Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب أواكرانيا في مراحلها الأخيرة وبوتين لن يتوقف هناك

يتناول كاتب المقالة الوضع الراهن للصراع وإمكان التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار وما الذي يخطط له الزعيم الروسي للمرحلة المقبلة

بعد 3 أعوام من القتال العنيف، لم تتمكن روسيا من تحقيق نصر واضح، لكنها أنجزت أكثر الأهداف المشؤومة لبوتين: تحدي "الناتو" وتقويض الغرب (رويترز)

ملخص

يواصل بوتين استراتيجية عدوانية تتجاوز أوكرانيا نحو إعادة تشكيل التوازن الأمني في أوروبا، مدعوماً بمناورات سياسية وميدانية مكلفة. أوكرانيا، رغم تفوق روسيا العددي والناري، تحافظ على الصمود بتكنولوجيا الطائرات المسيرة والدعم الغربي، وسط ضغوط لتقسيمها والتخلي عن أراضٍ محتلة.

وصف عرض فلاديمير بوتين لوقف إطلاق نار قصير في مايو (أيار) الجاري بأنه "محاولة أخرى للتلاعب" لا ينصف حجم الأمر. فالرئيس الروسي، بحسب الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطانية MI6، عازم على ما هو أكبر بكثير من مجرد السيطرة على أوكرانيا.

وبدلاً من أن يشعر بوتين بالقلق من تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأخيرة بتشديد العقوبات على روسيا، أو أن يحرجه امتعاض البيت الأبيض من مماطلة موسكو في ملف وقف إطلاق النار في أوكرانيا، يواصل سلوكه المتعنت، مظهراً أنه يصغي في مشهد استعراضي، ثم يفعل ما يشاء من دون اكتراث.

وهذا السلوك ينسجم مع الرسالة الصريحة وغير المعتادة من رئيس الاستخبارات السابق، السير أليكس يانغر الذي أمضى حياته في ظلال التجسس، ويقول ببساطة: "إن لم تقف في وجهه، سيعود ليأخذ مزيداً، كم مرة نحتاج إلى سماع هذه الحقيقة؟".

أما أحدث مناورات بوتين، فهي عرض لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أيام اعتباراً من الثامن من مايو الجاري، إحياءً لذكرى انتصار روسيا على ألمانيا النازية. لكن الهجمات المتكررة بالطائرات المسيّرة الأوكرانية في الأيام التي تسبق العرض العسكري المقرر في التاسع مايو، تجعل من غير المرجح أن يحضر الرئيس الروسي، علماً أن وقف إطلاق النار الذي أعلنه في عيد الفصح الماضي لم يُلتزم حتى من قبل قواته.

ورد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مرة أخرى على هذا العرض، داعياً إلى وقف غير مشروط للأعمال العدائية بالتزامن مع انطلاق محادثات أوسع نطاقاً.

إلا أن هذه المبادرة تعثرت بسبب المفاوضين الأميركيين الذين تبنوا بالفعل معظم أهداف روسيا كمسلمات قبل بدء أية محادثات. وفي الآونة الأخيرة، كرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب موقفه القائل إن شبه جزيرة القرم التي استولت عليها روسيا عام 2014، وهي قضية خاسرة بالنسبة إلى كييف.

وسيشعر زيلينسكي بالتفاؤل بعد التوقيع أخيراً على اتفاق المعادن مع ترمب، في أعقاب موجة مكثفة من التحركات الدبلوماسية بين كييف وواشنطن، فهذا الاتفاق يضمن أن للولايات المتحدة مصلحة مالية مباشرة في مستقبل بلاده.

وأية مساعدات عسكرية أميركية، بدءاً من لحظة تصديق البرلمان الأوكراني على الاتفاق، ستُقدر بالدولار وتمنح كرصيد في صندوق استثماري مشترك بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، في إطار صفقة "معادن مقابل أسلحة". ولن يتاح استخدام هذا الرصيد إلا في عمليات استغلال الموارد مستقبلاً، مما يمنح واشنطن حافزاً مالياً للاستمرار في دعم أوكرانيا.

أما روسيا، فتأمل في أن تفضي أية مفاوضات سلام مستقبلية إلى اتفاق يسمح لها بالاحتفاظ بالأراضي الأوكرانية التي تحتلها في الوقت الراهن. وكانت كل من الولايات المتحدة وروسيا توصلتا مسبقاً إلى تفاهم أن زيلينسكي سيضطر إلى قبول هذا الأمر كبند أول في أي حوار مستقبلي. لكن التداعيات والأخطار هي أكبر بكثير وتتجاوز أوكرانيا لتطاول المنطقة ككل.

وفي أحدث تقرير سنوي له، حذر جهاز الاستخبارات الخارجية الدنماركي من أن "الحرب في أوكرانيا ستعيد تشكيل الأمن الأوروبي حتى ما بعد عام 2025، متوقعاً أن تكثف روسيا استخدام وسائل هجينة، بما في ذلك التخريب وحملات التأثير الخبيثة".

ويضيف التقرير: "علاوة على ذلك، من المتوقع أن تصبح روسيا أكثر استعداداً لمواجهة دول ’حلف شمال الأطلسي‘ (الناتو) بوسائلها العسكرية. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يتزايد التهديد العسكري الذي تشكله خلال السنوات المقبلة".

في هذه الأثناء، لا يشعر الجنود على خطوط المواجهة في أوكرانيا بالإنهاك والتعب فحسب، بل يتملكهم أيضاً شعور بالإحباط الشديد من الفرضية السائدة بأنهم يخسرون حرب استنزاف طويلة وأن انتصار روسيا مسألة وقت لا أكثر.

في ما يأتي، تلقي "اندبندنت" نظرة فاحصة على وضع الصراع، ودوافع كل طرف، وتأثيراته الأوسع في العالم.

هل أوكرانيا في طريقها إلى النصر، أم الهزيمة - أم أنها عالقة في حالة جمود عسكري؟

بعد مرور ثلاثة أعوام على الغزو الشامل الذي شنته قوات موسكو على أوكرانيا، يبدو أن حلفاء كييف، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لا يزالون في حال ارتباك إزاء ما إذا كانت أوكرانيا تخسر، أو علقت في طريق مسدود، أو لا تزال قادرة على الانتصار.

ويمكن تلخيص تطور الأداء العسكري الأوكراني منذ عام 2022 في ثلاث مراحل: فترة أولى اتسمت بجرأة عشوائية تخللتها إخفاقات، تلتها مرحلة من النجاحات الخاطفة، ثم انحدار تدريجي إلى الاعتماد المتزايد على "الـناتو"، وما تبعه من هجمات فاشلة وموجة من الإحباط طويل الأمد.

 

هذا الواقع دفع كثيرين في أوروبا، ولا سيما منهم جنرالات من ذوي الخبرة في صفوف "حلف شمال الأطلسي" إلى الاستنتاج بأن أوكرانيا قد تضطر في نهاية المطاف إلى التنازل عن بعض الأراضي في مقابل التوصل إلى اتفاق سلام، حتى في وقت سارعت فيه الدول الأوروبية إلى سد الثغرات التي خلفها حليف سابق فقد صدقيته ولم يعُد يمكن الاعتماد عليه، وهو واشنطن.

لكن ما يغفل عنه هؤلاء هو أن أوكرانيا تقود اليوم مرحلة متقدمة من الحرب الحديثة، وأحرزت تفوقاً واضحاً في الجبهة الأحدث والأكثر تطوراً تكنولوجياً: حرب الطائرات المسيّرة.

أما بوتين، وبعدما ضللته أجهزة استخباراته التي اعتقدت بأن الجيش الروسي سيقابل بالترحيب والزهور فور دخوله إلى الأراضي الأوكرانية، فأمر بشن غزو شامل لأوكرانيا في الـ24 من فبراير (شباط) عام 2022.

وبالنظر إلى أن روسيا كانت في حال حرب فعلية هناك منذ عام 2014، بعد ضمها شبه جزيرة القرم ومساندتها قوات انفصالية في مقاطعتي دونباس شرق البلاد، كان يجدر ببوتين أن يعرف ما ينتظره.

لكن الأوكرانيين لم ينسوا القرم، بل استحضروا الذاكرة الأليمة لـ"المحبة الأخوية" الروسية المزعومة لأرض الروس الأسطورية التي ترجمتها موسكو إلى إبادة جماعية في ثلاثينيات القرن الماضي، حين قُتل ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، وقد يصل العدد إلى سبعة ملايين أوكراني في مجاعة "هولودومور" Holodomor التي دبرتها السلطة السوفياتية عمداً، بالتوازي مع محو التاريخ واللغة والفنون الأوكرانية.

صحيح أن البنية العسكرية لأوكرانيا كانت في حال يرثى لها عشية الغزو، لكن شعبها لم يكُن كذلك.

أراضٍ فقدت وأخرى استعيدت

خلال الأيام الأولى من الحرب، وبينما كانت التشكيلات الروسية تتقدم في عمق أوكرانيا، اندفعت مجموعات صغيرة من المتطوعين على متن شاحنات صغيرة لمهاجمة القوات الغازية، فنصبوا الكمائن للجنود الروس التعساء، وسرقوا دباباتهم باستخدام الجرارات الزراعية.

في سومي، ألقت نساء مسنات قنابل المولوتوف على الأرتال المدرعة. وفي خاركيف، أصيب مظليون روس تائهون بجروح على يد مقاومين محليين، ثم لقي بعضهم حتفه على يد جدات غاضبات مسلحات بعصي المكانس.

وتعثرت الهجمات الروسية على كييف من جهتي الشمال والشرق، قبل أن تنكفئ. وفي دونباس، تقدمت موسكو نحو خاركيف واستولت على إيزيوم، لكنها لم تتمكن من تجاوزها.

 

وفي الجنوب، سقطت خيرسون سريعاً بيد القوات الآتية من القرم، لكن تقدمها توقف عند هذا الحد، بفعل مقاومة القرويين الأوكرانيين والجنود الذين أجبروا الروس على التراجع إلى الخنادق.

واستفادت أوكرانيا من هذه النجاحات، وحصلت على دعم سريع تمثل في منظومات دفاع جوي ومدافع "هاوتزر" من عيار 155 ملمتراً وصواريخ مضادة للدبابات. وبقيادة الولايات المتحدة، أتيح لأوكرانيا الوصول إلى أفضل المعلومات الاستخباراتية لدى "حلف شمال الأطلسي"، لتبدأ باستهداف مراكز القيادة والسيطرة الروسية، بما في ذلك تصفية أكبر عدد ممكن من القادة العسكريين الروس.

لكن ما غاب عن هذا الدعم، وكان من الممكن أن يشكل نقطة تحول حاسمة، هو تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، مثل صواريخ "كروز"، أو أنظمة الدفاع الجوي الصاروخي المضادة للطائرات ATACMS التي كان يمكن أن تساعدها على حسم المعركة سريعاً، وتوجيه ضربة قاصمة إلى الجيش الروسي في أكثر مراحله ضعفاً.

ولخص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذلك القيد الاستراتيجي بقوله في يونيو (حزيران) عام 2022: " يجب ألا نُذل روسيا، حتى نتمكن من بناء مسار دبلوماسي بمجرد توقف القتال". وجاء هذا التصريح بينما كانت تجمع الأدلة على جرائم الحرب الروسية في بوتشا وإيربين على مشارف كييف.

وخشي عدد كبير من القادة والجنرالات أن تؤدي هزيمة روسيا إلى فوضى داخل الاتحاد الروسي، وانهيار قبضة بوتين على السلطة، مما يسميه العسكريون "النجاح الكارثي".

وأعرب كبار مسؤولي الحكومة البريطانية عن مخاوفهم من احتمال انهيار الاتحاد الروسي. وأبدوا خشية من انتصار أوكراني حاسم لأن الاتحاد الروسي في جوهره إمبراطورية تقوم على الخوف.

ومن اللافت أن وحدات المشاة الروسية التي تمركزت في مقاطعة خيرسون كانت، إلى حد كبير، من شعب البوريات، وهم قوم يعيشون في سيبيريا تحت حكم موسكو. وروى السكان المحليون أن قلة منهم كانت تتحدث الروسية أصلاً. فموسكو تحكم ما لا يقل عن 190 قومية مختلفة.

وتشمل هذه الإمبراطورية 21 جمهورية قد لا تمانع الانفصال إذا ما أتيحت لها الفرصة، وأسهمت هذه المناطق، على مضض، في إرسال أعداد كبيرة من المقاتلين إلى جبهة حرب طويلة بدأها الكرملين في أوكرانيا.

على رغم ذلك، واصلت كييف القتال بيد مقيدة. ففي أواخر صيف عام 2022، شنت هجوماً مضاداً حاسماً تمكنت خلاله من تحرير مدينة إيزيوم شمالاً، ثم استعادت مدينة خيرسون جنوباً. وكان ذلك آخر إنجاز كبير ضمن مرحلة الدفاع الأوكراني المندفع.

ومثلما نجحت أوكرانيا في صد التقدم الروسي خلال مراحله الأولى، تمكنت القوات الروسية من إعادة تنظيم صفوفها وتعزيز تحصيناتها وتكييف تكتيكاتها القتالية، فعادت لأساليب الحقبة السوفياتية التي تعتمد على موجات بشرية من الجنود تلقي بنفسها على مواقع الأوكرانيين في ما يعرف بـ"هجمات مفرمة اللحم"، على امتداد جبهة بطول 1300 كيلومتر.

وتركزت المعارك الضارية على بلدات في الشرق مثل باخموت. وفي ذروة القتال هناك، حيث قتل الآلاف من الطرفين ولا تزال البلدة تحت السيطرة الروسية، وصف أحد المتطوعين الجانب الأكثر ضراوة للهجوم بالقول: "كنتُ أطلق النار على نحو 20 إلى 40 روسياً في اليوم، لكنهم كانوا لا يتوقفون عن التوافد".

الخسائر ومشكلة الإبلاغ عنها

علمت "اندبندنت" من خلال ما أفاد به شهود عيان، أن الخسائر البشرية الروسية كانت هائلة على الجبهة الشرقية فيما تكبدت أوكرانيا أيضاً أضراراً جسيمة.

وفي مقارنة للأرقام، يبلغ عدد سكان روسيا نحو 144 مليون نسمة، فيما عدد سكان أوكرانيا 38 مليون نسمة، مما يمنح الأولى من الناحية النظرية، قوة بشرية تفوق جارتها بثلاثة أضعاف ويتيح لها الصمود لفترة أطول.

إضافة إلى ذلك، تتمتع روسيا بتفوق ناري ساحق على الأوكرانيين. وكثيراً ما تحدث جنود أوكرانيون على الخطوط الأمامية عن تفوق مدفعي روسي بمعدل 20 قذيفة في مقابل كل قذيفة تطلقها القوات الأوكرانية.

أما التقديرات المتعلقة بخسائر الجنود والمعدات، فهي غير دقيقة إلى حد كبير، ولا تعكس حقيقة من هو الرابح ومن الخاسر.

وتتفاوت أعداد الضحايا الروس بصورة كبيرة، ما بين 95 ألف قتيل، وفقاً لشبكة "بي بي سي" في يناير (كانون الثاني) الماضي و200 ألف قتيل، كما قالت الحكومة البريطانية في مايو (أيار) عام 2024، وضعف هذا الرقم في بعض وسائل الإعلام الأوكرانية.

 

في المقابل، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، عن مقتل 43 ألف جندي أوكراني، في حين وثقت الأمم المتحدة مقتل نحو 12 ألف مدني. أما بعض المزاعم الروسية المبالغ فيها، فتحدثت عن سقوط مليون قتيل أوكراني، مما يشير إلى أن التوصل إلى أرقام دقيقة هو أمر شبه مستحيل.

يُشار إلى أنه خلال الحروب، غالباً ما تكون السيطرة الميدانية هي المعيار الأهم للتقدم. ووفق هذا المقياس، لا يمكن اعتبار أي من الطرفين منتصراً أو منهزماً بصورة قاطعة. ففي حين لم تحقق روسيا سوى تقدم طفيف خلال العام الماضي، نجحت أوكرانيا في تغيير طبيعة الحرب جذرياً.

ومعلوم أن أوكرانيا حصلت على دعم عسكري من حلفائها كالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا، وكان كافياً لاستنزاف القوات الروسية من دون أن يمكنها من تحقيق نصر حاسم.

وكانت وسائل الإعلام البريطانية بالغت في تسليط الضوء على إرسال 14 دبابة من طراز "تشالنجر 2" إلى أوكرانيا في ربيع عام 2023، على أنها أسلحة استراتيجية، على رغم أن هذا العدد لا يشكل حتى سرباً كاملاً.

وواجهت أوكرانيا ضغوطاً شديدة داخلية وخارجية، للقيام بهجوم حاسم آخر ضد قوات فلاديمير بوتين في صيف العام نفسه. ورأى جنرالات "حلف شمال الأطلسي" أن ذلك سيربك القوات الروسية، لكنهم أقروا في الوقت نفسه بأن أوكرانيا لا تملك القوة الجوية، أو وسائل النقل الجوي، أو المدفعية الثقيلة، ولا التفوق العددي اللازم الذي يجب أن يكون بنسبة ثلاثة جنود إلى واحد، بحسب متطلبات "الناتو" عادة لشن مثل هذه العملية.

أما سلسلة الهجمات في الشرق والجنوب قرب زابوروجيا التي كانت تهدف إلى التقدم نحو شبه جزيرة القرم، فباءت بالفشل. وسرعان ما بدأت مشاعر الإحباط تتسلل إلى النفوس، فيما استمر القتال الضاري في باخموت.

وبدأ بعض الداعمين لأوكرانيا يطرحون فكرة "القبول بالأمر الواقع" - أي تقسيم البلاد، وترك نحو 20 في المئة منها تحت السيطرة الروسية. وأجمع القادة العسكريون ومحللو الاستخبارات على أن حجم الخسائر البشرية في أوكرانيا بلغ مستوى "لا يحتمل".

ينس ستولتنبرغ الأمين العام لـ"حلف شمال الأطلسي" آنذاك، أكد ضرورة أن تحصل أوكرانيا على المساعدات التي تحتاج إليها، لكنه قال إن "كييف وحدها تقرر نوع التنازلات التي تريد تقديمها... من أجل الوصول إلى نتيجة مقبولة على طاولة المفاوضات".

غير أن زيلينسكي ومساعديه ومعارضيه والبرلمان الأوكراني، شددوا على أن النتيجة الوحيدة المقبولة هي انسحاب روسي كامل. وهكذا صمدت أوكرانيا.

الكلفة المالية الباهظة للحرب والتجنيد الإجباري

في أغسطس (آب) عام 2024، شنت أوكرانيا هجوماً مكلفاً لكنه كان ناجحاً على مدينة كورسك، وهي منطقة روسية تقع على حدودها الشمالية. واستفادت كييف من خلال هذه الخطوة الجريئة التي نفذتها من دون تشاور مسبق مع حلفائها، من اتفاق محدود للغاية سمح لأوكرانيا أخيراً باستخدام صواريخها التي زودتها بها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لضرب أهداف داخل الأراضي الروسية مباشرة. وكانت هذه العملية بمثابة صفعة مذلة لبوتين الذي كان يخصص بالفعل 40 في المئة من الموازنة الفيدرالية الروسية، أي ثمانية في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتمويل الحرب. وعلى رغم هذه الكلف الهائلة، فإن سيطرة الزعيم المقيم في الكرملين منذ مدة طويلة على وسائل الإعلام والسردية المحيطة بالحرب أسهمت في الحفاظ على الدعم الشعبي له.

 

مع ذلك، لا شك في أنه حتى الجهود التي بذلت وسط ساحات القتال من أجل إخفاء عدد القتلى الروس، من خلال إحراق جثث الجنود ودفنهم، ثم الإعلان لاحقاً عن أنهم في عداد "المفقودين"، لا يمكن أن تصمد طويلاً، وستتكشف في نهاية المطاف.

وفي ما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا، فقد تضرر بنسبة 30 في المئة بعد الغزو الروسي الشامل عام 2022. وفي حين أنه تعافى منذ ذلك الحين بنحو ثلاثة في المئة، إلا أن البلاد لا تزال عاجزة عن تلبية التزاماتها المالية، ومن الممكن أن تتخلف عن سداد دفعة قيمتها 600 مليون دولار من الدين العام هذا الشهر.

يُشار إلى أنه في أبريل (نيسان) الماضي، أطلق بوتين حملة تجنيد إجباري جديدة تشمل 160 ألف جندي لتعزيز صفوف قواته. ويعتمد الجيش الروسي على مزيج من المجندين الإجباريين، والجنود المتعاقدين الذين يتقاضون رواتب تصل إلى ألفي دولار شهرياً، وهي أجور غالباً ما تفوق ما هو متاح في الحياة المدنية-إضافة إلى السجناء، وأخيراً جنود من كوريا الشمالية.

كما شارك في القتال مئات المرتزقة الصينيين، إلى جانب مجموعة محدودة من المجندين الأفارقة.

أما أوكرانيا، فتلتزم الصمت وترفض الكشف عن عدد الأشخاص الذين قامت بتجنيدهم إجبارياً، وتبقي الفئة العمرية من 18 إلى 25 سنة خارج نطاق التجنيد الإجباري. ويبلغ متوسط أعمار الجنود الأوكرانيين 43 سنة.

لكن التوترات تصاعدت داخلياً في شأن التجنيد الإلزامي بسبب عمليات خطف المتهربين من الخدمة العسكرية من الشوارع، مما شكل بيئة خصبة لعصابات الجريمة المنظمة لممارسة الابتزاز.

 

وعلى الجانب الآخر، تعاني روسيا نقصاً حاداً في ذخائر المدفعية والأسلحة الخفيفة، لكن كوريا الشمالية تدخلت وزودتها بذخائر سخر منها الجنود الأوكرانيون معتبرين أنها "أسوأ من عديمة الفائدة"، إذ يؤدي استخدامها إلى الكشف عن مواقع المدفعية الروسية، بينما لا يحدث مسارها غير المنتظم أي ضرر فعلي.

وفي وقت سابق من هذا العام، أرسلت بيونغ يانغ نحو 12 ألف جندي إلى منطقة كورسك لدعم القوات الروسية هناك، قبل الزج بهم في المعارك. وأُسر عدد محدود منهم، فيما وثقت لقطات مصورة مقتل أعداد كبيرة منهم في موجات هجمات جماعية.

وعبر جنود أوكرانيون عن شعورهم بالإنهاك من تصاعد أعداد المقاتلين الروس الذين دفع بهم إلى الجبهة، كما تحدثوا عن تحدٍ جديد تمثل في استخدام طائرات مسيّرة موجهة عبر كابلات ألياف بصرية، بدلاً من إشارات الراديو التي يسهل التشويش عليها.

حرب الطائرات المسيّرة

أحد المجالات الرئيسة التي تتفوق فيها أوكرانيا اليوم هو عالم حرب الطائرات المسيّرة، الجديد في أسلوب القتال. فنجحت في فرض هيمنتها على البحر الأسود وأجبرت البحرية الروسية على الانكفاء والتراجع إلى موانئها.

وفي أبريل عام 2022، استخدمت كييف صواريخ "نبتون" Neptune محلية الصنع لإغراق الطراد الروسي الضخم "موسكفا" Moskva. ومنذ ذلك الحين، أصبحت رائدة في استخدام طائرات مسيّرة جوية وبحرية سطحية وتحت مائية، مما يعني أن كييف التي لا تمتلك أسطولاً بحرياً يعتد به، تمكنت من بسط نفوذها في البحر الأسود.

وتصنع أوكرانيا أكثر من 90 في المئة من نحو 4 ملايين طائرة مسيّرة تزعم إنتاجها سنوياً. ونفذت طائراتها بلا طيار بعيدة المدى، هجمات متكررة على العاصمة الروسية موسكو، متجنبة الدفاعات الجوية، لاستهداف منشآت الطاقة وخطوط الإمداد الروسية.

وقال الرائد "كالاس" قائد وحدة الطائرات المسيّرة الأوكرانية لـ"اندبندنت" إن طبيعة العمليات على الخطوط الأمامية تغيرت بالكامل، مقارنة بما كانت عليه عندما كانت روسيا تبعث بموجات كثيفة من الدبابات والجنود إلى الخنادق الأوكرانية". وأضاف: "لقد غيرت الطائرات المسيّرة قواعد اللعبة بالكامل. نحن نتقدم على الروس بفارق ضئيل، لكننا متقدمون. هم الآن يدفعون بمجموعات صغيرة من المشاة إلى الخطوط الأمامية، يُقتل معظمهم، ويتمكن قليل منهم من الاحتماء داخل حفرة، ثم يدفعون بمجموعة أخرى. وبهذه الطريقة يواصلون التقدم".

وفي شهادة أخرى، قال الجنرال كريستوفر كافولي القائد الأعلى لقوات "حلف شمال الأطلسي" في أوروبا، أمام لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الأميركي في أبريل الماضي، إن "جودة القوات الروسية، ولا سيما منها البرية، شهدت تراجعاً مطّرداً طوال فترة الحرب". وتابع: "أما في الجانب الأوكراني، فنرى نقيض ذلك تماماً. هناك جيش انطلق من نقطة شبه معدومة. كنا نساعده قبل الحرب، لكن ليس بالحجم والنطاق اللذين وصل إليهما بعد نشوبها. ومع ذلك، تطور بصورة لافتة للغاية".

وفي مدينة توريتسك التي تدعي روسيا سيطرتها على معظمها، تظهر لقطات مصورة من طائرات مسيّرة، اشتباكات بين مجموعات صغيرة من الجنود من كلا الطرفين، وهم يقاتلون وسط أنقاض مدمرة، معزولين، يحدقون في السماء بترقب وقلق، بحثاً عن طنين طائرة مسيّرة قاتلة.

إلى أين تتجه الأمور بعد ذلك؟

إذا تمكن بوتين من تحقيق النصر في أوكرانيا، فمن المحتمل أن يتكرر المشهد نفسه في ليتوانيا ومولدوفا، وربما حتى بولندا. والولايات المتحدة لم تعُد مستعدة لتحمل عبء الدفاع عن أوروبا بمفردها، وبدأت تتراجع تدريجاً عن التزامها دعم كييف.

ومنذ عام 2022، خصصت واشنطن نحو 114 مليار يورو (نحو 129,573 مليار دولار) لأوكرانيا، فيما بلغت مساهمة الدول الأوروبية، بما فيها المملكة المتحدة، نحو 132 مليار يورو (نحو 150 مليار دولار).

 

الرئيس دونالد ترمب، بدا حتى الآن وكأنه غيّر موقفه بالكامل وأصبح منحازاً إلى روسيا، حتى إنه استثنى موسكو من آخر حزمة من الرسوم الجمركية العالمية.

وطالب بوقف الضربات الأوكرانية لمنشآت الطاقة وفي البحر الأسود، مما يصب عملياً في مصلحة بوتين. وذهب إلى حد القول إن بإمكان الكرملين الاحتفاظ بالأراضي التي استولى عليها في أوكرانيا، وإن على كييف أن تنسى تماماً فكرة الانضمام إلى "الناتو"، مؤكداً أن لا مساعدات أميركية في المستقبل ما لم تنفذ أوكرانيا مطالبه.

لكن وفق تحليل صادر عن "معهد كيل" Kiel Institute الألماني (وهو مركز أبحاث يُعنى بدراسة الاقتصاد العالمي)، فإن بمقدور أوروبا أن تعوض كامل الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا "بجهد إضافي محدود نسبياً".

وبيّنت الدراسة أن "الحكومات الأوروبية تساهم الآن بنحو 44 مليار يورو سنوياً في دعم الدفاع الأوكراني، أي ما يعادل قرابة 0.1 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي المشترك، وهو التزام مالي يعد متواضعاً نسبياً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع ذلك، لا تزال طموحات بوتين في أوروبا قائمة. ولهذا السبب، فإن دعم أوكرانيا بات أولوية قصوى بالنسبة إلى أوروبا اليوم. ولخصت الدكتورة ريتشل إيليهوس رئيسة "المعهد الملكي للخدمات المتحدة" Royal United Services Institute، والمسؤولة السابقة في "حلف شمال الأطلسي"، ملامح تلك الأجندة.

وقالت لتلفزيون "اندبندنت": "ربما يكتفي بوتين بالاستيلاء على أجزاء من أوكرانيا - الموانئ والطرق السريعة والبنية التحتية الحيوية - وهي جميعها عناصر بالغة الأهمية لبقاء أوكرانيا دولة مستقلة". وأضافت: "ربما يكون ذلك كافياً لتحقيق أهدافه المتمثلة في منع أوكرانيا من الانضمام إلى ’الناتو‘ أو الاتحاد الأوروبي بصورة نهائية".

وهذا السيناريو يقترب على نحو مقلق من الصورة النهائية التي تسعى الولايات المتحدة (وروسيا) إلى تحقيقها من خلال مقترحات السلام التي قُدمت قبيل بدء المحادثات.

وأشارت إيليهوس إلى أن "لبوتين هدفاً ثانوياً غالباً ما يغفل عنه الناس، وهو تقويض مكانة ’حلف شمال الأطلسي‘ والاتحاد الأوروبي، عبر اختبار مدى صلابة المادة الخامسة من ميثاق الحلف التي تنص على أن الهجوم على أية دولة عضو يُعد هجوماً على جميع الأعضاء". وأضافت: "إذاً لديه هدف أساس يتمثل في منع أوكرانيا من الاندماج الكامل في المنظومة الغربية واستمرارها كدولة مستقلة. لكن هناك أيضاً هدفاً ثانوياً ربما أكثر خطورة، يتمثل في تقويض البنى الغربية من الداخل".

وكان الرئيس الروسي أعلن صراحة عن سعيه إلى "تقويض الغرب" مستخدماً الهجمات السيبرانية وحروب المعلومات، لزرع الشك وزعزعة الثقة بعصر "ما بعد الحقيقة". أما ترمب، فأسهم في ذلك من خلال تقويضه لتحالفات "الناتو"، وتهديداته بضم كندا وغرينلاند، وتأجيجه للفوضى الاقتصادية، وهذه عوامل تصب جميعها في مصلحة الكرملين.

ويبدو أن بوتين يترصد المرحلة المقبلة - وسينقض عليها عندما تنهار التوازنات وتخرج الأمور عن السيطرة.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء