Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية "كارمن" المصرية... الروح الغجرية تتفجر رقصا وغناء وموسيقى

عرض نخبوي وشعبي على خشبة الهناجر

مشهد من مسرحية "كارمن" في صيغتها المصرية (اندبندنت عربية)

يمكن النظر إلى العرض المسرحي "كارمن" الذي تقدمه المخرجة ريم حجاب على مسرح مركز الهناجر للفنون في القاهرة، باعتباره "نخبوياً"، بمعنى أنه يتوجه إلى جمهور اعتاد تلقي غير المألوف من العروض، والتفاعل معه. ويمكن اعتباره، في الوقت نفسه، عرضاً شعبياً يقدم من فنون التمثيل والرقص والغناء، ما يبهر المشاهد العادي أو الذي ينتظر "حكاية ممتعة". بل إن البعض يمكنه النظر إلى هذا العرض باعتباره "يرقص على الدَرَج"، بالتالي لم يصل إلى الجمهور النوعي، ولا وصل إلى الجمهور العادي. في ظني أن هذه "الخلطة" أو "اللخبطة" هي ما تمنح العرض حيويته، وتجعله مثيراً للأسئلة، وهل هناك حدود يقف عندها المسرح، أم أن المسرح/ المسرحي، حر يفعل بنا ما يشاء، وأن علينا التعامل معه بقوانينه هو، التي أنشأها لتحقيق غايته، لا أن نفرض عليه قوانين ربما أخرَجته مِن دائرة الفن؟

لا شك في أننا أمام مغامرة محفوفة بالأخطار أقدَمت عليها المخرجة الشابة التي أعدَّت نصَّ عرضها عن أوبرا "كارمن" التي كتبها هنري ميلهاك ولودفيك هاليفاي، ووضَع موسيقاها جورج بيزيه، عن رواية الفرنسي بروسبير ميريميه. "كارمن" الأوبرا شاهدها جمهور القاهرة كثيراً، وبالتأكيد شاهد فيلم المخرج كارلوس ساورا، المأخوذ عنها، فما الجديد الذي يمكن أن تقدمه المخرجة والدراماتورج والكيروغراف الشابة ريم حجاب مستعينة بخمسة عشر من الممثلين الجدد؟

عمدت المخرجة إلى تدريبات شاقة- كما بدا في العرض- على التمثيل والرقص والغناء، فالمجموعة بدت موفقة في تقديم اللونين، الغربي والشرقي، في تناسق ملحوظ، وكذلك بعشوائية عندما كان الأمر يتطلب ذلك. ولا عجب، فالعرض سمته الأساسية هي الجمع بين المتناقضات، بوعي ولغاية محددة. الرقصات الجماعية التي أداها الممثلون لم تكن لذاتها، كانت أشبه بالحوارات التي تسهم في نمو الدراما. وحدث الأمر نفسه عبر المعارك بين الفتيات، ومشاهد مصارعة الثيران. وأسهمت موسيقى سعد ممدوح كذلك في تطوير الدراما وزيادة حدة التوتر. وجاءت أزياء ريهام زهرة مرِنة مثل العرض، تتيح حرية الحركة للممثلين، ويسهل استبدالها أو إضافة بعض الأكسسوارات إليها لتبدو مختلفة. وجاء الغناء على الدرجة نفسها من الحرفية، سواء أكان رقصاً شعبياً مصرياً، أم شعبياً غربياً، وسواء جاء عبر ألحان وضعت خصيصاً له، أم جاء منغماً "ريستاتيف". وإذا كان الرقص والغناء جاءا على قدر من الحرفية والانضباط، فإن التمثيل جاء في مستوى أقل؛ ليس لأن الممثلين لم يتدربوا جيداً، أو لأنهم لم يبذلوا الجهد اللازم في أداء شخصياتهم، ولكن لأنه منهج حاولت المخرجة اتباعه، وإن كسرته في بعض المشاهد، أي أنها أطلقت لخيالها العنان، وحرَّرت نفسها مِن القيود التي يمكن أن تكبل حركتها وحركة ممثليها وطرق أدائهم. ذهبت حجاب إلى حيث يقودها خيالها، حتى إن الحوارات التي دارت بين الجندي جوزيه وخطيبته التي جاءت إليه تحمل رسالة من أمه، بدت كما لو كانت بين فتاة ريفية مصرية وجندي من قريتها، مع إننا في أجواء غربية، وبصدد أسماء أجنبية. أرادت المخرجة تعميم الحكاية، باعتبارها موضوعاً إنسانياً لا يرتبط بزمان أو مكان محددين.

أكثر من كارمن

ما يؤكد هذا الأمر هو أن كارمن الغجرية التي ترك جوزيه، الجندية من أجلها وأصبح مطلوباً للمحاكمة، لم تكن كارمن واحدة، وهو لم يكن جوزيه واحداً. فهناك ست فتيات يلعبن دور كارمن، وستة شباب يلعبون دور جوزيه، وأحياناً في مشهد واحد، حيث يكمل كل زوج منهم الحوار، أو يكرر الجُمَل نفسها. تقنية التكرار لم تقتصر على الجُمَل التي يرددها الممثلون، بل تعدتها إلى الأغاني. تقدم ممثلة إحدى الأغنيات، وبعد انتهائها تعود المجموعة لترددها في شكل منغَّم. لم تخش المخرجة إصابة المشاهدين بالملل جراء تكرار الأغاني والجمل والعبارات، ولم تخش كذلك إصابتهم بالارتباك جراء تعدد شخصيات كارمن وجوزيه، لقد استخدمت في بعض المشاهد الكورس أو الجوقة - في ملمح كلاسيكي- وكأنها تريد تأكيد رحابة المسرح وقدرته على الجمع بين المتناقضات، والاستفادة من المناهج كافة، وتوظيف كل شيء في محله ووقت الاحتياج إليه. العالم أكثر رحابة، وكذلك المسرح.

وإذا كانت كارمن الفتاة الغجرية متقلبة المزاج، صاحبة الجمال الوحشي، تؤمن بحرية جسدها وتنتقل من عشيق إلى آخر، فإن ريم حجاب في إخراجها لهذا العرض تلبَّستها روح تلك الفتاة مسرحياً، آمنت بحريتها المطلقة وانتقلت من منهج إلى آخر، ومن طرق أداء إلى أخرى. وإذا كانت هناك مقاييس تقليدية للجمال لم تمتلكها كارمن الأصلية على الرغم من جمالها الوحشي، فإن مقاييس المسرح الصارمة لم تكن حاضرة هنا أيضاً، ومع ذلك كان للعرض جماله الخاص الوحشي. يبدأ العرض بمجموعة الممثلين في عمق المسرح يرددون بعض الجمل التي تشير إلى الرغبة في استمرار البدايات الطيبة، وتطرح تساؤلات حول تلك القوة التي هي أكبر من قدرة الإنسان، ولا تمكنه من تحقيق رغباته كافة، ثم رويداً رويداً تصل المجموعة إلى مقدمة المسرح "الأفنسيه"؛ بعدها تبدأ التحرك في شكل دائري، كأنها الدائرة التي ندور فيها من دون جدوى للوصول إلى أحلامنا.

لا ديكورات تقريباً تشير إلى مكان بعينه. بانوهات معدنية (صمَّمها محمد العبد) يتم استخدامها في شكل رمزي للتعبير عن ممر أو بوابة حراسة أو حجرة تجلس فيها الفتيات يبدلن ملابسهن، والممثلون في أغلب المشاهد يروحون ويجيئون في حركة دائبة؛ ليست مجانية بالطبع، جعلت الخشبة أكثر احتداماً وتوتراً. حافظت المخرجة على "روح الحكاية"... كارمن التي أحبها الجندي جوزيه وساعدها على الهروب من السجن بعد أن طعنت إحدى الفتيات، وهرب معها هو الآخر تاركاً كل شيء، ومضحياً بالجندية ومعرضاً نفسه للمطاردة، وعلى الرغم من ذلك تنقلب عليه وتعشق شاباً آخر هو مصارع الثيران. وعندما تسعى إلى الذهاب لمشاهدة المصارعة الأخيرة لعشيقها، يذبحها جوزيه، وتبقى الأسئلة معلَّقة.

المزيد من فنون