ملخص
جدل ديني واسع يشهده العالم الإسلامي حول مقترح المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، بين مؤيدين يرونها "ضرورة عصرية" ومعارضين يعتبرونها "خروجاً عن النصوص القطعية". كيف تتعامل المؤسسات الدينية مع هذه القضية الشائكة، وما تأثيرها على المجتمعات الإسلامية؟
بين مؤيد يراها "مبادرة مستنيرة تتوافق مع مقتضيات العصر"، ورافض يعتبرها "تثير الفتن وتنزع القداسة عن النصوص القطعية وتتستر خلف لافتات حقوق المرأة"، تباينت الرؤى حول حديث أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر الدكتور سعد الدين الهلالي ودعوته إلى "المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث" التي أحدثت ضجة واسعة وجدلاً فقهياً في الأوساط الدينية والمجتمعية بمصر، مع اعتراضات وانتقادات حادة من مؤسسة الأزهر ودار الإفتاء.
وعلى أثر ذلك التباين في الرؤى شهدت منصات التواصل الاجتماعي شداً وجذباً بين كثير من الشخصيات العامة، إذ أيّد بعضهم ما ذهب إليه الهلالي مطالبين بـ"إعادة تنظيم العلاقة بالقرآن في ضوء مستجدات العصر"، معتبرين أن الاجتهاد في قضايا المواريث "ليس جريمة"، في المقابل استنكر آخرون تلك الدعوات، واصفين إياها بأنها "مسلك غير قويم يشوش على ثوابت الدين" وصاحبها يمارس "نوعاً من الاستبداد الفكري".
هل هي مسألة فقهية قابلة للاجتهاد؟
وفي فتواه استند الهلالي إلى أنه "لا يوجد نص قرآني صريح يمنع المطالبة بالمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، بخاصة إذا كانا متساويين في درجة القرابة مثل الأخ والأخت"، معتبراً أنها "مسألة فقهية قابلة للاجتهاد" ومؤكداً أن المساواة في الميراث "ليست بدعة حديثة، بل إنها مطبقة في تركيا منذ عام 1937، كما ظهرت في القانون المصري رقم 148 لسنة 2019 الذي يقرّ بتساوي الذكور والإناث في توريث المعاش".
وأضاف الهلالي خلال تصريحات تلفزيونية أن "لدينا أيضاً نماذج حيّة من الواقع المصري تظهر أن بعض الأسر المتراحمة تتقاسم التركة بالتساوي عن تراضٍ، من دون تدخل من الدولة أو القانون"، مشيراً إلى أن الفقهاء والصحابة أنفسهم اختلفوا في فهمها وتطبيقها ومطالباً بالدعوة إلى إجراء "استفتاء شعبي حول تعديل قوانين الميراث". وقال "المجتمع هو صاحب الحق في تقرير مصيره، ويجب الحفاظ على استقراره وسريان القانون القائم إلى أن يجري التوافق على تغييره".
ورداً على تبرؤ الأزهر من فتاويه، علّق الهلالي أن "هذا الأمر يرجع إليهم وليس إليّ، فكل ما يهمني أن الله لا يبرأ مني، وأرضي ضميري الذي سألقى الله به بقلب سليم والجدل الدائر حالياً مفتعل، وعلينا فهم النصوص القرآنية".
ورأت دار الإفتاء المصرية في تعقيب رسمي رداً على الهلالي، أن الدعوة إلى المساواة المطلقة في الميراث تحت لافتة التطوع أو الاستفتاء الشعبي، "ليست إلا ستاراً خادعاً يراد به نقض الحكم الشرعي وإسقاط القدسية عن النص وإلحاق الأمة بركب مفاهيم دخيلة لم تنتج إلا اضطراباً وانهياراً في مجتمعاتها، فالنص القطعي ليس مادة لإعادة التشكيل".
وأشارت دار الإفتاء إلى أنه إذا ما جرى تشريع المساواة في الميراث، فلن يعود التبرع خياراً، بل يصبح حقاً قانونياً يمكّن من أن يُقاضى الأخ إن لم يعطِ أخته ما لم يفرض عليه شرعاً، فيسلب الإنسان ماله، ويحمل ما لم يكلفه الله به، وهذا هو عين الظلم، لافتة إلى أن ما يراد فعلياً من هذه الدعوات ليس المساواة كما يدعى، "بل نزع القداسة عن النصوص القطعية وتحويلها إلى ساحة نقاش وجدال".
وعزز مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية ما طرحته الإفتاء المصرية، مؤكداً أن "نصوص الميراث قطعية لا تقبل التغيير ولا الاجتهاد"، ومعتبراً أن "الدعوة إلى صنع ’تدين شخصي‘ افتئات على الشرع، أو إلى صنع ’قانون فردي‘ فهو أيضاً افتئات على ولي الأمر، وإعادة إنتاج للفكر التكفيري المنحرف"، بحسب البيان.
ووفق الأزهر، فإن "تجديد علوم الإسلام لا يكون على الشاشات أو بين غير المتخصصين"، وأشار إلى أن التستر خلف لافتات حقوق المرأة للطعن في أحكام الدين وتصويره كعدو لها، حيلة مغرضة تستهدف تنحية الدين وتقزيم دوره، وتدعو إلى استيراد أفكار غربية مشوهة، دخيلة على المجتمعات العربية والإسلامية بهدف ذوبان هويتها وطمس معالمها.
الميراث علم توقيفي
وبينما اعتذر كثير من المتخصصين في علم المواريث من الإدلاء برأيهم في هذا الشأن ممن تحدثت إليهم "اندبندنت عربية" بدعوى عدم استئذان الجهة الرسمية التي يتبعونها قبل الحديث أو استشعار الحرج من إبداء الرأي في هذا النقاش، يقول متحدث جامعة الأزهر الدكتور أحمد زارع إن "ما طرحه الهلالي رأي فردي وشخصي لا يمثل إلا صاحبه فقط"، مؤكداً أن الجامعة "تتبرأ من تلك التصريحات التي تخالف كتاب الله وسنته وصحيح القرآن وإجماع الأمة وعلمائها". منوهاً أن النص صريح ولا يوجد مجال للاجتهاد على الإطلاق والأمة بأكملها أجمعت على ذلك.
ورأى زارع خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن الهلالي يعيد تجديد فتواه السابقة التي أدلى بها قبل أعوام، وأحدثت جدلاً واسعاً، مردفاً أن "ما يروج له الهلالي يثير الفتن بين الشعوب الإسلامية، مما أكدته المؤسسات الدينية خلال بياناتها الرسمية".
وقبل أعوام، فجّر الهلالي جدلاً مشابهاً بتصريحاته عن مساواة الإرث بين المرأة والرجل، حينما أيد قرار تونس بالمساواة في الميراث واعتبره قراراً صحيحاً فقهياً ولا يتعارض مع الشريعة، وأن الميراث مسألة حقوق لا مسألة واجبات مثل الصلاة والصوم، مؤكداً أننا سنصل إلى ما وصلت إليه تونس بعد 20 عاماً من الآن.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، صادق مجلس الوزراء التونسي على مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي يتضمن أحكاماً بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وكان يعتبر أحد الإجراءات الأكثر إثارة للجدل بين سلسلة إصلاحات اقترحتها لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شكلها السبسي عام 2017.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تقدير الدكتور إبراهيم رضا، أحد أساتذة الأزهر، فإن مقترح الهلالي "لا يستند إلى منهج علمي رصين ويهدف إلى الـ’ترند‘ وتحقيق مكاسب شخصية"، وأوضح خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن "القرآن منح الرجل حقوقاً أكثر من المرأة في أربع حالات، فيما حصلت النساء على حقوق أكثر من الرجل في 34 حالة. والإسلام لا يعرف النوع لكنه تحدث عن درجة القرابة، والميراث علم توقيفي مما يعني أنه موقوف بإرادة الله".
ويُعضد الطرح السابق المتخصص في قضايا المواريث الدكتور جودة بسيوني، قائلاَ "الله تكفل بالمواريث وتوزيعها والرسول (ص) لم يفرض مقاديرها، ولا يعقل أن يأتي عالم أزهري من آخر الزمان ليجتهد في أمر أورده الله في كتابه".
وفي رأي أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر الدكتور عبدالمنعم فؤاد، أن تلك التصريحات بمثابة "عدوان على الإسلام وتشكيك في الثوابت وتهدف إلى زعزعة المجتمع الإسلامي"، وأردف أن "لا أحد يجرؤ أن يناطح النص القرآني ’للذكر مثل حظ الأنثيين‘ وأن يعدّل على ما أقره الله".
ويوضح فؤاد خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن "لا يوجد في القرآن فريضة مفصلة ودقيقة مثل الميراث، فهناك تسعة حقوق تأخذ فيها المرأة أكثر من الرجل"، مشيراً إلى أن الهلالي زعم أن الميراث "حق وليس فريضة" في حين أن الله قال في آياته "تلك حدود الله"، وفي موضع آخر و"يوصيكم"، مما يشير إلى أن الهلالي "تخطى النصوص القطعية".
وتعقيباً على تطبيق المقترح في بلدان أخرى مثل تونس، قال فؤاد، "نحن نأخذ الشرع من الله ورسوله، ولا نقلد غيرنا".
فكر إصلاحي مستنير
وعلى النقيض من الطروحات السابقة، أيدت الكاتبة الصحافية وعضو الهيئة الوطنية للصحافة سحر الجعارة ما طرحه الهلالي، معتبرة أن "الاجتهاد في قضايا المواريث ليس جريمة"، والهلالي "يجتهد من أجل إنصاف الفتيات وتأمينهن بأي شكل يراه المورث في حياته، ويعتقد بأنه لو هناك قبول مجتمعي على إنصاف الفتاة، فينبغي أن تُغيّر القوانين".
وتوافقها الرأي المحامية بالنقض وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان نهاد أبو القمصان، موضحة أن مقترح المساواة في الإرث بمثابة "بادرة إيجابية" تتماشى مع تطور العصر وتفتح الباب للمناقشة وإعمال العقل في قضية صعبة ومعقدة مثل المواريث التي اختلف عليها الفقهاء منذ عصر عمر بن الخطاب. وأشارت إلى أن هناك بلداناً مثل تونس والمغرب وإيران وبعض الدول الإسلامية في شرق آسيا تطبق فكرة المساواة في الإرث وتتحاور بصورة إيجابية حول تلك القضية.
وفي اعتقاد أبو القمصان فإن "علم الميراث له علاقة بالمعاملات لا بالعبادات"، وطالبت بضرورة مراجعة النظر في قواعد تلك القضية التي نستند فيها إلى النقل منذ قرون طويلة، في حين أن الأئمة والفقهاء قبل أكثر من 1000 عام كانوا أكثر جرأة في قضاياهم.
وترى عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان أن المعضلة حالياً تكمن في أن هناك بعض الأئمة والفقهاء بنوا جداراً بينهم والناس، وخلقوا كهنوتاً لبعض القضايا التي لا يجوز الاقتراب منها أو المساس بها، مما تسبب في حال من اللغط وعدم الفهم لكثير من المواطنين.
وطالبت بكتابة ميراث الفتيات تجنباً لسرقتهن من أقاربهن في حالة وفاة والدهن، موضحة أن خمسة في المئة من الفتيات يحصلن على ميراثهن بعد وفاة والدهن، فيما لا تستطيع 95 في المئة منهن ذلك بحجة العادات والتقاليد والأعراف، خصوصاً أن أهالي بعض محافظات الصعيد لا يورثون البنات.
وشرحت أن دعوتها إلى كتابة الميراث للبنات في حياة والدهن "ليست بدعة أو رأياً منها، بل باتت طلباً تفرضه المتغيرات التي طرأت على ثقافة بعضهم"، مستشهدة بمفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة، حينما سجل وكتب أمواله لبناته في حياته بهدف تدريبهن على إدارة أموالهن، ونوهت بأنه لا ضرر على الإطلاق من كتابة الأب أو الأم الميراث لأبنائهم وبناتهم في حياتهما، بل على العكس فهما بهذا التصرف يحميان حقوق أبنائهما على السواء، سواء من أنفسهم أو أقاربهم، متسائلة "لماذا إذاً كل هذه الضجة حول إمكان توزيع التركة أو كتابة بعضها للبنات من دون مساس بحق الأنصبة وفق الشرع؟".
يذكر أن القانون المصري استند في قضايا المواريث إلى شقين، الأول هو نص المادة 2 من الدستور المصري التي تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع"، وعلى رغم أن هناك قوانين تسمح لغير المسلمين بالاحتكام إلى شرائعهم الخاصة، فإن ذلك لا يكون متعارضاً مع النظام العام وقواعد دين الدولة الرسمي، وفق المحامي بالنقض أيمن محفوظ.
أما الأمر الثاني فيستند إلى نص قانون الميراث المصري رقم 77 لعام 1943 الذي يواجه جريمة الامتناع عن تسليم الميراث الشرعي إلى الورثة على رغم أحقيتهم في الميراث، لحماية الحقوق للقضاء على مثل هذه الجرائم، وحدد عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه ولا تتجاوز مئة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من امتنع عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث.