ملخص
ولدت البروباغندا الحديثة من رحم الحرب، حين أدركت الدول أن كسب المعركة لا يكون فقط في ميادين القتال، بل أيضاً في عقول الجنود والنساء في المصانع وحتى الأطفال في المدارس.
في صباح يوم عادي، وبينما يتصفح الملايين تطبيق "تيك توك" بحثاً عن مقاطع رقص أو نكات مضحكة، يظهر فيديو مدته 30 ثانية، جندي مجهول يطلق النار وسط أنقاض مدينة. لا توجد تعليقات، فقط موسيقى مشحونة ومؤثرات بصرية سريعة. في أقل من 24 ساعة، يتجاوز الفيديو 10 ملايين مشاهدة، ينقسم الجمهور بين من يراه توثيقاً بطولياً وآخرون يشككون في حقيقته، وآخرون لا يهمهم إلا "الترند".
لكن خلف هذه اللقطة العشوائية الافتراضية، تقف ماكينة متقنة التصميم، هدفها ليس فقط إثارة العواطف، بل توجيه العقول. هكذا تبدو البروباغندا المعاصرة؛ لم تعد منشوراً ورقياً يلقى في ساحة المعركة أو خطاباً إذاعياً يبث عبر الموجات الطويلة، بل تحولت إلى رسالة خفية، مرئية، حيوية، تنساب عبر الشاشات الصغيرة لتزرع أفكاراً من دون الإعلان عن نفسها.
عرفت البشرية البروباغندا منذ آلاف السنين، من النقوش التي تمجد الفراعنة في المعابد، إلى المنشورات الدعائية في الحربين العالميتين، إلى أفلام هوليوود التي روجت لقيم وأعداء في آن معاً. لكنها في القرن الـ 21 بلغت ذروة تطورها فتحولت من أداة تعبئة جماهيرية إلى تقنية هندسة نفسية فردية، تعرف متى تقاطعك، وبما تهتم، وما الذي يجعلك تعيد المشاهدة مراراً.
من الورق إلى المذياع
قبل أن تصبح البروباغندا "ترنداً"، كانت منشوراً مطبوعاً على ورق رخيص يلقى من الطائرات، أو ملصقاً ملوناً يزين جدران المدينة، يحمل شعاراً بسيطاً لكنه مفعم بالقوة: "نحن على حق، والعدو شر محض".
ولدت البروباغندا الحديثة من رحم الحرب، حين أدركت الدول أن كسب المعركة لا يكون فقط في ميادين القتال، بل أيضاً في عقول الجنود والنساء في المصانع وحتى الأطفال في المدارس.
في الحرب العالمية الأولى، استخدمت القوى المتنازعة البوسترات الدعائية (الملصقات) على نطاق غير مسبوق. كانت تظهر الجندي وهو يضحي من أجل الوطن، أو العدو كوحشٍ همجي يهدد الأبرياء. حملت هذه الملصقات رسائل شديدة البساطة والقوة، معتمدة على الصور الرمزية والمشاعر الإنسانية البدائية: الخوف، الفخر، الكراهية، والأمل.
أما في الحرب العالمية الثانية، فقد دخلت البروباغندا مرحلة جديدة مع انتشار المذياع كوسيلة جماهيرية فعالة. كان صوت الزعيم يُبث يومياً وتُنسج حوله هالة من العظمة واستحالة الانهزام، وتغلف الرسائل بالوطنية أو الشك بحسب الجهة.
ظهرت حينها إذاعة "طوكيو روز" التي بثت رسائل موجهة للجنود الأميركيين بهدف إضعاف معنوياتهم، و"إذاعة لندن" التي كانت تبث رسائل مشفرة للمقاومة في أوروبا. وفي الوطن العربي، بدأت بعض الحكومات تدرك قوة المذياع، فبرزت "صوت العرب" من القاهرة، التي لم تكن مجرد محطة إذاعية، بل منصة أيديولوجية مؤثرة في الوعي الجمعي العربي، بخاصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
خلال الحرب الباردة، تحولت البروباغندا إلى معركة ناعمة بين الشرق والغرب، بين الشيوعية والرأسمالية. استخدمت الولايات المتحدة وروسيا وسائل الإعلام الرسمية والإذاعات الموجهة مثل "راديو الحرية" لنشر سرديات متضادة حول الديمقراطية والحرية والعدو الأبدي.
والمثير أن هذه الحملات لم تكن دائماً موجهة للجمهور العريض، بل أحياناً لفئات محددة: العمال أو الطلاب أو الأقليات أو حتى المثقفين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في الحروب العربية المعاصرة، فقد أدركت الأنظمة قيمة الإعلام كأداة تعبئة وتثبيت للشرعية. واستخدم الإعلام الرسمي، من بغداد إلى دمشق إلى القاهرة، خطاباً تعبوياً يشيد بالنصر حتى في ظل الانكسار، ويقدم رواية أحادية لا تقبل التشكيك. حتى الهزائم كانت تحاك إعلامياً لتبدو "انتصارات تكتيكية"، بينما يُحمَّل العدو كل مظاهر التدمير، ويُفسَّر التخاذل كمؤامرة.
في هذا السياق، لم تكن البروباغندا مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل عملية لصياغة الواقع نفسه، ترسم ما يقال وما لا يقال، من هو البطل ومن هو الخائن.
التلفزيون والسينما
مع صعود التلفزيون في منتصف القرن الـ20، دخلت البروباغندا مرحلة أكثر تأثيراً، إذ لم تعد الكلمات أو الصور الساكنة كافية؛ أصبحت الصورة المتحركة، المدعومة بالصوت، الوسيلة الأقوى لتشكيل الوعي.
خلال حرب الخليج الثانية (1990)، ظهرت قناة (سي أن أن) كأول شبكة تقدم تغطية حية لحرب على مدار الساعة. ما بدا كإنجاز صحافي كان أيضاً نقلة في البروباغندا الأميركية؛ إذ أسهمت التغطيات الميدانية المنتقاة مع تعليقات محسوبة، في تشكيل رؤية شعبية عالمية عن "العدو العراقي"، و"الدقة الجراحية" للضربات الجوية.
المثير أنه لم يجر استخدام البث المباشر فقط لنقل الحقيقة، بل لتوجيه المشاعر، حيث تغيب أحياناً السياقات ويجري حجب الجانب الآخر من الصورة.
أما في الأنظمة السلطوية، فقد كان التلفزيون الرسمي وسيلة لتثبيت الرواية الواحدة. ففي الحرب الأهلية اللبنانية، أو العدوان الإسرائيلي على غزة، أو حتى حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، لعبت القنوات الرسمية أدواراً دعائية، ترفع المعنويات أحياناً، وتخفي الخسائر في أحيان أخرى.
وعلى الشاشة الكبيرة يتجلى التأثير بشكل أعمق في أفلام مثل "انتصار الإرادة" لعام 1935 من إخراج وإنتاج ليني ريفنشتال كأحد أبرز أعمال البروباغندا النازية، حيث جرى تصوير هتلر والنازية بأسلوب شبه ديني لتعزيز الولاء والتأييد.
كذلك سلسلة الوثائقيات الأميركية "لماذا نقاتل" خلال الحرب العالمية الثانية، التي استخدمت لسرد قصة "الحرية ضد الفاشية" بغرض تعبئة الجنود والشعب. من ناحية أخرى، يعد فيلم "معركة الجزائر" (1966) نموذجاً لبروباغندا المقاومة الثورية بأسلوب وثائقي واقعي، بينما يعكس فيلم "فجر أحمر"(1984) مخاوف الحرب الباردة من التهديد السوفياتي عبر سردية مقاومة وطنية مسلحة. في المقابل كان يجري في الغالب تصوير الروس والعرب والمسلمين والصينيين كأشرار سطحيين أو إرهابيين بلا دوافع إنسانية.
في العالم العربي، وظفت بعض الدول الدراما لتشكيل "عدو داخلي" أو خارجي، كما في بعض المسلسلات المصرية والسورية التي تناولت "الجواسيس" و"المتآمرين"، بأسلوب يخدم أحياناً الخطاب السياسي السائد، مثل "رأفت الهجان" أو "الطريق إلى إيلات".
ومن هنا أصبح التلفزيون والسينما مختبرات نفسية يُصنع فيها الأبطال وتُرسم فيها ملامح الأعداء، بأدوات فنية تخفي وراءها أهدافاً سياسية واضحة.
حروب الهاشتاغات
مع ظهور الإنترنت في نهايات القرن الـ20، بدأت البروباغندا تأخذ شكلاً جديداً من خلال المنتديات الإلكترونية والمدونات السياسية التي وفرت منصات بديلة لنشر الأفكار والروايات بعيداً من السيطرة التقليدية للدولة ووسائل الإعلام الرسمية. في العقد الأول من القرن الـ21، برزت هذه الوسائل كأدوات مهمة للحركات السياسية والاجتماعية لنشر السرديات المعارضة.
كان الربيع العربي (2010-2012) أبرز مثال حي على ذلك، حيث لعبت منصات مثل "فيسبوك" و"إكس" دوراً حاسماً في تعبئة الشباب وتنظيم الاحتجاجات، ونشر روايات مغايرة لما تبثه القنوات الرسمية. أصبحت الهاشتاغات مثل "#ثورة - #الكرامة - #سقوط_بن_علي" أدوات فعالة لتوحيد الرسائل ونشرها بشكل واسع وبسرعة، مما جعل الهاشتاغ سلاحاً دعائياً جماهيرياً حقيقياً.
وفي عصر السوشيال ميديا، تحولت هذه المنصات إلى منصات دائمة للبروباغندا، إذ يمكن للأفراد والجماعات السياسية استهداف شرائح محددة بدقة عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تخلق ما يعرف بـ "غرف الصدى"، التي تعزز من تكرار الرسائل وتقلل من ظهور الآراء المعارضة، ما يزيد من استقطاب الجماهير ويعزز التحيز.
كما يلعب المؤثرون الرقميون دوراً متزايداً في هذا المشهد، إذ يروجون لأفكار سياسية أو عسكرية عبر محتوى يبدو شخصياً وغير رسمي، ما يجعل تأثيرهم أعمق وأوسع انتشاراً من دون أن يكونوا تحت رقابة وسائل الإعلام التقليدية أو يجري تصنيفهم كوسائل إعلام رسمية.
وشهدت السنوات الأخيرة صعود "تيك توك" كمنصة مرئية سريعة التأثير، ويعتمد على مقاطع فيديو قصيرة تجذب الانتباه بسرعة وتصل لعدد كبير من المستخدمين في وقت قياسي. تتيح خاصية البث المباشر فرصة للبروباغندا اللحظية، إذ يمكن نشر رسائل أو مشاهد توثق الأحداث الجارية (مثل المعارك أو الاحتجاجات) بشكل فوري، وغالباً ما يجري انتقاء هذه اللقطات بعناية لتوجيه الرأي العام أو تضليل الخصم بصرياً.
في الأزمات، تستخدم هذه المنصة لنشر محتوى يعزز رواية طرف معين، أو لتشتيت الانتباه عبر فيروسات رقمية، مما يجعلها أداة متطورة للبروباغندا يكون تأثيرها الفردي والجماعي في الوقت الحقيقي.
مستقبل البروباغندا
تتداخل اليوم مفاهيم البروباغندا والتضليل وحرب المعلومات، إذ لم تعد مجرد نشر رسائل دعائية، بل تحولت إلى استخدام تقنيات متقدمة مثل التزييف العميق، والحسابات الوهمية، والحملات المنسقة التي تستهدف تشويش الرأي العام وتوجيهه بما يخدم مصالح الأطراف المختلفة. شهدنا أخيراً حملات ممنهجة تستغل هذه الأدوات لنشر الأخبار الكاذبة، أو لتغيير مجرى النقاش العام بشكل يصعب ملاحظته أو مواجهته.
يتراوح الهدف من هذه الحملات بين تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز الانتماء الوطني، إلى ضرب معنويات الخصم عبر بث مشاهد وأخبار منزوعة السياق، مستغلين العواطف والهوية الثقافية لإحداث تأثير نفسي عميق، يعرف بالحرب النفسية.
ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، قد نشهد توليد محتوى دعائي بشكل أوتوماتيكي يتسم بالدقة والواقعية، ما يزيد من صعوبة التحقق من صحة المعلومات وسط طوفان من المحتوى المتدفق. ما يدفع كثيرين إلى التساؤل، هل سيبقى للصحافة المهنية دور فعال في تشكيل الرأي العام، أم أن القرار بات يُصاغ خلال ثوانٍ عبر الخوارزميات والمنصات الرقمية؟
لكن بغض النظر عن شكل المحتوى، سواء كان ورقة تهبط من طائرة أو هاشتاغاً على الهاتف، يظل السؤال الأهم، هل نحن جمهور واعٍ يختار ما يتلقاه، أم ضحايا محتملون في معركة غير متكافئة؟