ملخص
"حياة بلون الورد" La vie en rose مسرحية جديدة تعرض على خشبة مسرح "المنطقة السابعة" District 7 في حي الجميزة - بيروت وهي الأولى في سلسلة مسرحيات "على الرصيف هذا المساء" Au trottoir ce soir التي يطلقها المسرح.
لعل ما تشترك فيه أعمال هذه السلسلة أن أحداثها كلها تدور مساء وعلى رصيف، كما يدل عليه الاسم، في سيناريوات مختلفة وبين شخصيات متنوعة تتعدد بأدوارها وخلفياتها ومستوياتها والحوارات التي تدور بينها. وتعرض مسرحية "حياة بلون الورد" كتابة مايا سعيد وتمثيل صولانج تراك وإيلي متري وطارق تميم ولبنان عون، حتى يونيو (حزيران) الجاري.
إنها باريس عام 1946. فرنسا خارجة لتوها من حرب عالمية ثانية طاحنة، ديغول الذي حرر الفرنسيين من السيطرة النازية يحاول التأسيس والإكمال في جمهورية رابعة على رغم الصراعات الهائلة حول السلطة والنظام السياسي الجديد. والخلافات عميقة والنزاعات لا حد لها، وفي الشارع أربعة لبنانيين مهاجرين مشتتين مشردين يحاولون لملمة أجزائهم. "حياة بلون الورد" مسرحية تعود بالجمهور اللبناني 80 عاماً للوراء، لمنتصف القرن الماضي لتندد بالهجرة والحروب ومآسي الغربة.
4 لبنانيين على رصيف باريسي
في إطار ديكور مشغول بعناية ودقة وحرفية، تدور أحداث هذه المسرحية على رصيف معتم أمام باب كاباريه في شارع مونمارتر الباريسي العريق والمشهور بسهره وأجوائه الليلية. على مقعد خشبي مهترئ، تحت ضوء أصفر باهت، يجلس أربعة لبنانيين تغربوا من أرضهم إلى أوروبا في الحرب العالمية الثانية، ليرووا قصصهم كل بطريقته. رسام وموسيقي وراقصة كاباريه وشاب حزين يخبرون قصصهم وقصص مآسيهم وخيباتهم كل بطريقته في "مونولوغ" مخصص له وبأداء تمثيلي رفيع.
وينجح كل من إيلي متري وطارق تميم في تأدية دوريهما كمشردين فقيرين يتقاسمان المقعد الخشبي الوحيد والسجائر القليلة والأحزان الكثيرة، لتنضم إليهما صولانج تراك بدور الراقصة مريانا الهاربة من أتون الحرب في الشرق إلى متاهات الأعوام السوداء في أوروبا، بتمثيل جميل جريء جذاب، ليبقى الموسيقي الصامت لبنان عون هو المتحدث الأخير بأحزانه، بأدائه وموسيقاه وقبعته السوداء المنكسرة.
شارع مضاء بالكاد ومقعد يتسع للمشردين الأربعة بالكاد ورصيف يضم أحزان العالم الثالث كله، عناصر تجتمع لتشكل ديكور هذا العمل، فيظهر التعارض الذكي الساخر الفذ بين عنوان المسرحية الذي يعود بالجمهور لأغنية إيديت بياف (1915-1963) البديعة "حياة بلون الورد" La vie en rose وبين الكابوس الذي يعيشه المشردون. فما يعيشه المشردون الأربعة لا يمت بأية صلة للحياة الجميلة الوردية. وكأن الكاتبة تريد أن تؤكد أن الحلم الوردي الذي يتوقع المغتربون عيشه وتحقيقه في بلاد الاغتراب إنما هو مجرد وهم وسراب وكذبة كبيرة. وكأن النص يريد التأكيد على انكسار أحلام المغتربين. هؤلاء الذين تركوا كل شيء وكل عزيز خلفهم سعياً إلى بلوغ الحياة الجميلة الهانئة المستقرة لكنهم وقعوا على حقيقة بشعة مؤلمة فيها كثير من الوحدة والانكسار والخيبات.
وتبدو الغربة من خلال هذه المسرحية وحشاً كاسراً نهماً يبتلع الآتين إليه من العالم الثالث بأحلامهم وأوهامهم وأحزانهم. يغادر الناس أوطانهم وأحباءهم متوقعين أن الأمور في الخارج ستكون أفضل، لكن الأمور ليست كذلك تماماً ولا تجري الرياح يوماً كما تشتهي السفن. فها إن المهاجرين قد وصلوا إلى البلاد الجديدة ليجدوا الواقع أصعب وأقسى من ذاك الذي كانوا فيه.
عالم فوضوي
يقول أنطونان أرتو (1896-1948) إننا كبشر لسنا أحراراً فالسماء قد تهوي على رؤوسنا بين لحظة وأخرى، وقد وُجد المسرح، أول ما وُجد، ليذكرنا بهذه الحقيقة. وفيما قد تبدو هذه الجملة عبثية عدمية للوهلة الأولى، تتجلى جملة منطقية طبيعية عقلانية في أعين أهل الشرق الأوسط الذين يجدون أنفسهم اليوم، وربما للمرة الألف، على مشارف حرب عالمية ثالثة مدمرة قد تودي بهم وبنصف الكرة الأرضية إلى الهلاك. تبدو هذه الجملة منطقية أيما منطق ونحن في خضم هزات وأزمات وحروب تعد بمرحلة شبيهة بما عرفته أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها من أعوام عجاف.
من هنا، تأتي مسرحية "حياة بلون الورد" مسرحية ساخرة ثاقبة من ناحية الحقبة الزمنية التي تقدمها، فهي تعود بالجمهور للحرب العالمية الثانية والسنوات التي تلتها في لفتة رمزية محنكة، وكأنها تقول إن الهجرة كذبة والأحلام الزهرية كذبة والعالم الأول كذبة. وكأنها تكرر مقولة أرتو إن السماء قد تسقط على رؤوسنا في أية لحظة وأينما كنا ومهما ابتعدنا من أوطاننا.
كثير من الحنين والحزن لدى الهاربين الاثنين من الجيش الألماني والراقصة وعازف الأكورديون، ونقاط مشتركة كثيرة بين هؤلاء الذين يحاولون الهرب من الواقع والحروب والفقر لكن هذه الأخيرة تتبعهم أينما حلوا. فتأتي هذه المسرحية لتسلط الضوء على صعوبة الهجرة وقسوتها ومأساة مغادرة الوطن منذ القدم وحتى يومنا هذا، فإن تغيرت السنة لا تزال المأساة نفسها والمعاناة نفسها ومشاعر عدم الانتماء نفسها.
مفهوم District 7
في محاولة منها لخلق مساحة فنية حميمة مواتية للإبداع وللتلاقي الفني والثقافي والفكري، خلقت الممثلة اللبنانية صولانج تراك مفهوم "المنطقة السابعة" District 7، وهو كما يدل عليه اسمه مكان أو منطقة أو مقاطعة مخصصة للفن السابع وهو السينما ومعه المسرح والفنون الاستعراضية الأخرى. وتحاول صولانج تراك عبر خلق مفهوم "المنطقة السابعة" District 7 التي أنشأتها منذ عامين تقريباً أن تؤمن للفنانين ملتقى، بين مقهى ومطعم وقاعات تدريب وخشبة مسرح، ساعية بمبادرتها هذه إلى أن تخلق مساحة لأهل الفن فيها يلتقون ويتدربون ويعرضون أعمالهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوفر هذا المكان الذي يفتح أبوابه كل يوم، مساحة للمبدعين للتعبير عن أفكارهم ورؤاهم مع المحافظة على مستوى عالٍ في العروض المقدمة بما يليق بالمكان وبالفن وبالجمهور اللبناني. فتقول صولانج تراك خلال مقابلة أجريناها معها حول هذا المكان وأهدافه، "أردتُ أن أخلق مساحة يمكن الوقوع فيها على كل ما له علاقة بالفن التمثيلي والأداء على الخشبة. من ورش عمل ومشاغل تمثيل وصفوف للصغار والكبار، إلى مكان مخصص للتدريب، وصولاً إلى خشبة ملائمة لتأدية العروض المسرحية والحفلات الموسيقية والغنائية والـ stand up comedy. District 7 هو مساحة للفنانين ليلتقوا، وليقوموا باجتماعات وتمارين، وليتفاعلوا مع بعضهم، وليؤدوا عروضهم. هو ملتقى حميم هادئ مواتٍ للإبداع ومتاح للذين يحتاجون إلى مكان يكتبون فيه أو يتمرنون فيه أو يحضرون فيه أو يلتقون فيه بغيرهم من أهل المجال".
لتبقى الصعوبات التي تواجهها هذه المساحة المسرحية هي الصعوبات نفسها التي يعرفها المجال الفني بأسره في لبنان، فكلما ساء الوضع السياسي في المنطقة أو كلما ازداد خطر وقوع حرب، تغلق المسارح أبوابها بانتظار تحلحل الأمور وتحسنها وانجلاء الخطر. يعيش البلد "على كف عفريت" كما يقولون.
وفي ظل المشكلات السياسية وأزمات الكهرباء والماء وانهيار العملة التي تشهدها بيروت اليوم، يبقى المطلوب دوماً التفكير في خطط أولى وخطط بديلة وخطط بديلة عن الخطط البديلة في حال فشلها. ويبقى المطلوب دوماً التفكير في أنه مهما سقطت السماء على رؤوسنا، يبقى المسرح، على غرار سائر الفنون، المتنفس والملجأ والدواء.