ملخص
يقدم المخرج المصري الشاب محمد عشري عرضه المسرحي "حكايات الشتا" على مسرح الغد في القاهرة، الكتابة والأشعار لإبراهيم الحسيني، وتتناول المسرحية قضايا الشيخوخة والوحدة والانتظار.
يمثل الشتاء، لدى كثيرين، فصلاً للشعور بالوحدة والاغتراب، والحنين إلى نوع من الأنس أو الونس، وربما كان أشد وطأة على أولئك الذين تقدم بهم العمر، ويعيشون بمفردهم، من دون أن يهتم بهم أحد، بعد أن انفض عنهم الجميع، فينشدون شيئاً من الدفء الإنساني، كل على طريقته.
هكذا اختار الكاتب إبراهيم الحسيني، وهو أحد كتاب المسرح المصريين البارزين، وأكثرهم حصداً للجوائز، فصل الشتاء زمناً لأحداث نصه المسرحي "حكايات الشتا" الذي قدمه المخرج الشاب محمد عشري، على مسرح الغد بالقاهرة (البيت الفني للمسرح-وزارة الثقافة) وعلى رغم تشابه عنوان النص مع نص وليم شكسبير "حكاية الشتاء"، فإن النصين مختلفان تماماً، وربما لذلك تعمد الحسيني إجراء تغيير طفيف في العنوان، فجاءت "الشتاء" من دون الهمزة "الشتا"، كما تنطق باللهجة المصرية، وبدلاً من "حكاية" جعلها "حكايات".
الصيف، عند المصريين تحديداً، هو فصل الانطلاق والسهر والتنزه والذهاب إلى المصايف، أو هكذا كان في زمن الرخاء، أما الشتاء فهو فصل الكمون والوحدة، وربما الاكتئاب، خصوصاً عند مرهفي الحس، أو "الحساسون أكثر من اللازم".
هل يمكن للإنسان أن يتعاطف مع كاذب، بل ويعجب بكذبه ويبرره له؟ نعم يمكنه ذلك، مدفوعاً بنوع من الشفقة، واضعاً نفسه مكان ذلك الذي يمارس الكذب، بخاصة إذا كان كذبه هنا لا يضر أحداً، هو فقط يأخذ من وقته بضع دقائق، ليلبي مطلباً إنسانياً مشروعاً، وهو الإحساس بالدفء الإنساني.
السيدة في وحدتها
نحن أمام سيدة عجوز (هبة سامي) تعلن بيع شقتها العتيقة، تأتي إليها فتاة وخطيبها (مايا عصام ومصطفى سليمان) تخبرهما بأنها ستهاجر إلى أستراليا وتريد بيع الشقة، لكنها لا تدخل في مفاوضات معهما، بل تنتهز فرصة وجودهما معها لتخبرهما قصتها، فقد توفى زوجها (تامر بدران) منذ 10 سنوات، وهاجر ابنها واكتفى بمحادثتها هاتفياً على فترات متباعدة، وتزوجت ابنتها وانشغلت بأسرتها، وأصبحت وحيدة، ولم يعد أحد يسأل عنها.
وسط تأفف الشاب من ثرثرة العجوز، وتعاطف الفتاة معها، تنتقل السيدة من حكاية إلى أخرى، كيف كانت تعشق زوجها الطبيب الناجح، وكيف كانت تتطلع إليه من شرفة بيتها وهو يمارس عمله في عيادته، التي اختارتها هي في البناية المقابلة، ليكون أمام ناظريها طوال الوقت، وكيف كان يعزف على العود ليسري عنها.
وكلما حاول الشاب إيقافها تسترسل في حكاياتها، تحكي عن قطع الأثاث التي اختارتها، قطعة قطعة، من الطراز الإنجليزي، بحسب وصفها، وعن السيدة التي اكتشفت أنها كانت تعشق زوجها في صمت (عبير الطوخي)، وتعرفت عليها حين دفن الزوج في مقبرته، وعندما علمت قصتها وحبها الصامت لزوجها طوال تلك السنوات، تعاطفت معها ووضعت صورتها في شقتها، بناء على رغبة تلك السيدة، حتى إذا زارتها روح الزوج شاهدتها وعلمت كم كانت صاحبة الصورة تحب الزوج من دون أن تخبره، وأمضت حياتها كاملة في مراقبته عن بعد، فقط لأنها تحبه.
بمرور الأحداث نكتشف أن السيدة العجوز صاحبة الشقة المعروضة للبيع، ما هي إلا تلك الأخرى التي أحبت الزوج في صمت، بينما الأخرى هي الزوجة الحقيقية، وأنها اخترعت تلك الأكاذيب لتأتنس في وحدتها بهذين الشابين، بل وتعرض عليهما الإقامة معها في الشقة من دون مقابل، فقط لتشعر معهما بالدفء العائلي الذي افتقدته، لكنهما يغادران في النهاية، من دون استجابة لندائها، ليأتي غيرهما، وتواصل السيدة أكاذيبها اللطيفة، حتى لا تموت صامتة في وحدتها.
مقاومة الوحدة
إنها حكاية الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً لا يستطيع العيش من دون الآخرين، وما لجوء السيدة هنا إلى الكذب، إلا لتلبي هذه الحاجة لديها، هي تحاول علاج هشاشة روحها، ومقاومة وحدتها وأساها وغربتها، لكنها في كل مرة، تصطدم بالقسوة التي تحتملها في مقابل ولو بضع دقائق من الونس.
نص شاعري كتبه الحسيني بنعومة بالغة، قابلتها نعومة في عناصر العرض الأخرى، بدت جميعها كما لو كانت تبث تعاطفها مع تلك الحالة الإنسانية التي تعيش ظرفاً شديد القسوة، فالديكور (أحمد الألفي) جمع بين الواقعي والتعبيري، أفرط في جمالياته التي تماهت مع الحالة أمامنا، بهو منزل كبير وأنيق، محاط بالستائر البيضاء من جوانبه الثلاثة، وفي الخلفية مستوى آخر تؤدى به بعض المشاهد كما لو كانت شاشة سينما، وشرفة مزينة بالورود، ومكان لتجسيد مشاهد الاسترجاع، أشبه بإطار الصور، كأننا نقلب في ألبوم الذكريات، وإكسسوارات متناثرة هنا وهناك مثل الغرامافون والمدفأة وبعض المنحوتات الصغيرة وغيرها، كل ذلك في ألوان مبهجة، وكأنها عوضاً عن حالة الاكتئاب التي يبعثها الشتاء، وتعيشها السيدة.
معروف عن المخرج الشاب محمد عشري ميله إلى العروض الحركية التي يستعين فيها بعدد كبير من الممثلين والراقصين، لكنه هنا مال أكثر إلى الهدوء، متخلياً عن فرط الحركة التي وسمت أعماله السابقة، وكانت موظفة بالتأكيد في خدمة تلك الأعمال ونال عنها جوائز عدة، لكنه هذه المرة استجاب لمنطق النص وشاعريته، وسعى إلى الإمساك بتلك التفاصيل الدقيقة وتأطيرها في مشاهد ناعمة وأسيانة، تعمق الإحساس أكثر لدى المشاهد بأزمة السيدة العجوز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتقل المخرج من المشاهد الآنية إلى تلك التي وقعت في الماضي" فلاش باك" بخفة وسلاسة، من دون أن يلجأ إلى الإعتام، بحيث بدا الأمر كما لو كنا بصدد مونتاج سينمائي جرى تنفيذه بدقة واحترافية، رابطاً بين الزمنين بنقلات موسيقية وأغان تسهم في بناء دراما العرض (أشعار إبراهيم الحسيني، ألحان رجب الشاذلي، وغنائه مع ياسمين الشاذلي).
العرض تم تقديمه داخل قاعة مسرح الغد، وعلى رغم أن وضعية المشاهدين جاءت في مواجهة منصة التمثيل، كما لو كنا بصدد مسرح علبة إيطالي، فقد حرص مصمم الديكور على وضع بعض المقاعد للمشاهدين يسار منصة التمثيل، ربما لكسر فكرة العلبة، وربما أيضاً ليكون صاحب النصيب من المشاهدين جزءاً من الحالة أو في داخلها، لكن ظل الفارق واضحاً في طريقة أداء الممثلين التي التزمت متطلبات التمثيل داخل القاعة، بخاصة في استخدام جهاز الصوت وتعبيرات الوجه، فالممثل هنا يكاد يلتصق بالجمهور، مما يتطلب وعياً بطبيعة المكان، وقدرة على ضبط الأداء، والعناية بأدق التفاصيل.
ساعة واحدة استغرقها العرض، كانت كافية للإحاطة بأزمة الشخصية الرئيسة، والتعاطف معها، باعتبارها حالة تمس كثيرين، وسط إيقاع مجتمعي لاهث، وربما شرس، لا يعبأ أفراده بغيرهم، وكأنه ينبهنا إلى قسوتنا وفقدنا حسنا الإنساني ويدعونا إلى استعادته، فالغربة تظلنا جميعاً، والسيدة هنا هي نحن أيضاً، كل ومبعث غربته.