ملخص
استطاعت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية خلال مدة حبرية فرنسيس، أن تذكر العالم بمحور اهتماماتها، الفقراء والمظلومين، وأنه يجب أن يكون حضورها في العالم فاعلاً وناجزاً تماماً كما هي الحال مع أية قضية من قضايا الحرب الثقافية القديمة.
خلال الأيام التالية لجنازة البابا فرنسيس، التي شارك فيها الرئيس الأميركي، سألت واحدة من الإعلاميات دونالد ترمب عمن يراه مناسباً لأن يكون البابا القادم، فأجاب بصورة تلقائية أنه يود أن يكون البابا المقبل، قبل أن يشارك آراءه حول من ينبغي أن يتولى هذا الدور.
هل كان ترمب يمزح أم أنه درج على أن يكون مزاحه مدخلاً لأمر أهم، وهو الأسلوب عينه الذي اتخذه مع رئيس وزراء كندا السابق جاستن ترودو، حين تحدث عن انضمام كندا إلى بلاده واعتبارها ولاية أميركية، ثم ما لبث يحاول أن يحول الحلم إلى حقيقة.
المؤكد من دون أدنى شك، أن ترمب الرجل المتزوج ثلاث مرات وغير الكاثوليكي، بل والذي يعد نفسه غير منتمٍ إلى طائفة مسيحية بعينها، لا يمكنه ولا في الأحلام أن يضحى البابا القادم بحال من الأحوال، غير أن التصريح في كل الأحوال يعكس رغبة خفية في نفسه، ربما تعزز فكرة "أميركا أولاً"، وتثبت من مقدرات الإمبراطورية الأميركية مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
لم يقدر لترمب أن يداري أو يواري رغبات قلبه، ذلك أنه حين سُئل عمن يجب أن يحل محل فرنسيس قال ترمب "ليس لدي أي تفضيل"، لكنه أضاف "يجب أن أقول، لدينا كاردينال من مكان يسمى نيويورك، لذلك سنرى ما سيحدث".
كان مقصد ترمب الأكيد هو الكاردينال تيموثي دولان، الرجل الذي قاد صلاة تنصيب ترمب رئيساً خلال يناير (كانون الثاني) الماضي. ولم يكن دولان يوماً من الأسماء المرشحة للبابوية، لكن لا بأس، لماذا لا يحاول ترمب دعم مرشح أميركي للبابوية، ليضمن بذلك الدنيا والدين معاً.
ولعله من قبيل الأمور المثيرة أن ينضم السيناتور القوي والبارز ليندسي غراهام بقوة لمساعي ترمب، إذ قال عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي إنه "متحمس لسماع ذلك". وأضاف "سيكون هذا مرشحاً غير متوقع، لكنني أطلب من المجمع البابوي والمؤمنين الكاثوليك أن يبقوا منفتحين على هذا الاحتمال، أي على أن يكون الحبر الروماني الأعظم القادم أميركياً، مما لم يحدث عبر تاريخ البابوية الطويل الممتد على مدى ألفي عام و266 بابا، قبل اختيار البابا الـ267".
هنا تبدو الأسئلة كثيرة ومتدافعة، والبداية من عند "هل يمكن أن يمارس ترمب ضغوطاً بعينها على الكونكلاف (مجمع الكرادلة) الجديد لاختيار البابا بالفعل، أم أن الأمر من قبيل الصيحات الترمبية التقليدية؟ ثم الأهم هل هناك ما يمنع من اختيار الكاريدنال دولان أو أي كاردينال آخر من الولايات المتحدة؟".
عن الكرادلة الأميركيين التسع
مع انطلاقة أعمال الكونكلاف إلى المجمع الخاص باختيار البابا، تجد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لديها قرابة 252 كاردينالاً من أنحاء الكرة الأرضية كافة، بينهم 135 كاردينالاً فقط تحت سن الـ80، يمكن أن يختار البابا الجديد من بينهم.
وعلى رغم أن الكنيسة الكاثوليكية الأميركية من أكبر وأغنى الكنائس في العالم، فإنه لم يسبق أن تولى أميركي هذا المنصب الروحي الأكبر في العالم.
والأبعد من ذلك، يمكن القول إنه كثيراً ما رُفضت فكرة البابا الأميركي، نظراً إلى النفوذ الجيوسياسي الذي تتمتع به الولايات المتحدة بالفعل في أنحاء العالم كافة.
أما عن الحقائق الرقمية، فيوجد هناك نحو تسعة كرادلة أميركيين من المتوقع أن يشاركوا في أعمال الكونكلاف الذي ينطلق صباح الأربعاء السابع من مايو (أيار) الجاري، وهم روبرت بريفوست وبليز جيه كوبيتش وتيموثي دولان وروبرت دبليو ماكيلوري، وجوزيف توبين ويلتون دانيال جريجوري ودانيال ديناردو، وشون باتريك أومالي وريموند بيرك".
ووفقاً لما يسمى دليل المراهنات عبر الإنترنت، لا يعد أي من الكرادلة الأميركيين مرشحاً قوياً. ووفقاً لـ"جون ألين الابن"، المتخصص في شؤون الفاتيكان، ومؤلف كتاب "كل رجال البابا: القصة الخفية لتفكير الفاتكيان حقاً"، في تصريحات لصحيفة "نيويورك تايمز"، فإن احتمال انتخاب بابا أميركي ضئيل جداً.
وعلى رغم أن كل الاحتمالات من الناحية النظرية واردة، لكن عملياً، قد يكون اختيار بابا أميركي أمراً صعب الحدوث. وفي هذا الصدد يقول البروفيسور بيل كافانو، أستاذ الدراسات الكاثوليكية في جامعة دي بول لمجلة "بيبول"، "أعتقد أنه لا توجد فرصة لبابا أميركي لمجرد أن الولايات المتحدة قوية بالفعل في العالم على الصعيد الجيوسياسي". غير أن المحللين الأميركيين في شؤون الفاتيكان يختلفون حول شخصية الكاردينال الأميركي، الذي يصلح لهذا المنصب.
كافانو، على سبيل المثال، يعتقد أن رئيس أساقفة نيوراك الكاردينال جوزيف توبين يتمتع ببعض نقاط القوة، وأنه رجل ودود على غرار البابا فرنسيس، قبل أن يضيف سريعاً "لكنني لا أعتقد أن هذا احتمال وارد".
في هذه الأثناء تضيف أنثيا بتلر أستاذة الدراسات الدينية في جامعة بنسلفانيا أن بابا أميركياً محتملاً قد يكون الكاردينال "بليز كوينتش" رئيس أساقفة شيكاغو، الذي وصف التهديد بالترحيل الجماعي في الولايات المتحدة بأنه "مقلق للغاية".
وترى بتلر أن الكاردينال بليز كان في واقع الأمر صريحاً للغاية في شأن الهجرة، مشيراً إلى أنه بالنسبة إلى بعض الكاثوليك لن ينظر إليه على أنه "مثالي لاهوتياً"، ولكن من ناحية أخرى "لم يكن فرنسيس كذلك أيضاً"، الذي اتخذ موقفاً مماثلاً حول هذا الموضوع.
على أن علامة الاستفهام، "لماذا لم يتحدث ترمب إلا عن كاردينال نيويورك على رغم وجود تسعة كرادلة أميركيين؟".
دولان كاردينال يبارك إدارة ترمب
"نحن المواطنين المباركين لهذه الأمة الواحدة تحت حكم الله، متواضعون بسبب ادعائنا بأننا نثق في الله، نجتمع في يوم التنصيب هذا للصلاة، من أجل رئيسنا دونالد جيه ترمب وعائلته ومستشاريه وحكومته وتطلعاته ونائبه".
بهذه الكلمات كان الكاردينال تيموثي دولان كاردينال نيويورك يفتتح حفل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ولايته الثانية.
عين دولان رئيساً لأساقفة نيويورك عام 2009، وهو من أبرز الشخصيات في الكنيسة الكاثوليكية الأميركية، معروف بجاذبيته وخبرته الإعلامية، إلا أن إحدى المشكلات الرئيسة التي تواجهه، وفقاً لكثير من المراقبين، هي أنه "أميركي أكثر من اللازم".
بحسب "جون ألين الابن" في تصريحاته لصحيفة "ذا بوست" ينظر إليه على أنه شخص كاريزماتي فصيح اللسان، وقادر من دون شك على إثبات جدارته على الساحة العالمية، كونه الراعي الرئيس لعاصمة الإعلام الكونية". ومع ذلك يظن ألين أن تقييم دولان يقود إلى القطع بأنه مرشح ضعيف وليس مفضلاً".
خلال الـ29 من من أبريل (نيسان) الماضي، وفيما الكرادلة يستعدون لانتخاب البابا القادم، أطلق دولان عدة تصريحات ينظر إليها بحكمة، وتحتاج إلى كثير من العمق لتحليل مدلولاتها.
من قلب تجمع الكرادلة في الفاتيكان، قدم دولان نظرة من الداخل، أشار فيها إلى أنه يجب على البابا القادم أن يكون مصدراً للمصالحة، كما أن اختيار البابا لا يتقصر على القيام بحملات انتخابية للمنصب، بل يجب أن يتركز الأمر على كثير من الصلاة والتأمل.
في المرة السابقة عام 2013، عندما أقمنا صلاة الافتتاح، ولأن الصلاة بالغة الأهمية، استمعنا إلى تأمل ألقاه واعظ فرنسيسكاني رائع، هكذا تحدث دولاني مضيفاً، لقد قال لنا "أيها السادة، أنتم جميعاً خائفون لأن أمامكم مهمة صعبة لانتخاب البابا القادم... دعوني أطمئنكم، الأمر سهل، لقد اختار الروح القدس البابا القادم بالفعل... مهمتكم هي معرفة من هو".
تذكر دولان كلمات الواعظ الحكيمة التي تضمنت فهماً بأنه بما أن "النعمة –قوة الله، وقوة الروح القدس وإلهامه– مبنية على الطبيعة، فهناك عنصر بشري في عملية الاختيار أيضاً، وعليه يجب على مسؤولي الكنيسة أن يكونوا منفتحين على النعم التي يمنحها لهم الروح القدس".
سيُتاح لكل كاردينال فرصة للتحدث، كما كشف دولان متسائلاً "هل سيتحدثون عمن هو مستحق لهذا المنصب، أي البابا القادم؟". لا لن يقولوا ذلك، سيتحدثون عن أصولهم، وما يرونه نوراً وبعض الظلمة في الكنيسة، وما يرونه نعماً وما يرونه تحديات.
كلمات دولان تحمل كثيراً جداً من التواضع المحمود، فهو يقطع في نهاية كلامه بأنه "لا ينبغي أن ننظر إلى بعضنا بعضاً، باعتبار أننا ننتمي إلى معسكرات، بل ننظر إلى بعضنا بعضاً كمؤمنين وتلاميذ، وأخوة".
وعلى رغم مثالية دولان، فإن أستاذ اللاهوت الأخلاقي في جامعة فوردهام الأب توماس ماسارو يتحدث إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، قائلاً "لا أعتقد أن هيئة عالمية من الرجال تمثل جميع البلدان التي يمثلونها، وبخاصة بلدان العالم الثالث وكرادلة الجنوب العالمي، تريد أن تملك الولايات المتحدة المهيمنة، القوة الاقتصادية والعسكرية ثم أيضاً القوة الدينية الكنسية".
هنا يتفق معه أيضاً أستاذ الدراسات الدينية بجامعة مانهاتن كيفن أهيرن ويرى "أنه في ظل الديناميكيات العالمية، يبدو من غير المرجح للغاية أن تمنح الولايات المتحدة على رغم قوتها الثقافية هذا الدور".
كرادلة أميركا والحفر بصورة أعمق
على أنه وإن كان ترمب أشار إلى الكاردينال دولان بصفة خاصة، إلا أن هناك في الواقع ثلاثة كرادلة آخرين، يمكن الاختيار من بينهم.
البداية من الكاردينال ريموند بيرك من مواليد ولاية ويسكونسن. وشغل بيرك البالغ من العمر 76 سنة منصب أسقف أبرشية لاكروس بين عامي 1995 و2004. وخلال عام 2010 رقي إلى رتبة كاردينال، وانتقل إلى روما حيث شغل مناصب بارزة داخل الفاتيكان.
هناك كذلك الكاردينال روبرت بريفوست المولود في شيكاغو ويبلغ من العمر 69 سنة، ويتمتع بخبرة واسعة في بيرو، كما يعمل لدى الفاتيكان مسؤولاً عن مراجعة ترشيحات الأساقفة حول العالم.
الثالث هو الكاردينال جوزيف توبين رئيس أبرشية نوارك بولاية نيوجيرسي البالغ من العمر 72 سنة، وعمل في روما كمسؤول كبير في الفاتيكان ويتمتع بخبرة دولية واسعة.
والثابت أنه يحق لأي رجل دين كاثوليكي معمد أن يصبح بابا، على رغم أنه لم يُختر سوى الكرادلة منذ عام 1378. ويتعين على الفائز أن يحصل على ثلثي الأصوات في الأقل من الكرادلة الذين تقل أعمارهم عن 80 سنة، والمؤهلين للمشاركة في عملية الاختيار.
وفي كل الأحوال يتعزز نفوذ الكرادلة الأميركيين بفضل أدوارهم القيادية في أبرشيات رئيسة، مثل شيكاغو ونيويورك وواشنطن، تلك الأدوار التي تخدم أعداداً كبيرة من الكاثوليك الأميركيين، وتمنحهم حضوراً وسلطة داخل الكنيسة العالمية.
عطفاً على ذلك، فقد تلقى خبرتهم في معالجة القضايا المعاصرة كالهجرة والعدالة الاجتماعية والعلمانية داخل الولايات المتحدة، صدى لدى الكرادلة الباحثين عن بابا قادر على مواجهة تحديات الكنيسة المعاصرة.
في هذا السياق وفي ظل نحو 60 مليون كاثوليكي، وهو عدد يتجاوز سكان جمهورية إيطاليا، تعد الولايات المتحدة قادرة على التأثير في مسارات ومساقات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، التي تعد اليوم ملياراً و405 ملايين شخص منتشرين في قارات الأرض الست، ولهذا قد يميل كرادلة بقية العالم إلى فكرة وجود بابا أميركي هذه المرة، بابا يجسد المنظورين الأميركي والعالمي مرة واحدة.
على أن التساؤل المثير أكثر بين المرشحين من الكرادلة الأميركيين، "هل هناك مرشح يمكن أن نطلق عليه فرنسيس الأميركي، كما نطلق على المرشح الفيليبيني الكاردينال أنطونيو تاغلي، المرشح الفيليبيني؟".
شون أومالي أو فرنسيس الأميركي
نعم يوجد هذا الشخص بالفعل، وهو الكاردينال الأميركي شون أومالي المولود خلال الـ26 من يونيو (حزيران) عام 1944، أي إنه إذا انتخب سيكون عمره 79 سنة، أي إنه أكبر من البابا فرنسيس غداة انتخابه بأربعة أعوام، فقد كان فرنسيس وقتها يبلغ من العمر 75 سنة.
أومالي إيرلندي المولد، شغل منصب رئيس أساقفة بوسطن سابقاً، والذي ظل بطلاً للكاثوليك الهسبان، وبات حتى وفاة البابا فرنسيس الأقرب إلى قلبه وعقله، لا سيما أنه يشترك معه في التوجهات الرهبانية، إذ نذور الفقر والعفة والطاعة.
أومالي ينتمي إلى الرهبنة الكبوشية، أحد أفرع الرهبنة الفرنسيسكانية، ومهمته الأساس أو في الواقع مهمته الوحيدة الخدمة المتواضعة للفقراء.
كلف فرنسيس أومالي بعدد من الأدوار الرئيسة في الفاتيكان، مما رفع من رؤية الكاردينال الأميركي ومكانته بصورة أكبر. وعلى رغم عدم وجود خط خلافة رسمي، يعد الأسقف الإيرلندي الجذور "الأول بين متساوين"، فيما يتعلق بالمرشحين الأميركيين المولد لمنصب البابا.
هناك بعض الأسباب القوية حقاً لتسمية أومالي، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة على أنه المفضل عاطفياً بين الكاثوليك الليبراليين واليساريين، وبخاصة ذوي الأصول الإسبانية، نظراً إلى تاريخه الطويل في الدفاع القوي نيابة عن المهاجرين غير الشرعيين، وكذلك القاصرين الذين تعرضوا للإساءات.
كما أن تاريخ أومالي كمدافع عن حقوق المهاجرين، منذ أعوامه ككاهن شاب في إبرشية واشنطن العاصمة، هو ما يميزه حقاً عن جميع المرشحين الآخرين تقريباً. وأومالي الذي درس الإسبانية والبرتغالية وأتقنهما، دافع عن محنة السلفادوريين غير المسجلين أواخر الثمانينيات، الذين كانوا يفرون من حرب مكافحة الإرهاب التي شنتها الولايات المتحدة داخل وطنهم.
لم يكتف أومالي بالوعظ، بل مارس العمل الجاد. وأصبح المركز الكاثوليكي الإسباني، الذي قاد تأسيسه، نقطة استقبال مهمة للاجئين السلفادوريين ومصدراً لإحالات التوظيف والخدمات الصحية الناطقة بالإسبانية، مما سمح للاجئين وعائلاتهم بالاستقرار.
على رغم ولادته في قلب أوهايو الأبيض فإن انغماس أومالي العميق في الحياة اليومية ومشكلات الفقراء والطبقة العاملة من سكان أميركا الوسطى المنفيين جعله مع مرور الوقت لا يميز ثقافياً عن رعيته.
وبصفته راهباً فرانسيسكانياً، كان يرتدي ثوباً دينياً بسيطاً ويعيش حياة متواضعة، متخلياً عن رموز الامتياز الكهنوتي المعتاد، مما زاد من محبته لأبناء رعيته.
مثل أوسكار روميرو رئيس أساقفة السلفادور الشهيد، أصبح أومالي أكثر من مجرد كاهن محترم ومحبوب. وعده كثر صوتاً للشعب أصيلاً وصادقاً، وقد ألهم احتراماً حقيقياً بين من خدمهم ووجههم، وبين الآلاف الذين عاش بينهم راعياً أميناً لا يمتلك من حطام الدنيا شيئاً.
وبالنظر إلى ماضيه هذا، لم يكن من الصعب فهم تعلق البابا فرنسيس به خصوصاً، لا سيما بأسلوبه المتواضع البسيط، وتفانيه الراسخ في خدمة الفقراء.
ويعن لنا التساؤل "هل يمكن أن ينظر الكرادلة المجتمعون في الكونكلاف هذه المرة إلى الكاردينال أومالي بوصفه خليفة فرنسيس ونسخته الأميركية، القادرة على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، على رغم اقترابه من 80 سنة؟".
المؤكد أن هناك من اختير من قبل للبابوية في هذا العمر المتقدم، وبالنظر إلى الظروف الاستثنائية التي تمر بها حاضرة الفاتيكان خلال هذا التوقيت، والتضاد في التوجهات بين التقلديين المحافظين والليبراليين التقدميين، فقد يُفاجأ العالم باختيار الكاردينال أومالي لمنصب البابوية والتجاوز عن إشكالية العمر المتقدم.
الأميركيون والنظرة إلى البابوية
على أنه وفي خضم المنافسة حامية الوطيس لاختيار بابا روماني كاثوليكي، يبقى السؤال المهم "هل السياسات الأميركية المختلفة، لا سيما خلال ولايتي جو بايدن وترمب الثانية، قد تسببت في تسميم طريقة التفكير في اختيار البابا بداية، وفي ملامح ومعالم البابوية بصورة عامة لاحقاً".
المقطوع به أن محاولة تصنيف فرنسيس بدقة ضمن الطيف السياسي الأميركي هي مسعى عبثي. ولأن فرنسيس وخلفاءه المحتملين يتحدون قدرات الأميركيين، أقله في الجانب العلماني منها، على تصنيف إرثهم ضمن الفئات الدنيوية والحزبية والقبلية، فمن غير المجدي استخدام تسميات مثل "ليبرالي" و"محافظ". فهذه التسميات تختلف تماماً في معناها داخل الكنيسة وخارجها.
بدلاً من ذلك ربما يكون من المفيد إدراك مدى تغيير فرنسيس لهجة الكنيسة وتوجهاتها نحو الانفتاح ورعاية الأقل حظاً، وكيف هيأ الكنيسة لمواصلة هذا النهج بعد رحيله. لم يكن ليبرالياً ولا محافظاً بل كان جسراً للمستقبل جعل الكنيسة أكثر أهمية، من دون أن يخون تعاليمها الأساس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن بابوية فرنسيس مثال رئيس على مدى عدم جدوى محاولة التفكير في البابوات والكنيسة على طول الطيف السياسي اليميني واليساري، الذي اعتادت الديمقراطيات الغربية أن تفكر فيه.
عندما انتخب البابا فرنسيس عام 2013 كان يشكل لغزاً، فقد حذر التقدميون بعضهم بعضاً من الإفراط في التفاؤل، بينما كان المحافظون حذرين في شأن مدى انفتاحه على تغيير الحضور العام للكنيسة وتعاليمها الاجتماعية.
إن غالب الكرادلة الناخبين اليوم، بمن فيهم الأميركيون، لا ينسجمون على أي طيف أيديولوجي متسق، ولديهم معتقدات مختلفة إلى حد كبير حول دور الكنيسة وكيف ينبغي أن تعمل الأعمال الداخلية للكنيسة، وما ينبغي أن تكون عليه المواقف الاجتماعية للكنيسة، وهذا هو السبب جزئياً في أنه من الخطورة قراءة وتفسير التوقعات حول الأجنحة أو الفصائل الأيديولوجية بين الكرادلة الناخبين، كما لو كانوا برلماناً أو مجلس الكونغرس.
هل من خلاصة؟
بالنظر إلى من عينهم البابا فرنسيس قبل رحيله ككرادلة، ويبلغ عددهم 80 كاردينالاً من بقاع وأصقاع جغرافية مختلفة حول العالم، فمن الطبيعي أن تُثار تكهنات بأن خليفته سيكون غير أوروبي وأقل تقليدية. ولكن كما أثبت فرنسيس نفسه خلال حبريته، فإن الكنيسة تتمتع بميزة الوقت والنظرة بعيدة المدى للقضايا الاجتماعية.
استطاعت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية خلال مدة حبرية فرنسيس، أن تذكر العالم بمحور اهتماماتها، الفقراء والمظلومين، وأنه يجب أن يكون حضورها في العالم فاعلاً وناجزاً تماماً كما هي الحال مع أية قضية من قضايا الحرب الثقافية القديمة.
في هذا السياق، تضحى محاولة تطبيق التسميات والمعتقدات السياسية التي تُستخدم في الداخل الأميركي بنوع خاص على البابوات والكنيسة أمر لا طائل منه.
نعم، يمكن عند لحظة بعينها أن يُختار أي كاردينال أميركي، لكن من خلال منظور الخدمة والرعاية والعطف والحنو واستنقاذ الفقراء والمهملين والدفاع عن المضطهدين والمظلومين، وليس من خلال منظور السيادة والهيمنة عبر الجناح الروحي والديني الذي تمثله البابوية.
هنا، يفوت على الرئيس ترمب الحالم بالبابوية، لنفسه مزحاً، ولكاردينال أميركي آخر بصورة جدية، أن يتذكر أن خاتم البابا هو خاتم بطرس الصياد وليس خاتم الإمبراطور قسطنطين، بمعنى أنه تكليف بالخدمة والرعاية للنعاج والخراف على حد سواء، للأبرار والأشرار معاً، وليس الطريق لأميركا الإمبراطورية المنفلتة.