدواتها المعرفية، واللافت أن كل الدراسات والمقاربات التي تتناول هذه الأحداث تتبنى مصطلح الاستعمار كإطار علمي دقيق ومفتاح تفسيري لهذه الحرب الوحشية، علماً أن أبحاثاً أكاديمية عدة سبق لها أن استخدمت هذا المصطلح في درس القضية الفلسطينية منذ عام 1948، لكنه أسقط منذ "اتفاق أوسلو" وتقديم الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين وكأنه صراع بين طرفين متكافئين.
ففي معظم الدراسات التي يشكل مجموعها متن الكتاب يبرز مفهوم "الاستعمار الاستيطاني" بوصفه التعبير الأدق لشرح ما يجري على أرض فلسطين، ذلك أن قتل أهل البلاد الأصليين وتهجير من بقي منهم من خلال تدمير البنى التحتية وخلق أزمات حياتية، ما هو في الواقع سوى فعل كولونيالي يتطلع إلى قتل شعب عبر القضاء على مؤسساته ومقومات وجوده التي تمكنه من الاستمرار في العيش مستقبلاً، مثل الماء والغذاء والوقود والمدارس والجامعات والمستوصفات والمستشفيات ودور العبادة والطرقات والتراث الثقافي، وغيرها من المؤسسات المستهدفة مباشرة من قبل الإسرائيليين. كما تتطرق الدراسات إلى التغطية الإعلامية العالمية لهذه الأحداث عبر إظهار الفلسطينيين كإرهابيين وحرمانهم من إنسانيتهم، وسط صمت عالمي مطبق وتعتيم منظم، بدأ باغتيال أكثر من 150 صحافياً محلياً، ومنع الإعلام الدولي من دخول القطاع، فضلاً عن تفريغ القيم الإنسانية من معانيها بتحويلها إلى ألفاظ باهتة.
العنف الممنهج
هذا ما سبق أن أكدته أستاذة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في "جامعة بولونيا"، والعضو في الهيئة التنفيذية لجمعية الأنثروبولوجيين الفلسطينيين، ربى صالح، في كثير من أبحاثها التي تناولت قضية اللاجئين الفلسطينيين، حين بينت أن "العنف الإبيستمي الممنهج الذي يخضع له الفلسطينيون المستعمرون والمضطهدون، قائم على التهميش والإلغاء والتجريد من الإنسانية للقضاء عليهم جسدياً ومحوهم كشعب"، ولعل كتاب "غزة... حرب استعمارية" يقدم أدوات تحليل علمية تسمح بتجاوز الانقسامات الأيديولوجية، مثبتاً عبر القانون والتاريخ أن مصطلحي "استعمار" و"إبادة" ليسا مجرد شعارين، بل هما نتيجة منهجية علمية صارمة تفتح الباب واسعاً أمام مقارنات تتجاوز حدود الحال الفلسطينية.
وتتميز دراسات هذا الكتاب بجرأتها وقدرتها على تسمية الأشياء بأسمائها حين يصف كتابها ما يحدث اليوم في غزة بالحرب الكولونيالية، مؤكدين أنها ليست سوى استمرار لصراع استعماري تاريخي قديم قائم على انتهاك القانون الدولي منذ ما قبل عام 1948، وهو ما يغيب عن بال معظم المحللين العالميين الذين سقطوا في فخ أيديولوجيات معاداة السامية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قدمت المقاربات المتعددة الاختصاصات والموزعة على ثلاثة أجزاء أفقاً جديداً لفهم هذه الأحداث خارج نطاق السرديات السائدة، مؤكدة أن إسرائيل، وإن اتخذت من هجوم السابع من أكتوبر 2023، وما أسفر عنه، ذريعة لشن هجوم عنيف على الأراضي الفلسطينية، فإن "التاريخ لم يبدأ في السابع من أكتوبر، وينبغي إذاً إخراج تحليل سياسات دولة إسرائيل من إطار الاستثناء، وإعادة وضعها ضمن سياق مقارن مع ظواهر استعمارية أخرى عبر العالم، وذلك منذ ما قبل نكبة عام 1948"، على ما تكتب منسقتا الكتاب في المقدمة.
تتوزع دراسات الكتاب على محاور انفجار الحرب والاستمرارية ومحو المجتمع والحياة اليومية والمنطقة والعالم في مواجهة الحرب، ولئن كان من الصعب على المرء في حُقب التأزم القصوى التي يعيشها الغزاويون أن يفهم الأحداث، فإن الإسهامات العلمية الواردة في هذا الكتاب الصادر باللغة الفرنسية تقدم للمهتمين بالقضية الفلسطينية وللرأي العام العالمي دراسات علمية موضوعية، إن دلت على شيء فعلى إخفاق القانون الدولي، وعلى إمكان إبادة شعب على المستوى العمراني والثقافي والمستقبلي من خلال مشروع استعماري مبني على تدمير الآخر.
في الختام لا تكشف هذه الدراسات، في سعيها العلمي إلى تبيان المنطق الكامن وراء المجازر الجارية في غزة وما يرافقها من جوع وتدمير وتهجير، عن جرائم الإبادة التي تقترف ضد الآخر الفلسطيني وحسب، بل تسلط الضوء على النقاشات التي تثيرها هذه الحرب في الدراسات الأكاديمية في أوروبا وعلى الشر المتفلت من عقاله، مبينة أنها تندرج في مسار إمحائي هو ثمرة الاحتلال والاستعمار الذي بدأ قبل "طوفان الأقصى".