Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

  3 شعراء عرب شباب ينسجون ملامح هوياتهم

أصوات شعرية بين الغنائية والنزعة السوريالية والبعد التأملي

لوحة للرسام جعفر طاعون (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

ثلاثة دواوين شعرية صدرت حديثاً لثلاثة  شعراء عرب من جيل الشباب هي: "صلوات الصعاليك" للسعودي سلطان محمد، و"يبدأ الحزن رحيماً" للسورية فاطما خضر، و"تكوين على مهل" للبناني دجو القارح. تمثل هذه الدواوين صورة من صور المشهد الشعري الراهن.

في كتابه "مسائل الشعرية فصل خصه العالم اللغوي الروسي رومان ياكوبسون بمعالجة مفهوم "المهيمنة" أو الطابع المهيمن، كما ارتآها منظرو الشكلانيين الروس، يقول فيه ما معناه إن شعرية أي نص شعري تتحدد بطغيان الوظيفة الفنية على ما عداها. ويمكن تطبيق المفهوم نفسه لدى النظر في مستويات النص الشعري ذي الوظيفة الفنية المهيمنة، بالكلام على أي مستوى هو المهيمن، وما يحمله من دلالات حاسمة في شأن العالم الشعري المتخيل، واللغة الشعرية التي يتحقق من خلالها هذا العالم، ويتكون الصوت الشعري المتميز.

وإذ نستعين بمفهوم المهيمنة، نحاول أن نتبين الطابع الشعري الغالب في أعمال ثلاثة شعراء شباب عرب: "صلوات الصعاليك" (دار أوكسجين) للسعودي سلطان محمد، و"يبدأ الحزن رحيماً" (دار مرفأ) للسورية فاطما خضر، و"تكوين على مهل" (دار النهضة العربية) للبناني دجو القارح. وهذا بالاعتماد على قراءتنا الموضوعية لهذه النصوص بناء على مفاهيم أساسية، ومنها مفهوم المهيمنة المشار إليه أعلاه.

 شعرية الصعق

في مجموعته "صلوات الصعاليك"، يواصل الشاعر السعودي سلطان محمد توسيع هامش اعتراضه، بل ثورته على نقاء الخطاب الشعري التقليدي وغيره، بدليل استهلال الشاعر مجموعته بدعوة إلى الصراخ، تمهيداً لإطلاق اعتراضه أو ثورته في ما يأتي من قصائد: "لو هيئ لي مكان صراخي/ مكان صباحي بفضة شاحبة/ يكون لساني هناك ريشة/ ويكون صوتي هناك ريحاً..." (ص:9).

ولئن كادت ثيمة الصلاة أو النجوى أن تكون مهيمنة في القصائد، انسجاماً مع عنوان المجموعة "صلوات الصعاليك"، فإن الناظر في مضامينها تطالعه نبرة التهكم العالية، والتي تبلغ حد مشابهة ذاته بحكاية يوسف مع إخوته، ومخاطبة الرب على نحو ما خاطب أيوب النبي ربه، في عز عذاباته، داعياً إياه إلى أن يغمض له عينيه: "أغمض عينيك عني يا ربي، فجري إثمد[1]/ وحنجرتي برتقالة من شجر الظهيرة/ واتركني في المغارب أتغرب حتى العشاء إذ أجيء إليك/ بإخوة يوسف أبكي ويضحكون" (ص:11).

سوريالية تخدم الموضوع

ولكن ما يميز خطابية النجاوى هذه، من ذات مقموعة ومدركة مكانتها، إلى ذات عليا ممسكة بقدرات سحرية وسامية، هو التخييل وابتداع الصور الشعرية الأغرب، والمفردات المتعارضة القيم والمتنافرة الدلالات، بما يذكر القراء بالنهج السوريالي المخفف، والموظف لخدمة الموضوع، أو الثيمة الرئيسة في المجموعة، عنيت بها تصعيد الشاعر صورة الذات لتكون أرقى في بشريتها، وألصق بالعناصر الطبيعية الأربعة، وبالكائنات كلها، مضافاً إليها البعد الإشراقي الصوفي: "امنحني حجر الشعراء تحت لساني ولو كان حصاة/ اجعل لي خدماً من الطير وجواري من النمل/ وأصدقاء من الجبال/ خل النار مائي/ وليكن مائي من كلام حبيبتي..." (ص: 15).

موتيف الانتحار

وإن تواتر موتيف الانتحار في قصائد محمد سلطان، فإنما ليدفع بخطابه الشعري، وبصدقية مفترضة فيه، إلى الذروة حيث تتآخى ذات الشاعر المهيضة مع ذات الكائن المتخبطة بين صعيدين: العدم والسماء. ويقول في هذا، عبر قصيدة النثر، قالبه الشعري الأثير، مضافاً إليها قصيدة النثر السردية المكثفة في قسم بعنوان "أنثر...سيأتيك الحمام"-: "اللهم إني أصعد ما بين درجة وسبع درجات إليك، بالكاد عبر سلمك ذي الـ70 درجة/ بالنوم/ فساعدني أن أكمل الدرجات الـ63 الباقية إليك/ بالنومة الكبرى/ كن كريماً معي وارفعني كالمسيح ولو لي أب سواك/ أب يؤمن بك/ يا سقف الوجود بلا سلالم/ يا قاع العدم بلا سقوط/ وسطني بقربك..." (ص:21)

ومع ذلك تبقى طرافة أسلوب الشاعر سلطان، بل تمايزه، في محاولته خلط الأزمنة والشخصيات وربط مصائرها بمصيره، في نبرة عنوانها التمرد وإثبات حضوره الشعري ورؤيته للعالم، موشحة بشيء من الخطاب الصوفي، وبحشد من الصور النفسية الصادمة.

منحى التأمل

في مقابل الخطاب العالي النبرة للشاعر محمد سلطان، تنحو الشاعرة السورية فاطما خضر (1995) منحى مغايراً لزميلها، هو منحى التأمل في ما تحدثه أمواج المشاعر في النفس، واستبطان الحالات الناجمة عن الفقدان، والخذلان، والغياب. وفي هذه تعود الشاعرة إلى منبع الشعر الوجداني- الغنائي، ولكن مخففاً من صوته، طمعاً في حسن تقبله من القارئ وضمان تفاعله مع جمله الشعرية التي تتبدى، على يدي فاطما خضر، نفثات شعرية تستدعي التفكر في أصدائها وإيحاءاتها.

وعلى هذا فإن المهيمن في شعر فاطما خضر، هو الكلام الشعري الموجز والمكثف، الذي يعد القارئ بمزيد، فيسكت عن فسحة البياض فيه، ليملأ بالتأمل والتأويل الممكنين. وتيسيراً لقراءة المجموعة الشعرية، جعلتها الشاعرة ثلاثة أبواب: باب الفقد، وباب الخذلان، وباب الحزن.

الأبواب الثلاثة

الفقد عند الشاعرة خضر، وقد سلفته المكانة الأولى بين الحالات الجديرة بالإبانة، وهو نقيض الألفة ودليل خسرانها، يتعين في مستهل المجموعة مناخاً شعرياً عارماً، تنتقل فيه الذات من الخاص الحميم، إلى العام، من جرح أصاب عين أخيها فأعماها، إلى جفون كل الناس في البلاد وقد تقرحت بسبب من رحلوا: "عيني بيدق خاسر/ وما بقي مني ينفث الموت/ البطيء/ والبلاد بيدق صامد/ بأجفان مقرحة يشهد عليها الظلام/ وبجسد هزيل يشهد عليه الخراب/ وبقلب مكلوم يشهد عليه/ جميع من رحلوا.." (ص:14)

وفي قصيدة "عدم"، من الباب الأول نفسه، تسعى الشاعرة إلى رسم بورتريه لذاتها، من خلال ضربات كلامية سريعة، في ما يشبه رصفاً بالكلمات والصور ذات السمات الدالة على الموصوفة. تقول: "أبدو لطيفة/ وهذا أمر مكلف جداً/ استلزم تفكيك حياتي لمئة/ علامة تعجب.../ أبدو نحيلة/ وهذا أمر طبيعي جداً/ إذ يرحل جزء مني/ كل يوم.." (ص:15)

وعلى هذا الأسلوب، المقتبس من كتابة قصائد الهايكو، بصفات الهدوء والإيجاز والتركيز، مضافاً إليها قدرة على تنمية الأفكار، وتوسيعها وابتكار صور شعرية، على ما تقتضيه قصيدة النثر، تمضي الشاعرة خضر، في قصائد متدرجة في طولها، وتعدد مقاطعها إلى ما سمتها "عشق سيئ السمعة". وفيها تصنع من سيرتها نسيجاً لقصيدة طويلة، من 15 مقطعاً شعرياً، تروي فيها ثبات القلق في حياتها، رفقته منذ أن وعت وجودها الأنثوي، في المدرسة والجامعة، وإلى أن وقعت في عشق حبيبها الأول: "في الجامعة/ كان القلق زميلي وأستاذي/ يخرج من كوب النسكافيه/ من المحاضرات/ ومن الطريق.../ حبيبي الأول أحب أصابعي/ قبل انقضاء عام افترقنا/ لشدة ما منعت عنه/ يدي/...ثم/ لم يتغير شيء/ بمزيد من القلق تابعت حياتي/ من عيون مديري، يد سائق التكسي/ مجتمع يراني فاشلة لأني لم أصبح عروساً/ من نقود ناقصة في حقيبتي دوماً/ من الحرب، والعتمة/ وغربة في وطني/ والآن منك!" (ص:31)

ولا نحسب أن غالب القصائد، في البابين الآخرين (الخذلان، والحزن) تختلف في بنيتها العامة، عما عرفناه في الأول. وإنما ثمة حساسية شعرية، تفلح الشاعرة فاطما خضر في إرسائها، عبر رومانسية غير آملة. تقول في آخر قصيدة لها بالمجموعة، بعنوان "يوم آخر جيد للاكتئاب": "في قصائدي/ لا جديد عن بلاد نحر الوقت/ وزرع هالات البنفسج تحت عينيك/ وتحويلك إلى إسفنجة لامتصاص/ الخراب والحرب/ والعتم..." (ص:114)

دجو القارح والرومانسية

الشاعر اللبناني الشاب دجو القارح، يدخل بوابة الشعر من باكورته الشعرية، ويصنع أول خيوط نسيجه الشعري، في مسلك بتعاريج طويلة، يتناوب فيها الضوء والظلمة، والإصابة والخطأ، وإعلاء النبرة الشعرية وخفضها، على توالي التجارب الآتية. والمظهر اللافت، بل المهيمن في هذه المجموعة، ليس حضور المرأة/ الأم التي يهدي الشاعر إليها الكتاب، وإنما محاولة النسج على رومانسية أورفية، يصنع خصوصيتها من تجربته المعيشة، ومن دفق المشاعر الوجدانية-الغنائية التي يريد لها أن تتجسد بأسلوب لا يخفي مراجعه، ويسعى، في المقابل، إلى إثبات فاعليته وقدرته على التجاوز والتجديد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن، قبل أن نباشر الكلام على مضامين المجموعة الشعرية لدجو القارح، لا بد من الإشارة إلى هيكلها، ففي انقسامها أربعة أقسام (مقدمة، وطريق الورد، والوردية، وسيمفونية النفس الطويل) دلائل على هذا العالم الذي لا يني يكشف عنه، وهو عالم منشق لتوه عن عالم الطفولة، والمثال، والمرأة-الأم نصف الإلهة. وفي المقابل، يتكشف للقراء دخول الشاعر إلى عالم المرأة -الحبيبة من بوابة الألم الجسدي، والمرض، والموت، والوحشة، وغيرها من موتيفات الرومنطيقية الأورفية. "لم أجد على طاولتي ولا على مخدتي/ كلمات أو ذكريات/ لأكتب الأحلام بالضوء،/ علمت أنني ولدت من جديد/ والأمل على طرف السرير/ ينتظرني أفتح عيني.." (ص:10)

الطريق الأورفية

وفي ما بعد، يباشر الشاعر القارح رسم دربه الأورفية، من بقايا ذكريات طفولته، منقولة على محمل العيد والطبيعة بهيئتها الريفية البهيجة: "وجدتني على السقف،/ معلقاً مشققاً مستفيضاً في زوبعتي الهوائية./ حواسي مجوهرات ألبسوني إياها وزيحوني في أحد الشعانين./...تجمعين حولك كتاباتي كالعصفور./ الحياة مفاجأة سارة عندما تنتهين مني.." (ص:15)، "الملاك الذي أوصلك البارحة، خبأ جناحيه في ظهرك./ اليوم، عرفت إلهي" (ص:30).

وفي هذا الدرب متسع للأماني، عديلة الأحلام، يرسلها الشاعر الشاب، ليؤثث بها إحدى زوايا عالمه الأثيري، عبر قصيدة "التمني"، يلقى فيها شريكته ويعيشان ما يكتب لهما القدر العيش. يقول: "تمنيني في أمنية كبيرة تتسع لمكتبتنا المشتركة ولوحاتك وقصائدي وحديقتنا وما فيها من زهر وياسمين وبيت عصفور يزورنا مرة كل ربيع ومواعد المفكرة وكل المقاهي والمقاعد والبحيرات والساحات الخالية..." (ص:17)

غنائية وتجربة

على أن الجانب الأوفر في عالم المجموعة الدلالي الذي يسعى الشاعر القارح إلى بنيانه كان ماثلاً في غنائيته الصارخة، لا الهامسة، وفي نقله تجربته الإنسانية بصدقيتها البريئة، مع ميل إلى التوسع الأفقي في مشاهده الشعرية، واستثمار ما للأحلام من منافذ إلى الدواخل اللاواعية في الذات المعانية.

"في البدء/ كان الألم،/ والألم يتألم في الوحدة،/ والوحدة على الطرقات،/ والطرقات تملأ الحياة". (ص:72) و"ها أنا آت كموجة حر/ رائح في مصيبتي أبعد من اليأس./ ظلالي كثرت وضاع جسدي/ أضرب كالحديد وأنا بارد/ وأنت البعيدة..." (ص:81).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة