ملخص
كلما أوغلت الأنظمة في تبرير الحرب باعتبارها قدراً، تآكل المعنى وتحول الإنسان إلى مشروع ضحية مؤجلة. وما لم يكسر هذا النمط السلطوي الذي يختزل السياسة في القوة، فإن الشرق الأوسط سيظل رهينة دوائر لا نهائية من التوتر، تهدد ما تبقى من فرص للحياة بوصفها أفقاً ممكناً لا مجرد هدنة موقتة.
ثمة لحظة ما من مسار التاريخ، تتوقف فيها الحروب عن أن تكون مجرد أدوات للصراع، وتتحول إلى مرآة كاشفة للأنظمة التي تخوضها، ليس من جهة ما تملكه من قوة، بل مما تفتقر إليه من أفق. فالحرب، بطبيعتها، تفضح ما يخفيه النظام السياسي من عجز أو خوف، وتعري المسافة الفاصلة بين خطاب الأمان وحقيقة الانهيار.
وحين تستطيل الحرب، كما هي الحال في التوتر المستعر بين إسرائيل وإيران، واستكمالاً لمقالي الأسبوعي الماضي "جمهورية اللا دولة في إيران: تأمل في أصل الحريق المستمر"، وقيام الولايات المتحدة الأميركية الأحد الـ22 من يونيو (حزيران) 2025 بضرب منشآت إيران النووية الثلاث في "فوردو" و"نطنز" و"أصفهان"، ورد إيران اليوم التالي بقصف قاعدة "العديد" الجوية العسكرية التابعة للولايات المتحدة في دولة قطر من دون حدوث خسائر، فإن السؤال في اعتقادي لم يعد عن "انتصار من؟" بل عن "هزيمة ماذا؟" أي، أي معنى نهزم فيه وأي تصور للعالم نراكم فوق أنقاضه؟
لا تعود المعركة هنا تدور على أطراف الجغرافيا بل في مركز العقل السياسي الذي يقودها، في بنيته، في قلقه، في وهم سيطرته. ومع تصاعد العنف المسلح بوصفه لغة مألوفة، تنهار القدرة على التفكير خارج منطق "الردع والرد"، وتضيق المسافة بين الدولة ككيان منظم والدولة كآلية دفاع مستدامة ضد ذاتها. وهكذا، يتحول الشرق الأوسط إلى مشهد متكرر من إعادة إنتاج الخوف، لا بوصفه رد فعل بل كحال تأسيسية.
ومن هذه الزاوية يصبح ضرورياً في اعتقادي تأمل المشهد الإسرائيلي-الإيراني لا بوصفه نزاعاً عابراً، بل كبنية مأزومة قائمة على التهديد المتبادل، وعاجزة عن إنتاج أي معنى خارج هذا التهديد. وما يفاقم الأمر أن هذه الثنائية لا تقتصر عليهما، بل تسحب تحتها الإقليم بأكمله، وتفرض عليه إيقاعاً قاسياً من الاستقطاب والانكشاف واللا يقين وربما التيه.
دعوني أطرح ما أفكر به للتو، أعتقد أن أي حرب لا تخرج سالمة. هذه ليست مبالغة عاطفية، بل حقيقة وجودية تعبر عن طبيعة الندوب التي تخلفها الحروب، سواء في الجغرافيا أو في الوعي، في النفس كما في الذاكرة الجمعية. فالحرب لا تعيد رسم الحدود فحسب، بل تعيد تشكيل الإنسان ذاته، وتستولد هشاشة لا يمكن ترميمها سريعاً، لأنها لا تقتصر على ما يرى بل تتسرب إلى ما لا يقال، ذلك ما ينسحب بوضوح على الصراع المتفاقم بين إسرائيل وإيران وتداعياته التي ستستمر لأعوام مقبلة، وهو صراع في تصوري تجاوز مسألة العداء الثنائي ليغدو صراعاً على صورة النظام الإقليمي، بل وعلى معنى الوجود نفسه في منطقة تحولت إلى مسرح دائم للتوترات.
في قلب هذا المشهد، تسعى إسرائيل لإنتاج وهم "الأمن المطلق"، وتتحرك وفق قناعة راسخة داخل مؤسستها الأمنية بأن التعايش مع التهديد لم يعد ممكناً، حتى وإن بدت المواجهة شديدة الخطورة، كما هي الحال مع إيران، ذلك أن طموح التفوق العسكري الذي حققته إسرائيل في معارك متفرقة (دون أن يكون لديها أذرع مسلحة في عدد من الدول العربية كما لدى إيران التي تتباهى بذلك)، رسخ لديها منطقاً دفاعياً هجومياً مفاده أن الخطر لا يُدار بل يُزال. غير أن هذا المنطق يحمل في جوهره مفارقة فادحة، إذ إن الدولة التي ترفض التعايش مع التهديد، تجسد بذاتها تهديداً دائماً لغيرها. فهل من غير المشروع، في ضوء ذلك، أن تعبر دول الخليج العربي وسائر دول الشرق الأوسط عن مخاوفها الوجودية من إسرائيل نفسها، وهي التي راكمت سجلاً من السياسات والممارسات العدوانية التي زعزعت أمن الإقليم وأربكت بنيته السياسية والاجتماعية؟
ليس من المبالغة القول إن إسرائيل بموقعها الحالي وخطابها الأمني تمثل تهديداً وجودياً مباشراً لفلسطين، بل ولإمكانية قيام أية صورة مستقرة من صور التعايش في المنطقة، إذ كيف يمكن لدولة تؤمن بأن أمنها لا يتحقق إلا بتدمير الآخر أن تنخرط في أي مشروع سلام؟ كيف يمكن لدولة تحاصر شعباً وتمنع عنه الغذاء والدواء، وتدعي خلال الوقت نفسه السعي إلى السلام، أن تقنع العالم بعدالة قضيتها؟ بل كيف يمكن أن تحافظ على ثقة جمهورها الداخلي؟ لقد بدأ الداخل الإسرائيلي نفسه يظهر علامات التململ، وتراجعت الثقة في أهداف الحرب. وظهرت أصوات تنادي بالسلام لا بوصفه خياراً مثالياً، بل بوصفه مخرجاً ضرورياً من مأزق سياسي وأخلاقي يزداد تعقيداً مع كل يوم حرب إضافي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الدعم الدولي لإسرائيل والذي كثيراً ما شكل ركيزة معنوية وسياسية لها، فقد بدأ يتآكل بصورة غير مسبوقة. ليس فقط تحت وطأة صور الأطفال الجوعى في غزة، أو بفعل محدودية برامج الإغاثة التي وزعت بعد حصار طويل، بل لأن عبء التبرير السياسي بات ثقيلاً للغاية على حلفاء الأمس. لقد عمقت آلة الحرب عزلتها، ليس فقط على الصعيد الأخلاقي بل دبلوماسياً، ومن المرجح أن تكون لهذه العزلة تبعات طويلة الأمد.
وعلى الجانب الآخر، تبدو إيران على رغم مما تعرضت له من ضربات مصرة على مواصلة اللعب وفق منطق الاستنزاف، رهاناً على الزمن الطويل وعلى تآكل إرادة الخصم. فالنظام الإيراني، الذي يعاني داخلياً أزمة شرعية، يستثمر الصراع الإقليمي كوسيلة لإطالة عمره السياسي، ويصدر التوتر للخارج كنوع من الهرب المنظم من الداخل المتآكل، على رغم أن حكومته تقول إن تجهيزاتها القتالية تكفي لأعوام عديدة.
وما يجمع النظامين، الإسرائيلي والإيراني، أنهما يشرعنان الحرب بوصفها ضرورة وجودية، ويستخدمانها أداة لتثبيت سلطة أو شرعية مهددة. وهكذا يتحول الأمن من غاية إنسانية إلى ذريعة سياسية، وتغلف الحرب بغلاف استراتيجي يخفي في تصوري ضعفاً بنيوياً عميقاً في كل منهما. ولذلك تبرز الحاجة الماسة إلى مساءلة جوهر هذا الصراع، لا على مستوى الوقائع الظاهرة فحسب، بل على مستوى البنية الفكرية التي تصنعها. فالحرب ليست أداة لحل الصراع، بل تكثيف له بوسائل أخرى. وما من نهاية ممكنة للصراع دون كسر ثنائية العداء المطلق، ودون إعادة تعريف الأمن خارج منطق الإبادة والردع.
والمفارقة أن إعلان وقف إطلاق نار "كامل وشامل" بين إسرائيل وإيران، كما جاء على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال الـ24 من يونيو 2025 لا يبدو تتويجاً لانتصار واضح، بقدر ما يعكس هشاشة متبادلة تراد لها تغطية دبلوماسية موقتة.
إن وقف النار هنا في اعتقادي لا ينهي الصراع، بل يرحله. فالنظامان، وقد استنفدا طاقة التهديد، يعودان إلى مرحلة كمون متوتر، لا تنزع فتيله التسويات الظرفية بل تهدئه موقتاً من أجل إعادة التسلح. وكأن هذا "الهدوء" ليس سلاماً، بل صورة جديدة من الاستعداد لحرب مقبلة. في مثل هذا السياق، يصبح وقف النار لا علامة أمل، بل دليلاً إضافياً على فشل البنية الصراعية في إنتاج تصور مشترك للأمن والحياة، بل يمكن القول إن هذا الإعلان، الذي بدا وكأنه يأتي من خارج إرادة الطرفين، يكرس من جديد ضعف استقلاليتهما، ويؤكد أن الصراع بأكمله كان مشهداً ضمن مسرح أكبر، تتحكم بإيقاعه قوى لا تبحث عن حلول بل عن توازن بين الفوضى والاستقرار.
لكن المفارقة الأكثر لفتاً للانتباه، التي تكشف طبيعة هذا الصراع المتهافت، تتمثل في توصيف طرفي النزاع لوقف إطلاق النار ذاته بوصفه "انتصاراً"، إذ وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "انتصار تاريخي" لإسرائيل، بينما عده الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان "نصراً عظيماً للأمة الإيرانية". وما يبدو أنه انتصار مزدوج، لا يترجم على الأرض إلا باعتراف متبادل بحدود القوة، وتراجع ضمني عن وهم الحسم، ليغدو هذا "الانتصار" تعبيراً آخر عن فشل الطرفين في فرض واقع جديد، وعن ارتباك سياسي يغلفه الخطاب المنتصر لتغطية أثر التآكل الداخلي.
ربما يبدأ الحل حين يعاد توجيه النظر من "كيف نهزم الآخر؟" إلى "كيف نصوغ المنطقة على نحو يسمح بالحياة؟" وهذه ليست دعوة مثالية، بل ضرورة واقعية في منطقة أنهكتها الحروب، ويعيش سكانها تحت خط الخوف لا الفقر فحسب. فالقوة وحدها لا تخلق أمناً دائماً، والتفوق العسكري لا يصنع سلاماً ما لم يرتبط بفكرة أوسع، أن للناس هنا حقاً في العيش لا كجنود محتملين بل كبشر، وهذا في اعتقادي يتطلب رؤية سياسية لا تقايض الأمن بالحرب، بل تجعل من الأمن وظيفة للسلام لا ذريعة للعدوان.
في المحصلة، لسنا إزاء نظامين قويين، بل أمام نظامين يختبئان خلف صلابة مصطنعة تخفي هشاشة داخلية مقلقة. وها قد بدا أن دوامة العنف التي انزلقت إليها المنطقة تفضي في نهاية المطاف إلى لحظة ارتباك استراتيجي دفعت الجميع إلى التراجع خطوة للوراء، كما يفهم من إعلان وقف إطلاق النار الذي وصف بـ"الكامل والشامل". غير أن هذا التراجع، في جوهره، لا يعكس نضجاً سياسياً بقدر ما يكشف في تصوري عمق المأزق الذي وصل إليه الطرفان. فكلما أوغلت الأنظمة في تبرير الحرب باعتبارها قدراً، تآكل المعنى، وتحول الإنسان إلى مشروع ضحية مؤجلة. وما لم يكسر هذا النمط السلطوي الذي يختزل السياسة في القوة، فإن الشرق الأوسط سيظل رهينة دوائر لا نهائية من التوتر، تهدد ما تبقى من فرص للحياة بوصفها أفقاً ممكناً لا مجرد هدنة موقتة.