ملخص
على مسرح الطليعة في ميدان العتبة الشهير وسط القاهرة، يقدم المخرج ناصر عبدالمنعم عرضه المسرحي "كارمن" المأخوذ عن رواية الكاتب الفرنسي بروسبير ميرميه، دراماتورجيا محمد علي إبراهيم، مستعيناً بعناصر شابة اختارها بعناية، سواء من الفنانين أو الفنيين.
منذ أن قدم الموسيقي الفرنسي جورج بيزيه (1838-1875) أوبرا " كارمن" في عام وفاته نفسه، عن رواية مواطنه بروسبير ميرميه (1803-1870) وهذه الرواية القصيرة تحظى باهتمام السينمائيين والمسرحيين حول العالم، إذ عالجتها عشرات الأفلام والمسرحيات بلغات عدة.
لقد تحولت شخصية كارمن، تلك الغجرية الإسبانية إلى مثير إبداعي لكثير من المخرجين والمؤلفين، فعلى رغم رفض المجتمع المحافظ هذه الرواية وقت نشرها عام 1845، وكذلك رفضه لها عند تحويلها إلى أوبرا، يقال إن بيزيه مات متأثراً بفشلها، فقد أصبحت هذه الرواية وبطلتها كارمن محل اهتمام واسع، سواء من صناع الدراما أو من المشاهدين والقراء.
تبدو كارمن الغجرية واحدة من الشخصيات الثرية التي تحفز خيال المبدعين لتجسيدها، فهي، بنزقها وتقلب مزاجها وعصبيتها وسعيها إلى الحرية المطلقة وتلاعبها بالرجال واستعدادها لفعل أي شيء في سبيل إرضاء ذاتها، بعيدة تماماً من تلك الشخصيات الدرامية التي اعتادها المشاهد أو القارئ، هذا فضلاً عن الصراع الذي يعانيه الضابط خوسيه لازارا، بين الواجب والعاطفة، وتحوله من حافظ للقانون إلى خارج عليه، كل ذلك يتيح مساحة واسعة للعب المسرحي الممتع، متى حرص المخرج على اختيار عناصره بدقة، وتوظيفها في خدمة رؤيته.
فتاة ليل
قصة كارمن تدور، كما هو معروف، حول فتاة غجرية، كانت تعمل في مصنع للتبغ، أحبها الضابط خوسيه لازارا، وبسبب حبه لها، وبدلاً من أن يقودها إلى السجن لتشويهها وجه زميلة لها، أتاح لها فرصة الهرب، فأُنزلت رتبته إلى جندي، ثم تتحول كارمن من عاملة في المصنع إلى فتاة ليل تعمل في إحدى الحانات، وبسببها أيضاً تحول خوسيه إلى لص ثم إلى قاتل، وينتهي به الأمر إلى قتلها، والحكم عليه بالإعدام بعد اكتشافه تلاعبها به وبغيره من الرجال.
في مصر، وعلى مسرح الطليعة بميدان العتبة وسط القاهرة، قدم المخرج ناصر عبدالمنعم نسخة جديدة من "كارمن" دراماتورجيا محمد علي إبراهيم، مواصلاً رحلته مع النصوص الروائية، التي عالج كثيراً منها خلال مسيرته الطويلة.
ولعل ولع ناصر عبدالمنعم بالنصوص الروائية، التي قدم منها من قبل على المسرح "أيام الإنسان السبعة" لعبدالحكيم قاسم، و"العودة إلى المنفى" لأبو المعاطي أبو النجا، و"الطوق والإسورة" ليحيى الطاهر عبدالله، و"ناس النهر" لحجاج أدول، وغيرها، لعل هذا الولع يعود إلى ما تمنحه الرواية من رحابة في انتقالاتها الزمانية والمكانية، وكذلك ما تتيحه من مساحات للسرد، مما يسهم في إثراء الصورة المسرحية وتنوعها، وشحنها بطاقة فائضة، ربما لا تتوافر في النص المكتوب أساساً للمسرح، الذي غالباً ما يلتزم وحدتي الزمان والمكان، بخاصة النصوص الكلاسيكية.
اختيار العناصر
استعان ناصر عبدالمنعم بعناصر قادرة على تحقيق رؤيته التي سعى إلى تقديمها، وربما يكون عنصر الديكور (تصميم أحمد شربي) هو الأساس الذي اتكأ عليه، أولاً، لاستغلال تلك الرحابة التي تمنحها الرواية في تعدد الأمكنة، أو استغلاله هو في تلبية حاجات النص، كيف ينتقل من مكان إلى آخر، من دون إعتام، أو إخلال بإيقاع العرض، وكيف يكون الديكور، في الوقت نفسه، عنصراً جمالياً يثري صورة العرض.
في المنتصف حانة تتصدر المشهد بكل تفاصيلها، وفي منتصف الحانة قماش يطلق عليه" ماش" تدور خلفه مشاهد في إحدى الغرف التي تواعد كارمن عشاقها فيها، تُبرز بواسطة الإضاءة (تصميم أبو بكر الشريف) وعند الانتقال من الحانة إلى مكان آخر (السجن أو الشارع أو بيت أحد الأثرياء أو سور المدينة أو مصنع التبغ) تُفصل الحانة عن المكان المراد تجسيده بستار يهبط من الأعلى، وتُستغل مقدمة الخشبة، ويُستعان ببعض الموتيفات التي تحدد هذا المكان أو ذاك، وذلك كله أثناء جريان المشهد، وكأننا بصدد مونتاج سينمائي نُفذ باحترافية تشارك فيها مصمما الديكور والإضاءة، فاستحق هذان العنصران أن يكونا بطلي صناعة الصورة في العرض.
حظي السرد بمساحة واسعة، وكان الفيصل هنا لقدرة المخرج وخبرته في إدارته على نحو فيه من المتعة والتشويق مما يجعله جاذباً لحواس المشاهد كافة، فالحكاية تبدأ بمشهد قتل الضابط خوسيه لازارا (ميدو عبدالقادر) معشوقته كارمن (ريم أحمد)، ثم دخوله إلى السجن ومجيء مصارع الثيران (محمد العرجاوي) أحد عشاقها، ليتعرف منه إلى أسباب قيامه بقتلها، فتبدأ الحكايات والانتقالات في لوحات بليغة من التمثيل والرقص والصراعات، لينتهي العرض بالمشهد نفسهه الذي بدأ منه.
تقطيع المشاهد
أتاحت فكرة التقطيع، التي لجأ إليها ناصر عبدالمنعم، الفرصة لإثراء الصورة وتنوعها، فضلاً عن التدفق الإيقاعي المبطن بموسيقى (إعداد حازم الكفراوي) من الفلامنكو الإسباني ومقطوعات من تشايكوفسكي، استغلتها سالي أحمد في تصميم رقصاتها القريبة إلى الأجواء التي تدور فيها الأحداث وطبيعة كارمن الغجرية، المراوغة والمنفلتة.
اكتملت الصورة بعنصر التمثيل الذي أولاه المخرج اهتماماً واضحاً، بعيداً من المبالغات التي تغري بها شخصيات العرض، فقد حافظت ريم أحمد في تقديمها شخصية كارمن، على التوازن بين ما يمكن اعتباره روحاً شريفة وجسداً عاهراً، بين الفجاجة والنعومة، بين القسوة والرقة، واعية إلى تناقضات الشخصية، وحربائيتها، وقدرتها على التنقل من حال إلى حال، موظفة مفردات جسدها وجهازها الصوتي، كل في موضعه، ومؤدية رقصاتها برشاقة واحترافية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مقابل كارمن وتوازناتها، جاء أداء ميدو عبدالقادر لشخصية الضابط خوسيه لازارا، الذي تحول إلى مجرم بسبب عشقه لها، منضبطاً هو الآخر، بمعنى إدراكه مأزق الشخصية وأزمتها الوجودية، وتحوله من الرزانة والهدوء والالتزام والاعتداد بالنفس، إلى مرتبة العبد لمعشوقته كارمن، وانصياعه لرغباتها ونزواتها، ثم تحوله من شرطي إلى سارق وقاتل، كل ذلك لعبه ميدو ببساطة ومن دون المبالغة في انفعالاته، فكان مقنعاً في تحولاته كافة، بعيداً من الأداء الميلودرامي الذي تغري به الشخصية.
طبعت الرصانة والتوازن، وبالتأكيد توجيهات المخرج، بصماتها على فريق العمل من الممثلين، ومنهم محمد حسيب (باستيا صاحب الحانة) ونهال فهمي(ميكائيلا) وإن كنت أظن أن انتقالها هي الأخرى من مصنع التبغ إلى الحانة غير مبرر درامياً، ولعل المخرج أراد استغلال قدراتها التمثيلية في توسيع مساحة دورها.
هناك كذلك لديا سليمان (العرافة مانويلا) وعبدالرحمن الجميل (خوسيه ماريا) وأحمد علاء (أليخاندرو) وأحمد البدالي (الضابط زورنيجا)
مسرحية "كارمن" على رغم تقديمها في كثير من النسخ في مصر، سواء بواسطة هواة أو محترفين، فقد بدت في نسخة "الطليعة" وكأننا بصدد مسرحية أخرى، فيها من المتعة والانضباط والشاعرية، ما يجعلها مختلفة عن غيرها، ويبرر وجودها مجدداً، حتى لو كانت الخيانات والممارسات الخليعة لبطلتها، والتحولات الدراماتيكية لشخصياتها، وحوادث القتل، المبرر منها وغير المبرر، حتى لو كان ذلك كله هو متنها الأساس، وبطلها الأول.