Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

متحف "سجون داعش"... جدران القمع ثلاثية الأبعاد

صحافي سوري يروي لـ"اندبندنت عربية" رحلته داخل زنازين التنظيم الإرهابي وجمع تفاصيل ضحايها

الصحافي عامر مطر خلال تصوير رحلة البحث في سجون "داعش" بسوريا (اندبندنت عربية)

ملخص

يروي الصحافي عامر مطر الذي تعرض للاعتقال مرات عدة في بداية الثورة السورية في سجون نظام بشار الأسد، للمرة الأولى في حديث لـ"اندبندنت عربية"، قصة متحف "سجون داعش" والتحديات التي تقف خلف إنشاء المتحف الافتراضي بتفاصيل جديدة.

لم تصمد عينا محمد نور مطر وعدسته أمام وحشية "داعش" وسجونها التي جعلت وجوده سطراً ممحياً في غياهب النسيان منذ 2013، لكن الأبواب التي أغلقها التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق على كل معتقل وراء قضبانه، أعاد عامر مطر شقيق محمد فتحها بعد أن تهاوى الدواعش في أماكن متعددة من البلدين الجارين.

وبعد أن عقد عامر العزم للبحث عن شقيقه، سافر من ألمانيا إلى الرقة وزار تلك السجون التي أخبروه أنه كان بها، لكنه لم يجده ولا حتى حرف من اسمه يخبره أنه كان في مكان ما. وعلى رغم ذلك عاد عامر بأسماء ووثائق فاقت 70 ألفاً لأشخاص كانوا هناك في الأقبية المظلمة التي غصت بهم، فكانت كشعاع شمس أعاد الأمل لذويهم.

هذا الأمل دفع عامر مطر مع فريقه لإنشاء أول متحف افتراضي، وهو "متحف سجون داعش" ثلاثي الأبعاد، ليحكي للعالم قصة المسجون والسجان عل الذاكرة تبقى حية ولا توارى الثرى.

يروي الصحافي عامر مطر الذي تعرض للاعتقال مرات عدة في بداية الثورة السورية في سجون نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، للمرة الأولى في حديث لـ"اندبندنت عربية"، القصة والتحديات التي تقف خلف إنشاء المتحف الافتراضي بتفاصيل جديدة.

دافع البداية

بدأت فكرة المشروع عام 2017 من خلال البحث عن محمد نور، وفق مطر الذي يضيف، "كنت أقوم بفيلم وثائقي للبحث عنه، وبخاصة عندما بدأت تتهاوى وتتساقط البلدات والقرى التي كان يسيطر عليها ’داعش‘، إذ أصبح لدي فرصة بالدخول مع الفريق الذي أعمل معه إلى هذه الأماكن لكي نصور هذه السجون، وكان لدي أمل أن أجد وثيقة عن محمد أو أجد اسمه مكتوباً على حائط أحد السجون التي كان من المفروض أن يكون احتجز فيها".

 

ويتابع "في اللحظة التي دخلنا فيها إلى السجون صادفنا عدداً هائلاً من الأسماء على الجدران، وبدأنا بتصوير الأماكن وأصبح لدينا مسؤولية أخلاقية وصحافية ومهنية تجاه عوائل هؤلاء الأشخاص الذين تركوا أسماءهم على الجدران وفي الوثائق التي حصلنا عليها". ولكن هناك كان يحدث أمر غريب، إذ لاحظ الفريق أنه بعد أيام من دخولهم للمكان وتصويره ومن ثم العودة له بعد فترة وجيزة يجدونه قد تغير، إما بتحويله لسجن مرة أخرى أو سرقته أو بعودة أهله له، إذ إن ’داعش‘ حول كل شيء لسجون من بيوت الناس إلى المستشفيات والكنائس والجوامع والملاعب والمدارس، لذلك هناك بعض من عادوا لأماكنهم أو أغلقوها، وهذا كان تحدياً بالنسبة إلى الفريق، إذ أرادوا أمام هذا الكم من الأدلة توثيق كل شيء بأسرع ما يمكن".

تحديات

خلال عامي 2017 و2018 بدأت مرحلة التصوير وجمع الوثائق حين كان التنظيم ينسحب من هذه الأماكن في سوريا والعراق، وهذه كانت مهمة صعبة جداً، وفق عامر، مضيفاً "لأننا نتحدث عن مناطق سيطرة مختلفة، لذلك كنا بحاجة كل مرة إلى طرق وأشخاص مختلفين لكل منطقة، وهذا كنا بحاجة إلى تنسيق وعمل ميداني ضخم جداً، بخاصة في التفكير بحماية الفريق وأمانه، فغالبية الأماكن كانت ملغمة واستطعنا أن ننجز ما أنجزنا من دون تعرض أي أحد للإصابة في سوريا والعراق".

وقال "من التفاصيل التي كان من الصعب جداً التعامل معها، هي إرسال المعدات لسوريا والعراق، إذ كانت أحياناً تأخذ أسابيع وسفر ومحاولات قد تنجح أو تفشل، إضافة إلى تحميل المواد، فهناك جزء من التقنيات التي كنا نستخدمها كانت محظورة في سوريا بسبب العقوبات المفروض عليها، فكنا نحاول الالتفاف والبحث عن طريقة للعمل في ظل كل هذه الظروف والتحديدات".

 

بعد 2018 أصبح المشروع أوضح، وهنا كانت واحدة من مشكلات الفريق، مفسراً ذلك بقوله "لا يوجد مشروع سابق عمل على هذه الفكرة وتقنياتها، وهو كان تحدياً قوياً أننا ذهبنا في رحلة استكشاف مزجت بين الصحافة والوثائقيات والاستقصاء والأرشيف وهندسة العمارة والتصميم الرقمي واختصاصات مختلفة، وهذا ما دفعنا إلى العمل مع عدد كبير من الأشخاص لتطوير المشروع بين أيدينا والتعرف على ما كان ينقصنا في كل مجال من هذه المجالات، وبخاصة أن فريقنا الأساس كان مكوناً من خمسة صحافيين، ولم يكن لدينا خبرة دقيقة عن الأرشيف وكيفية التعامل معه وبناء جولات ثلاثية الأبعاد، لذلك توسع الفريق وعملنا مع اختصاصيين في الأرشفة والقانون والتصميم والعمارة، والأهم التعامل مع الوثائق وكيفية استخدامها والمحافظة على خصوصية كل شخص اسمه مذكور في وثيقة".

توثيق

يحاول المتحف الكشف عن مصير آلاف الضحايا والمفقودين في السجون والمقابر الجماعية التي خلفها تنظيم "داعش" من خلال توثيق أكثر من 100 موقع كانت مسرحاً لجرائمه وعرض جولات افتراضية تفاعلية لما يزيد على 50 سجناً له، يمكننا فيها مشاهدة والاستماع إلى شهادات ناجين كانوا هنا يوماً ما ورؤية تجسيد بصري لتجاربهم.

هذه الجولات مدعمة بنماذج تفصيلية ثلاثية الأبعاد للأبنية وطبقاتها، أما المدمرة منها فأعيد بناؤها استناداً إلى توصيف الناجين، ويضم المتحف أيضاً أرشيفاً يحفظ أكثر من 70 ألف وثيقة حصرية، إضافة إلى مقتنيات للضحايا وأدوات تعذيب جمعت من المواقع التي غادرها التنظيم وأكثر من 500 مقابلة مع شاهد وشاهدة من المعتقلين السابقين وأهالي المفقودين في سجون التنظيم.

 

وعن كيفية جمع هذا الكم من الوثائق، يتحدث عامر "كنا ندخل السجون التي تركها التنظيم ونجد الوثائق، فجزء كبير من المباني كان فيها وثائق محروقة وأخرى مرمية في الأراضي، فجمعنا كل وثيقة نجدها، إضافة إلى وثائق تركت في الحواسيب والهاردات والكاميرات التي خلفها التنظيم بعد خروجه وهذا كان عاملاً مساعداً، إذ جعلنا نفهم بنية التنظيم ودواوينه وكل الآليات البيروقراطية التي تحكم عمله والتحقق منها، ولدينا بيانات مفصلة لكيفية التحقق من معلومة ومقاطعتها مع أخرى وكيف نستخدمها، ودرسنا اللغة التي يستخدمها التنظيم في طريقة عمله وسنصدر كتاب يشرح لغة السجون لدى ’داعش‘".

جولة في المتحف

أثناء جولة في "متحف سجون داعش" الافتراضي سندخل بداية من البوابة، وهنا سيجد المتجول خريطة تفاعلية لمناطق سجون التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق، وعندها يختار الموقع الذي يريد البدء منه. وفي قسم الزنازين هناك صور بانورامية بزاوية 360 درجة، إذ يدخل افتراضياً إلى زنزانة حقيقية مصورة بعد تحريرها، ويشاهد الجدران المحفورة برسائل المعتقلين، وآثار التعذيب وكتابات بأيدي الضحايا، وبعض الجدران عليها تواريخ وآيات واستغاثات.

ثم يلج إلى قسم الشهادات أو ما يعرف بصوت الذاكرة، وفي كل غرفة، يستطيع المتجول أن يضغط على أيقونات صغيرة تظهر له مقاطع فيديو أو صوتية لشهود عيان وناجين، ويتحدث فيها نساء ورجال عن تجربتهم من لحظة الاعتقال إلى التحقيق وسماعهم لأصوات الصراخ، وشعورهم بالجوع والخوف وكثير من الألم.

 

وبعدها يصل المتجول إلى الوثائق، وهو أرشيف "داعش" الإداري، هنا يقرأ وثائق أصلية مصورة مثل أوامر اعتقال وفواتير غذاء للسجون وكشوف رواتب للسجانين وقوائم الإعدام. ويجد مع كل وثيقة شرحاً للسياق وتحليلاً يكشف كيف كان التنظيم يعمل كمؤسسة بوليسية كاملة. وعند نقطة روابط وخرائط ذكية يستطيع أن يلاحظ علاقات مترابطة بين السجون والجلادين والضحايا والقيادات، فكل عنصر موصول بعنصر آخر، ليكتشف صورة أكبر وأوضح كل ما غاص أعمق.

وفي المتحف يوجد ما يسمى مساحات للتأمل وهي محطات مخصصة للصمت وللتفكير، وفيها صور فارغة ومشاهد لسماء المدينة ومقاطع موسيقية حزينة، ليعيش لحظة مع الذات والذاكرة، إلى أن يصل المتصفح إلى ركن الدعم والتضامن، إذ يستطيع كتابة رسالة لأهالي المفقودين ودعم التحقيقات ومشاركة القصة، وفي النهاية يدخل متجول جديد، فهو مساحة مستمرة للكلام وللمحاسبة ولحماية الكرامة كما يريد له مصمموه.

نماذج بلا وجوه

عن بناء المتحف الرقمي والشخوص الرقمية التي يحويها، قال منذر غانم أحد المصممين الرقميين في مشروع المتحف عند سؤاله عن استخدام الذكاء الاصطناعي في البناء الافتراضي، "بالتأكيد أن أدوات الذكاء الاصطناعي تقدم كثيراً من الأشياء التي يمكن الاستفادة منها في التصميم بخاصة توليد الصور والخامات التي نستخدمها في إعادة بناء السجون، لكن حتى الآن الذكاء الاصطناعي نتائجه عامة كثيراً وصعب الوصول لنتائج دقيقة بعمليات دراسة واستقصاء السجون وبناء الجولات".

أما في ما يتعلق بتنميط الشخوص ووجود نموذج واحد مكرر داخل الجولات، وهل يؤثر في التفاعل مع الضحايا، قال غانم "هذا كان من التحديات التي فكرنا فيها منذ البداية. كنا حريصين على تجنب التنميط البصري، سواء لعناصر تنظيم ’داعش’ أم للضحايا. لم نرغب أن يتحول المتحف عن غير قصد إلى وسيلة لترسيخ صورة نمطية لمرتكبي العنف، سواء من حيث الشكل أم اللون أم الملامح أم حتى اللباس المحلي، بخاصة في ظل تصاعد الإسلاموفوبيا وخطاب الكراهية ضد فئات محددة من الناس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أضاف "لهذا السبب اخترنا أن تكون النماذج البشرية داخل المتحف بألوان محايدة كالرمادي، ومن دون ملامح محددة، كي لا نمنح الشر وجهاً واحداً، أو الضحية قالباً واحداً. كنا حذرين جداً في هذا الجانب، لأننا نؤمن أن الشر ليس له هوية واحدة، ولا ثقافة واحدة، ولا شكل واحد".

الهدف الأساس من هذا الاختيار هو الحفاظ على البعد الإنساني والتوثيقي للمتحف، من دون الوقوع في فخ التعميم أو إيذاء مجتمعات قد تكون تعرضت أصلاً للتنميط والتهميش. نحن نحاول أن نقدم سردية مركبة، تحترم الحقيقة وتبتعد من التبسيط الضار".

الصدى في الغرب والغاية

بعد سبعة أعوام من العمل عليه، افتتح "متحف سجون داعش" بعرض مغلق لمجموعة مختارة من الأشخاص في المسرح الوطني في لندن، وكان عرضاً تجريبياً لرؤية مدى تفاعل الناس مع الفكرة عبر جولات ثلاثية الأبعاد، أما أول مكان قدم فيه المتحف جولاته بصورة عامة كان في المبنى الرئيس لـ"اليونيسكو" في باريس، وكان عرض حضره عدد كبير من الأشخاص والمهتمين ومن بينهم طلاب مدارس وجامعات كي يفهموا بالتحديد ما الذي حدث هناك، وكان اسم العرض "ثلاثة جدران" يتحدث عن كيفية تحويل مدينة الموصل لسجن كبير، كما ركز العارضون على سجون محددة تعبر بصورة موجزة عن سجون التنظيم بصورة عامة.

كما يقوم فريق المتحف بندوات ومحاضرات في أماكن مختلفة حول العالم عن المتحف بحد ذاته وكيفية عمل التنظيم، وحصل الفريق على تصريحات من الغرب مثل، "للمرة الأولى نفهم كيف عمل تنظيم ’داعش’ من الداخل؟ وكيف بني نظامه القمعي؟"، فالمتحف يقدم صورة إنسانية لا فقط أرقاماً، ويظهر أن الضحايا ليسوا أرقاماً في تقارير، بل بشر لهم وجوه وأسماء وتجارب.

وهذه غاية المتحف، إضافة إلى الوصول إلى عدالة حقيقية غير انتقائية، وأن يتحول المتحف إلى مصدر رسمي معترف به، يوثق الجرائم المرتكبة في سجون "داعش"، ويستخدم كأداة في المساءلة وكأرشيف مفتوح للأجيال القادمة. وأن يحفظ حق الضحايا، ويدعم أهاليهم، ويؤسس لذاكرة جماعية تمنع التكرار، كما يعمل الفريق على منصة جديدة تدعى جواب للتواصل مع أهالي الضحايا والمفقودين ومساعدتهم وتقديم الدعم لهم.  

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير