ملخص
عوامل كثيرة تغيرت في علاقة المصريين ببيوتهم في الأعوام الأخيرة وأثرت في شكل وطابع العلاقات الاجتماعية التي انتقلت من الخاص إلى العام فالنوادي والمقاهي والمطاعم أصبحت المقر الرئيس للتجمعات والاحتفالات عند قطاع كبير من المجتمع
منذ أعوام ليست بعيدة كانت منازل المصريين لا تخلو من ضيف عابر أو أحد أفراد العائلة القادم من سفر، ومن تجمعات الأهل والأصدقاء المستمرة، سواء بصورة دورية بسيطة، أو على نطاقات أكبر في مناسبات مثل الأعياد، والحفلات المختلفة، وتجمعات العزائم في رمضان وغيرها، كان البيت هو نقطة لقاء العائلات وشريكاً رئيساً في كل المناسبات.
وفي الأعوام الأخيرة، تتجه الغالبية للتعامل مع كل الاجتماعيات خارج منازلهم، فالمتأمل لأي واحد من النوادي بأحد أيام العطلات الأسبوعية سيجد كثيراً من حفلات أعياد الميلاد للأطفال، وتجمعات عائلية كبيرة على الغداء، الذي اصطحبوه معهم من منازلهم، وتجمعات لطلاب برفقة مدرسين خصوصيين أصبحوا يجعلون النادي مقراً لهم، مستهدفين أبناء أعضائه.
الحال نفسها في المقاهي والكافيهات التي أصبحت تنتشر في طول البلاد وعرضها، واتخذت في الأعوام الأخيرة طابعاً جديداً عن كونها مكاناً لتناول مشروب أو الذهاب إلى النزهة من حين إلى آخر، لكنها أصبحت مقراً لكثير من الطقوس الاجتماعية التي ارتبطت بالمنازل على مر الأعوام، مثل تجمع الطلاب للمذاكرة في البيوت قبيل أيام الاختبارات، وكذلك استقبال الأسر عريساً يتقدم لابنتهم، فكان هذا حدثاً جللاً في حياة الأسرة تتخذ له إجراءات عدة، ويجري العمل على قدم وساق لتجهيز المنزل لاستقبال الضيف والظهور بأفضل صورة، حالياً قطاع كبير من المصريين يلتقي العريس في أحد الكافيهات.
وكثير من الكافيهات والمطاعم أصبحت تقام فيها عزائم رمضان واحتفالات سبوع وعقيقة المواليد وحتى اللقاءات الدورية العادية بأفراد العائلة المقربين مثل الأخوال والأعمام، كل هذا أصبح خارج المنازل، والظاهرة أصبحت ملاحظة، فالعلاقات العائلية انتقلت من الخاص إلى العام، وخفت حضور البيوت في الاجتماعيات وبصورة خاصة عند الأجيال الأصغر.
لا لقاءات بالمنازل
تحكي سامية السيد، (72 سنة) "عندما كان أبنائي صغاراً كنا بصورة أسبوعية نقضي عطلة نهاية الأسبوع في بيت العائلة، لزيارة الأجداد ولقاء الإخوة، كان هذا طقساً استمر على مدى أعوام طويلة، وكان من أهم عوامل الترابط بيننا، علاقتنا بالجيران طيبة، وكنا نتزاور من حين إلى آخر، ويلعب أطفالنا معاً بصورة شبه يومية في مدخل العمارة الواسع، كان الجيران شركاء في كل الأحداث فعندما كانت تخرج عروس من عمارتنا كان جميع الجيران يستقبلونها بالزغاريد في كل الأدوار، وعندما يكون هناك مولود جديد تقام له في السبوع زفة على سلم العمارة يشارك الجيران في طقوسها من رش الملح والحبوب وغناء الأغاني الشهيرة ويحصلون على نصيبهم من حلوى السبوع وتوزيعاته".
وتستكمل "كل هذا حالياً أصبح ضرباً من الماضي، أبنائي الآن لا يعرفون جيرانهم من الأساس، ولا يرغبون في التعامل معهم، ويفضّلون عدم الاختلاط والخصوصية، حالياً لا تزال علاقتي طيبة بجيراني في منزلنا الواقع بمنطقة شبرا، حيث لا يزال هناك جزء من رائحة الماضي".
بينما تقول نهى (32 سنة) موظفة بأحد البنوك "طبيعة الحياة حالياً لا تجعل هناك وقتاً للجلوس في المنزل من الأساس، ساعات العمل أصبحت طويلة، والالتزمات لا تنتهي ما بين دروس ومشتريات وغيره، وفي نهاية الأسبوع نكون مرتبطين بالتمارين الرياضية للأطفال، وأحياناً نستغل هذا الوقت في لقاء الأهل والأصدقاء في النادي، الإيقاع السريع للحياة لا يجعل هناك فرصة لللقاءات في المنازل إلا في أضيق الحدود، وبصورة شخصية أفضّل أن تكون في الخارج، لأن إقامتها في المنزل تحتاج إلى مجهود مضاعف للتجهيز والتنظيف والاستعداد، ولهذا السبب أقيم أعياد ميلاد أطفالي بالخارج دائماً، وأغلب معارفنا يفعلون الشىء نفسه، فهي سمة العصر".
لا ترتبط هذه الظاهرة بطبقة معينة إذ صارت منتشرة بين قطاعات الطبقة المتوسطة المختلفة التي كانت منازلها جزءاً رئيساً من حياتها الاجتماعية، وكانت صالات الاستقبال لا تفرغ من قريب أو صديق، وحتى صالات الاستقبال التقليدية للمصريين التي كانت تضم صالوناً كلاسيكياً مخصصاً لاستقبال الضيوف وإقامة المناسبات الاجتماعية تغير حالها، وأصبحت تعتمد طراز غرف المعيشة الغربية التي تستخدم في الجلوس وتناول الطعام والمذاكرة، ويتقلص فيها الزوار باعتبار أن ذلك سيمثل شكلاً من أشكال انتهاك خصوصية أصحابها. وحتى من لا يعاني هذه المشكلة ويسكن في شقق واسعة أو فيلات بأرقى الكمبوندات السكنية الفاخرة نقل تجمعاته بالأصدقاء والجيران إلى "الكلوب هاوس" الذي صار ملتقى لاجتماعيات سكان الكمبوند بدلاً من منازلهم، فالظاهرة موجودة لكن تختلف طبيعة تطبيقها باختلاف الحال الاجتماعية والاقتصادية.
يقول أستاذ علم النفس الاجتماعي والسياسي علي سالم، "يرجع هذا الأمر إلى أسباب عدة من بينها السوشيال ميديا، إذ أصبح لها تأثير كبير في تغير كثير من العادات الاجتماعية، بعض المصريين يرغب في أن يحاكي ما يشاهده على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف إظهار الوجاهة الاجتماعية، وأنه ينتمي إلى طبقة معينة من خلال هذه الأفعال حتى لو كان هذا بخلاف الواقع، فنشر صور حفل عيد الميلاد أو الخطبة أو حتى اللقاء العائلي العادي الذي جرى في مكان معين ستعطي عنه انطباعاً وصورة ذهنية يرغب في تصديرها عن نفسه للناس، صور السوشيال ميديا أصبحت ليست بالضرورة تعكس حقيقة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص وهناك أفراد عالمهم الافتراضي على مواقع التواصل يختلف كلياً عن عالمهم الحقيقي، ولا يتوافق معه".
ويضيف سالم، "من العوامل التي أدت إلى هذا الوضع أيضاً التغيرات في طابع الحياة الاجتماعية، وفي طبيعة تفكير الناس وأولوياتها، فالأسرة الواحدة لا يجلس أفرادها بعضهم مع بعض فترات طويلة بسبب طبيعة الحياة والمشغوليات وطول ساعات العمل فما بالنا باستضافة آخرين في منزلهم، أصبح الحل اللقاءات السريعة خارج المنازل، وفي الوقت نفسه الظروف الاقتصادية والبعد عن البساطة جعل اللقاءات المنزلية تمثل عبئاً مادياً كبيراً لبعض الفئات فهم يرون ضرورة لتقديم ضيافة مكلفة والضيف يرى أنه لا بد من أن يصطحب هدية غالية، لم يكن هذا قائماً من قبل، وكان استقبال الضيف يتم بأبسط الإمكانات، وكان الهدف هو التجمع لا البهرجة".
العمارة والعلاقات الاجتماعية
يرجع البعض تغير شكل العلاقات الاجتماعية بصورة عامة وقلة الزيارات والتواصل المباشر إلى اختلاف طبيعة وشكل عمارة المنازل، فالعمارة بصورة عامة ترتبط بالعادات الاجتماعية والتأثير بينهما متبادل، فكانت المنازل قديماً في عصور سابقة تضم فناءً واسعاً وساحات لاستقبال الضيوف وأماكن مخصصة للنساء تزين جدرانها مشربيات، لاحقاً ومع بدايات القرن الـ20 وانتشار طرز العمارة الغربية في مصر ظهرت العمارات الحديثة المزخرفة الواجهات ذات المداخل الواسعة، وكانت الشقق السكنية ذات عدد كبير من الغرف وصالة كبيرة للاستقبال، إضافة إلى غرفة يُوضع فيها صالون مذهّب تغلق لحين وجود ضيف مهم، وكان المصريون يطلقون عليها (غرفة المسافرين) ساعدت هذه المساكن الواسعة التي سكنها الناس على مدى عشرات الأعوام ولا يزال بعضها قائماً على استقبال الضيوف، واستضافة الأهل وتجمعات الأصدقاء وإقامة الاجتماعيات مثل حفلات الزفاف، وواجبات العزاء، والتجمعات الكبيرة للعائلة في الأعياد والمناسبات المختلفة.
لاحقاً وفي فترة ما بعد الحرب العالمية اتخذ نمط العمارة في العالم كله طابعاً جديداً يعتمد على البساطة والواجهات الخرسانية وصغر حجم المساكن للرغبة في إعادة بناء المدن المهدمة أو وجود أزمات اقتصادية جراء الحرب وانتشر هذا النمط في العالم كله. وفي مصر ومع بدايات فترة الانفتاح الاقتصادي خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات بدأت مساحات المساكن تصغر تدرجا، فأصبحت أغلب مساكن الطبقة المتوسطة مكونة من غرفتين وصالة استقبال، ولاحقاً خلال حقبة التسعينيات بدأت مساكن إسكان الشباب وغيره ذات مساحات في حدود 70 متراً في الظهور ولا يزال كثير من الناس يقبل عليها باعتبارها أقل في الكلفة، لكنها في الوقت نفسه تكفي أفراد الأسرة بالكاد.
تقول شيماء عبدالله ربة منزل (36 سنة) "تزوجت منذ سبعة أعوام في واحدة من شقق الإسكان الصغيرة، كانت خطتنا أن هذا وضع موقت وسنشتري شقة أكبر مستقبلاً، وحتى الآن لم نتمكّن بسبب الارتفاع الكبير في الأسعار أخيراً، لا يتحمل منزلي بالفعل إقامة أية اجتماعيات، ليس لدينا سوى صالة صغيرة نضع فيها غرفة للمعيشة وطاولة صغيرة للطعام والمساحة بالفعل لا تمكننا من إقامة عزائم أو استقبال عدد كبير، بالفعل الواقع اختلف، ففي طفولتي كان كل شىء يجري في المنزل وأكثر شيء أذكره هو ذكريات وصور أعياد ميلادنا، كنا نتسابق لوضع الزينات، وكذلك استقبالي لصديقاتي من بنات الجيران وجلوسنا فترة العصر في شرفة منزل والدتي الواسعة".
ومنذ عقود مضت كانت ساعات الدراسة والعمل تنتهي في حدود الساعة الثانية أو الثالثة ظهراً على الأكثر لتعود الأسرة كاملة ليتناولوا طعام الغداء معاً، ويكون هناك متسع من الوقت لممارسة أي نشاط، مثل المذاكرة أو مشاهدة التلفزيون أو استقبال ضيف، فإيقاع الحياة كان هادئاً والضغوط محدودة، حالياً اختفى هذا المشهد كلياً من حياة المصريين بتغير طبيعة المجتمع والعمل، وتعقد الحياة واختلاف بعض وظائف البيت في حياة قطاعات كبيرة من الناس.
تقول المتخصصة التربوية إيمان عبداللاه، "دور البيت في حياة الناس اختلف، سابقاً كانت الناس تعود إلى منازلها بعد يوم العمل ذي الساعات المحددة للراحة والتواصل مع آخرين، حالياً ساعات العمل ممتدة حتى بعد انتهاء الدوام الرسمي في حالات كثيرة، إلى جانب انتشار مفهوم العمل من المنزل الآخذ في الانتشار، الذي نتج منه واقع جديد تماماً علينا، أحيانا يعمل الأب من المنزل بصورة كاملة، ويحتاج إلى الهدوء والتركيز والأم والأطفال يخرجون للنوادي والأماكن العامة للدروس والتمارين والمذاكرة وتناول الطعام فهذا جديد علينا، لكنه أصبح نموذجاً موجوداً، وعليه فمن يعمل من المنزل يرغب في العطلة الأسبوعية أن يخرج من المنزل لا العكس".
وتستكمل عبداللاه، "منظور الناس لمميزات المنزل ذاتها اختلف، فبينما كان الناس سابقاً يبحثون عن الموقع المتوسط القريب من الأهل والشارع الحيوي ذي الخدمات المتوافرة أصبح قطاع كبير حالياً المنزل المثالي بالنسبة إليه هو الواقع في منطقة بعيدة ومحاط بالأسوار، ولا يوجد أي تواصل اجتماعي مع الجيران، مثل فكرة الكمبوند، هذه الأفكار عكس ما كان سائداً فترات طويلة من العمل على خلق علاقات مع الجيران والمجتمع المحيط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البيوت والاحتفالات
عكست الدراما المصرية كثيراً من المشاهد في ما يتعلق بالأفراح وحفلات الزفاف وحضور المنازل الطاغي فيها في حقب سابقة، ومن علامات الدراما في هذا الشأن فيلم "أم العروسة" من إنتاج الستينيات وجزئه الثاني فيلم "الحفيد"، وكلاهما قدم صورة صادقة لأسرة عادية من الطبقة المتوسطة المصرية واحتفالها بزفاف ابنتها بكل تفاصيله، ولاحقاً احتفالهم بالمولود، وفي حقبة التسعينيات كان حفل الزفاف الأشهر في الدراما المصرية هو فرح سنية في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" للراحل نور الشريف، وحتى الآن يتندر المصريون بهذا الحفل الذي أقيم في منزل الأسرة الثرية التي تنتمي إلى الطبقة الشعبية بكل تفاصيله.
حالياً تغيرت الحال بصورة كاملة واختفت المنازل من الصورة بتفاصيلها وروحها وطبائعها المختلفة التي تمثل ساكنيها وذوقهم وطبقاتهم الاجتماعية المختلفة، ليحل محلها ديكورات متشابهة، وأصبحت الصور التي تنتشر على السوشيال ميديا صورة طبق الأصل من بعضها بعضاً، فالجميع يرغب في التقليد، وحتى تجهيز العرائس قبل حفل الزفاف الذي كان يجري في منزل أسرتها، حيث يتوافد الأهل والأصدقاء وتضاء الأنوار وتطلق الزغاريد لتخرج العروس "من بيت أبوها إلى بيت الجيران" كما تقول الأغنية الشعبية الشهيرة انتقل إلى غرف الفنادق التي تزين بصورة شبه ثابتة لتستعد فيها العروس قبل حفل الزفاف، وحتى لو لم يكن هناك حفل فتخرج من غرفة الفندق لمنزل الزوجية، لا من بيت أسرتها، كما كان شائعاً حتى أعوام قليلة.
تقول عبداللاه "في زمن سابق كان وجود حفل خطبة أو عرس في المنزل يكون عملاً جماعياً تشارك فيه العائلة، وأحياناً الجيران في التنظيم والترتيب وتجهيز الطعام وتعليق الزينات الآن تقلصت هذه العلاقات أو انعدمت من الأساس، وعند قطاع من الناس هناك حال من الاستسهال وعدم رغبة في بذل الجهد فلماذا هذا المجهود، ويمكن أن نقيم حفلاً بالخارج وانتهي الأمر بخاصة مع عدم وجود قيمة لفكرة البيت بمفهومها القديم وبأنه مركز تجمع العائلة وأنه يمثل قيمة معنوية في ذاته".
وتستكمل، "في الوقت نفسه فإن العروس والعريس يرغبان في إقامة حفل لأصدقائهما بالأساس فلهم الأولوية وأفراد العائلة أقل في الأهمية، وهذا أصبح واقعاً في كثير من الحالات، فحتى لو أقيم الحفل العائلي في المنزل أو غيره فبعدها يخرجون مع أصدقائهم في مكان من دون الأهل، وأصبحت هذه ظاهرة منتشرة جداً فالأصل أصبح الخارج والبيت ثانوي".وتستكمل "هناك كثير من الثوابت التي كانت قائمة في مجتمعاتنا تختفي تدرجا عند قطاع كبير من العائلات من بينها أهمية البيت وقيمة العائلة، وبالفعل الأجيال الجديدة لديها أزمة كبيرة في هذا الشأن فقطاع كبير منهم لم يعتادوا هذا الأمر، وأصبح لا يمثل لهم أهمية، يرجع ذلك إلى أسباب عدة أهمها عدم حرص الأسرة على غرس هذه القيم، فهي الأساس في هذا الشأن، كذلك رغبتهم في تقليد أصدقائهم ومحاكاة ما يشاهدونه على السوشيال ميديا".