Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من أمام قوس"العدل الدولية"... ماذا جنت الدول الأفريقية؟ 

صدقيتها كجهة موثوق بها تعتمد على استقلاليتها وبعدها من مؤثرات القوى الكبرى ذات النفوذ

ظلت الدول الأفريقية جهات ماثلة أمام محكمة العدل الدولية بحكم ظروف سياسية سابقة ومستجدات لا تزال تعانيها (رويترز)

ملخص

صحوة الضمير الإنساني التي أدت إلى إنشاء "محكمة العدل الدولية" أتت بعد مقتل ما يزيد على 22 مليون عسكري و55 مليون مدني كضحايا المجازر والقصف الجوي والمجاعات، ولعوامل تاريخية وحضارية تُعتبر الدول الأفريقية الأكثر مثولاً أمام محكمة العدل الدولية.

بحكم ظروف تاريخية وحضارية تعتبر الدول الأفريقية ضمن الجهات الأكثر مثولاً أمام محكمة العدل الدولية، ولا سيما بعد إفراز الاستعمار مشكلات وتعقيدات حدودية إبان احتلاله معظم دول القارة، كما لا تزال بلدان القارة السمراء مستهدفة عبر مطامع وأساليب تخلق مزيداً من الاشكالات تجاه استقرارها من جهات استعمارية أصيلة أو عميلة، فهل تمثل محكمة العدل الدولية حقيقة عدلية في عالم اليوم؟ وماذا قدمت للدول الأفريقية في حل تعقيدات مشكلاتها؟ وإلى أين يقود احتكام أفريقيا لها كجهة عدلية دولية؟ وكيف تنظر الدول الأفريقية إليها ضمن رصيدها العملي من العدالة؟

وتظل العدالة الدولية هدفاً ضمن مشكلات وتعقيدات العالم وتعتبر "محكمة العدل الدولية" (International Court of Justice) التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945 ضمن منظمة الأمم المتحدة، بمثابة الجهاز القضائي الرئيس للمنظمة الدولية في تقديم آراء استشارية في مسائل قانونية تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، كما تعالج المحكمة مشكلات العالم عبر وظيفتها الرئيسة، ألا وهي الفصل طبقاً لأحكام القانون الدولي في النزاعات التي تنشأ بين الدول، إذ تنظر محكمة العدل الدولية في النزاعات القانونية بين الدول وليس الأفراد، وهي تتعامل فقط مع الدول التي تقبل اختصاصها، ويقع مقرها في قصر السلام في مدينة لاهاي بهولندا، وهي واحدة من الأجهزة الرئيسة الستة للأمم المتحدة، والجهة الوحيدة من الأجهزة الستة للأمم المتحدة التي لا يوجد مقرها في نيويورك.

ونضجت ظروف إنشائها بعدما خلفته الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) من صحو ضمير إنساني إثر مقتل ما يزيد على 22 مليون عسكري و55 مليون مدني من ضحايا المجازر والقصف الجوي، إضافة إلى المجاعات المترتبة عن الحرب.

واعتمد إنشاؤها ضمن آليات الأمم المتحدة على توافق الدول المنتصرة بهدف بناء نظام دولي جديد يمنع الحروب والنزاعات، وجاءت محكمة العدل الدولية كبديل لمحكمة العدل الدولية الدائمة (PERMANENT COURT OF INTERNATIONAL JUSTICE) التي أنشئت بعد الحرب الأولى عام 1920 ضمن "عصبة الأمم" والتي لم تحل دون اشتعال الحرب العالمية الثانية.

قضايا أفريقية

ظلت الدول الأفريقية جهات ماثلة أمام محكمة العدل الدولية (ICJ) بحكم ظروف سياسية سابقة ومستجدات لا تزال تعانيها، ترتبت في مشكلات في ما بينها، إضافة إلى  انتهاكات حقوق الإنسان، ولجأت الدول الأفريقية إلى محكمة العدل الدولية لحل مشكلاتها في النزاعات مع أطراف إقليمية ودولية متعلقة بالنزاعات الحدودية البرية أو البحرية، كما حدث في قضية نيجيريا والكاميرون بين عامي 1994 و2002 في النزاع الحدودي على شبه جزيرة باكاسي، ونزاع كينيا والصومال في قضية ترسيم الحدود البحرية بينهما، وقضية انتهاك الموارد بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا، وهناك قضايا العدوان وانتهاك حقوق الانسان والتعدي على السيادة ممثلة في الشكوى المقدمة من السودان حديثاً ضد الإمارات بدعوى "التعدي على سيادة الدولة"، جراء دعمها ميليشيات "الدعم السريع".
وتشير الدلائل إلى أن قارات أميركا وآسيا ظلت جهات نشطة في التعامل مع المحكمة، وكانت الولايات المتحدة طرفاً في قضايا عدة خلال مراحل معينة، ولا سيما قضية نيكاراغوا ضدها، وهناك دول مثل فرنسا والمملكة المتحدة والهند وأوروغواي ونيكاراغوا وبلجيكا وإيران وقطر كانت أطرافاً في قضايا بارزة خلال العقود الأخيرة، وشكلت القضايا المقدمة أو المتصلة بالدول الأفريقية نسبة كبيرة من قضايا المحكمة خلال العقود الأخيرة، إذ تعزو جهات قانونية ذلك لأسباب عدة منها أن كثيراً من الدول الأفريقية تقبل اختصاص المحكمة، إضافة إلى وجود نزاعات حدودية طويلة الأمد بين الدول الأفريقية، فضلاً عن قضايا متعلقة باستخدام الموارد المشتركة مثل الأنهار أو الموارد البحرية والبرية، يضاف إلى ذلك ثقة دول أفريقية في المحكمة كجهة محايدة لحل النزاعات.
وكانت أول قضية أفريقية أمام محكمة العدل الدولية وفق المصادر هي قضية الكاميرون الشمالية (1959 - 1960)، وكان طرفا النزاع فيها بريطانيا بوصفها السلطة المنتدبة ضد الأمم المتحدة، وتعلقت القضية بالوضع القانوني للأقاليم الخاضعة للوصاية البريطانية، بما في ذلك الكاميرون الشمالية، وتحديد ما إذا كان يجب دمجها مع نيجيريا أو الكاميرون.

وجاء حكم المحكمة على شكل رأي استشاري مثّل جزءاً من عملية إنهاء الاستعمار الحديث، وضمن حيثية الاعتماد الأفريقي والثقة تأتي شكوى دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في الدعوى التي قُدمت في الـ 29 من ديسمبر (كانون الأول) 2023، كأهم القضايا الحديثة التي كان أحد أطرافها أفريقياً واشتكى ضد الفظائع التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وهي المرة الأولى التي يجري فيها رفع قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة.


قرارات المحكمة

ويقول المتخصص في الشؤون الأفريقية يوسف ريحان إنه "بعد انتهاء الحربين العالميتين الأولى والثانية اهتدى المجتمع الدولي إلى وضع آليات للاحتكام إليها بعيداً من الحرب التي جربها العالم، وخلفت كوارث فادحة في الأرواح والتدمير للمنشآت والمباني، فنشأت أولاً عصبة الأمم بعد الحرب الأولى، ثم في الثانية تشكلت الأمم المتحدة والتي كانت محكمة العدل الدولية في لاهاي إحدى مؤسساتها الست". ويضيف أن "اختصاص محكمة العدل الدولية متعلق بتسوية النزاعات القانونية التي تعرضها عليها الدول وإصدار الفتاوى في شأن المسائل القانونية التي تحيلها إليها هيئات الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة المأذون لها"، ومن ضمن اختصاصها النزاعات على الحدود التي تحتل مرتبة متقدمة فيها، إذ هناك أكثر من 150 نزاعاً حدودياً بين الدول، منها 32 نزاعاً حدودياً في القارة الأفريقية وحدها".
ويوضح ريحان أن "المستعمر الذي تشكلت على يديه حدود الدول وفق توزيع المستعمرات في مؤتمر برلين، 1884 – 1885، وما تلا ذلك من بسط السيطرة والنفوذ، وانتهاء بالشكل الجغرافي الجديد للمستعمرات في أفريقيا، كان بمثابة الخطوة التي سهلت كثيراً على الدول بعد الاستقلال في تقنين حدودها الرسمية مما أسهم في الحد من كثير من النزاعات القبلية على الحدود، والتي كان من الصعوبة أن تنتهي دون فرض رؤية واضحة ومتماسكة لها صفة الديمومة والقدرة على البقاء طويلاً".

ويتابع، "أن مما يحمد للمستعمر في هذه النقطة على وجه التحديد أنه يعد المرجع الأساس في حل الخلافات من خلال الوثائق والخرائط المؤرشفة، والتي كثيراً ما يلجأ إليها كمرجع قانوني عند وقوع خلاف، مما يجعل قرار 'منظمة الوحدة الأفريقية' في أول اجتماع لها بالعاصمة السنغالية داكار في أغسطس (آب) 1963 باحترام الحدود الأفريقية القائمة ليعتبر آلية مقبولة إلى حد كبير جداً في حسم كثير من النزاعات الحدودية المعقدة بالقارة".
وعن الخلافات الحدودية بين الدول الأفريقية وجهود المحكمة، يرى ريحان أنه "على رغم أن الخلافات الحدودية بلغت رقماً يتجاوز الـ 32 خلافاً حدودياً، وعلى رغم وجود المحكمة والآليات التي يمكن أن تحل الخلافات الناشئة إلا أن المحكمة لم تبت إلا في قضايا أفريقية محدودة، ومنها على سبيل المثال إسهامها في ترسيم الحدود ووضع النقاط على الأرض في الخلاف الأثيوبي - الإريتري حول 'مثلث بادمي' إذ تشكلت في ديسمبر (كانون الأول) عام 2001 اللجنة الحدودية الإريترية - الإثيوبية المستقلة برئاسة السير أليو لوترباخت في مقر المحكمة في لاهاي وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم (1312)".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعن توجه الدول الأفريقية إلى الاحتكام إليها من عدمه، يشير ريحان "لا أظن أن العيب يكمن في 'محكمة العدل الدولية' ولا في قوانينها بل في الدول التي ترفض الاحتكام إليها في حل الخلافات الناشئة، بخاصة إذا تعذر ذلك بين طرفين واحتاجا إلى جهة أخرى للقيام بذلك، ومعلوم أن المنظمة بحسب لائحتها التي تحمل الرقم (36) لا تفرض حلولها على الأطراف المتنازعة، وإنما تلزم تلك الأطراف التي تقبل إحالة القضايا محل الخلاف إليها بالالتزام بالنتائج، سواء أكانت في مصلحة أي طرف أم ضده".
ويسترسل أنه "إضافة إلى ذلك فإن هناك مشكلة أخرى تتعلق بالأطراف المتنازعة في تنفيذ قرارات 'محكمة العدل الدولية' المتعلق بترسيم الحدود على الأرض وهنا تكمن المشكلة، إذ إن أفريقيا تجني على نفسها بعدم الفصل في قضايا الحدود بينها والتي تقع ضمن اختصاص منظمة العدل الدولية، لأن الخلافات الحدودية تحول دون تحقيق التعاون بين الدول والتجارة البينية والأمن المشترك وكثير من الفرص المتوافرة التي يحول دونها الاختلاف على الحدود".
وعن مدى فعالية محكمة العدل وأداء دورها كجهة عدلية دولية، يقول "كي تمثل 'محكمة العدل الدولية' مرجعية عدلية موثوقاً بها فإن ذلك يعتمد على استقلاليتها وبعدها عن المؤثرات من الدول ذات النفوذ، وتُعد قضية السودان ضد الإمارات في ما يتعلق بادعاء دعم وتمويل الأخيرة للصراع في السودان، مثالاً وتحدياً كبيراً، وستكشف الأيام مدى قدرتها على اتخاذ قرارات أو إصدار أحكام إدانة ضد أبوظبي في ظل وجود أدلة قوية وموثقة قدمها السودان خلال مرافعته في المحكمة التي انعقدت في الـ 10 من أبريل (نيسان) الجاري".

قوة إلزامية رادعة

من جهته يقول المحامي أسعد هيكل إنه "لا بد من أن نذكر بداية أن 'محكمة العدل الدولية' وباعتبارها الأداة القضائية لمنظمة الأمم المتحدة التي أُنشئت لتحقيق العدالة بين الدول الأعضاء، أدت أدواراً جيدة عدة نذكر منها حكمها التاريخي بين مصر وإسرائيل بأحقية مصر في أرض طابا، وأيضاً حكمها الأخير بإدانة قادة إسرائيل عن جرائم الحرب التي ارتكبوها في فلسطين". ويلفت أسعد إلى أن "المحكمة حتى الآن لم تقدم ما هو مأمول منها على صعيد العدالة الدولية، كون تنفيذ أحكامها يعتمد على رغبة الدول الأعضاء، ولا توجد قوة تُلزم الدولة بتنفيذ تلك الأحكام".
ويوضح، "أما على صعيد النزاعات الأفريقية فلا نزال نفتقد دوراً جاداً وفعالاً لهذه المحكمة، فهناك كثير من تدخلات الدول الخارجية في الشؤون الأفريقية ترتب عليها نشوء كثير من الصراعات المسلحة داخل بعض الدول الأفريقية مثل السودان الذي بات مسرحاً للصراع وتدخلات الدول بهدف نهب ثرواته، بينما يتعارك أبناء شعبه في حرب داخلية ذهب ضحيتها ملايين بين قتيل ومصاب ومهجر خارج بلده، ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى تفعيل النظام الأساس لـ 'محكمة الدولية' لتصبح هناك قوة إلزامية رادعة في تطبيق الأحكام التي تصدرها المحكمة."

لفتة إنسانية

المستشار العام خالد عثمان محمد طه يقول إن "محكمة العدل الدولية لفتت أنظار العالم أخيراً، بعد إعلان جنوب أفريقيا رفع دعوى ضد إسرائيل بسبب انتهاكاتها لحقوق الشعب الفلسطيني، والقرارات التي اتخذتها  المحكمة ضد إسرائيل في يناير (كانون الثاني) 2024 وتضمنت الإلزام باتخاذ تدابير لمنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية، وضمان عدم قيام الجيش الإسرائيلي بأي أعمال من هذا النوع، واتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية، جاءت هذه الأحكام بمثابة لفتة إنسانية لقيت قبولاً لدى عامة الناس، فأحكام محكمة العدل الدولية نهائية وليس هناك إمكان للاستئناف، لكن الأمر متروك للدول المعنية لتطبيق قراراتها، وينبغي على الدول أن تحترم التزاماتها بموجب القانون الدولي، وإذا فشلت دولة ما في أداء الالتزامات الملقاة على عاتقها بموجب حكم ما، فإن الحل الباقي هو اللجوء إلى مجلس الأمن الذي يمكنه التصويت على القرار وفقاً لميثاق الأمم المتحدة"، مضيفاً أنه "على المستوى الأفريقي يُجمع المراقبون أن للمحكمة نجاحات في التخفيف من حدة الصراعات بين كثير من الدول الأفريقية، سواء كان ذلك في النزاعات الحدودية أو خلافات المصالح والانتهاكات أو التنافس على ثروات، ومن النماذج قضية خلاف الحدود بين بوركينا فاسو ومالي عام 1968، إذ نجحت المحكمة في رسم الحدود مما جنب البلدين نشوب حرب".
ويتابع طه أن "ضعف المحكمة يظهر في عدم امتلاكها آلية تفرض تنفيذ قراراتها، فهناك سوابق رفضت فيها بعض القوى الكبرى اختصاصها، ومنها رفض الولايات المتحدة الحكم الذي صدر لمصلحة نيكاراغوا عام 1986 بالتعويض على الحكومة دعم واشنطن للجماعات المتمردة الـ 'كونترا' بما يخالف القانون الدولي، وإضافة إلى ضعف وفقد الآلية النافذة فهناك تسييس لبعض القضايا في أساليب الدول الكبرى تجاه ما لا يروقها من قضايا وأحكام، وهو ما يعبر عن قصور العدالة، ولكن على رغم عدم تنفيذ قراراتها في بعض الأحيان لكن قراراتها تصبح على المستوى العالمي سوابق عدلية تفضح القوى المتنفذة، وترقى بوعي الشعوب تجاه حقوقها".

ويخلص المستشار خالد طه إلى أن "الأوضاع القانونية غير العادلة على المستوى العالمي، وعدم وجود نظام قانوني تتوحد فيه العدالة والإنجاز يؤدي إلى عدم الاستقرار، وإذا تمادى العالم في إهمال العدالة المتكاملة فإنه يعيش حياة لا يواكب فيها الجانب المادي المحتوى الأخلاقي، مما يقود إلى الفوضى".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير