ملخص
جاء في الاستطلاع أن 81 في المئة يوافقون على حكم أحمد الشرع، و70 في المئة عبروا عن تفاؤلهم بالاتجاه العام الذي تسير به البلاد، كما أعربت أعداد كبيرة عن شعورها بأن النظام الجديد أكثر أماناً، وأكثر حرية وأقل طائفية من حكم بشار الأسد.
نشرت مجلة "إيكونوميست" أخيراً افتتاحية حملت في طابعها استطلاعاً للرأي يتحدث عن تفاؤل السوريين بالإدارة الجديدة بعد أربعة أشهر من سقوط النظام السوري، وضمن الاستطلاع أوردت كثيراً من الأرقام المئوية الشاملة التي خلصت إليها، مما أفضى إلى اجتزاء جزء من تلك الأرقام وتعميمه وترويجه على نطاق واسع من قبل قنوات وصفحات ومواقع إلكترونية متحالفة مع السلطة الجديدة وبما يصب في مصلحتها، في محاولة لإظهار حال الانتصار حسب المسح الميداني بما يشبه مخاطبة العقل الجمعي للمتلقي، متغافلين عن فقرات أوسع وأكثر أهمية وحساسية جاءت ضمن الاستطلاع ولم تكن في مصلحة النظام الجديد، مما أحدث حالاً من الإرباك لمن تمكن من الاطلاع على التقرير كاملاً.
شعبية جارفة
جاء في الاستطلاع أن 81 في المئة يوافقون على حكم أحمد الشرع، و70 في المئة عبروا عن تفاؤلهم بالاتجاه العام الذي تسير به البلاد، كذلك أعربت أعداد كبيرة عن شعورها بأن النظام الجديد أكثر أماناً، وأكثر حرية وأقل طائفية من حكم بشار الأسد.
وركز التقرير بحسب من استطلع آراءهم أن أكثر من 90 في المئة من السنة يطلبون العودة الجزئية أو الكاملة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو أمر لم يحدث في سوريا منذ سقوط الخلافة العثمانية قبل أكثر من قرن من الزمن، ومقابل ذلك يطمح سبعة في المئة فقط في نظام علماني كامل.
تلك المعلومات كانت مجتزأة من سياقها الأصلي ضمن المادة، وكثافة التركيز عليها توحي بأنه كان ثمة تكاتف لئلا تصل بقية معطيات الافتتاحية إلى عقول السوريين، ويبدو ذلك جلياً ببحث معمق في المصادر المتاحة ليجد المشاهد نفسه أمام النسب ذاتها التي تدعم القيادة السورية بالمطلق من دون تحفظات، لكن مع القليل من التمعن والبحث المهني ضمن موقع الصحيفة نفسها باللغة الإنجليزية يمكن التأكد أنها أوردت أرقاماً أكثر قلقاً من ذلك، فقد تحدثت أن استطلاعها لم يشمل سوى 1500 شخص، مما يجعله قاصراً من النواحي القانونية والسياسية والاجتماعية والدينية والإحصائية، ولا يعدو كونه استئناساً بالرأي.
بحسب متخصصين قال بعضهم إن للإحصاء شروط مسح شامل وكامل ولا يمكن لـ1500 شخص مجهولين أن يعبروا عن تطلعات ملايين كثيرة من السوريين.
وبدوره تساءل الباحث في شؤون الإحصاء ميخائيل متّى خلال حديثه مع "اندبندنت عربية" عن السبل العلمية والمنهجية التي اتبعها فريق الإحصاء، وهل راعى النسب والتناسب، وأخذ في الاعتبار انعدام الشفافية أساساً والتعددية السياسية، وبأنهم يجرون استطلاعاً شمل عدداً من أناس لا يساوون ربع من قتلوا ضمن الانتهاكات منذ انتصار الثورة.
ويكمل الباحث "في العلوم الإحصائية تُغيب حقائق كثيرة في كثير من الأحيان لمصلحة قضايا سياسية، فهل الدروز والمسيحيون وغيرهم حقاً يشعرون الآن بالأمان أكثر؟ قطعاً لا، كما ذكر التقرير ذلك، لكن توجيهات واجتهادات جاءت للمنابر الإعلامية وأمرتهم بتمرير المطلوب فقط".
ما خفي
خلال البحث ضمن الافتتاحية وجدت "اندبندنت عربية" أرقاماً أخرى إضافية مغايرة وتناقض ما سبقها، وهو ما لم يصل إلى كثير من السوريين ولعل ذلك ربما بسبب أن موقع المجلة محجوب ويتطلب الاشتراك المادي، وكان هذا عاملاً إضافياً في تمرير الأفكار للشعب بسلاسة.
إذ جاء في متن الاستطلاع أن 22 في المئة يقولون إن ماضي أحمد الشرع كزعيم لتنظيم جبهة النصرة (فرع القاعدة) يجب أن يمنعه من تولي القيادة، كذلك عبر المستطلعون عن كثير من الانتقادات والتحفظات على أداء الرئيس الانتقالي وتحديداً في ما يتعلق بالملف الاقتصادي.
نحو 60 في المئة من المستطلعين يعتقدون أن الأوضاع الاقتصادية إما لم تتحسن أو ساءت بعد انتصار الثورة، وأن معظم رواتب موظفي الدولة لم تدفع منذ تولي القيادة الجديدة الحكم في ظل نقص حاد بالسيولة النقدية، إضافة إلى ذلك يعارض معظم السوريين بشدة سياسة الشرع في دمج المقاتلين الأجانب ضمن جيشه الجديد، ويرى 60 في المئة ممن شملهم الاستطلاع أنه ينبغي ترحيلهم فوراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك تشعر المجتمعات الدرزية والكردية والمسيحية بأنها أقل فقراً، وأقل حرية، وأقل أمناً من العرب السنة، فنحو 76 في المئة من المسيحيين والدروز، و73 في المئة من الأكراد، يريدون نظاماً مدنياً قانونياً علمانياً، وذكر الاستطلاع أن دعم الشريعة بين الرجال أكثر من النساء.
وفي هذا الإطار يوضح الخبير السياسي محمد مسعد أن الاستطلاع طُبِخ على عجل، فقدم رسالة سياسية تخطب ودها الإدارة الجديدة، ثم فرز بقية المستطلعين ليخرج منهم بنتائج منطقية على قدر عقول السوريين بعد كل التنكيل الواقع على أرواحهم وأملاكهم وأرزاقهم خلال هذه المدة، فقسم المستطلعين وسأل مناصري الشرع عن رأيهم وخرج بنسب مئوية عالية للغاية، ثم راح للأقليات المذهبية والعرقية التي جرى تمييع رأيها تحت زخم ضخ أخبار دعم الشرعية الجديدة.
وثيقة دعائية ذات طابع موجه
في هذا الصدد حاورت "اندبندنت عربية" الباحث والكاتب الأكاديمي الدكتور مالك الحافظ باعتباره متابعاً ومهتماً لما ورد في الاستطلاع، وقد عمل على تفنيده تقنياً وسياسياً بحيث يرى أن الاستطلاع الأخير الذي نشرته مجلة "إيكونوميست" البريطانية بشأن "شعبية" أحمد الشرع والسلطة الانتقالية في سوريا مجرد مادة استطلاعية مستقلة، بقدر ما كان، في بنيته وآلياته ومخرجاته، وثيقة دعائية ذات طابع سياسي موجه، تصاغ بلغة البحث، لكنها تفتقر إلى أبسط شروطه.
وأن يُقال إن "80 في المئة من السوريين يؤيدون أحمد الشرع"، من دون تقديم الشروط المنهجية والظروف السياسية التي أنتجت هذا الرقم، هو أشبه بما يسميه الباحث الإعلامي هربرت شيلر بـ"صناعة الرضا الجماهيري"، حين يُستثمر الرقم كأداة للهيمنة الرمزية، لا كأداة لقياس الحقيقة.
استطلاع في الهواء
يضيف الباحث "وفقاً لعلم قياس الرأي العام، أي استطلاع يحترم القواعد العلمية يجب أن يلتزم ثلاثة شروط منهجية أساسية، أولها حجم العينة النسبي بحيث لا يعتد بنتائج استطلاع أجري على 1500 شخص فقط، في بلد يتجاوز عدد سكانه 18 مليوناً، يعاني انقساماً مناطقياً ونزوحاً داخلياً وهشاشة سكانية شديدة، مع غياب الشفافية الكاملة حول الجهة الممولة أو المشرفة على الاستطلاع، مما يعزز فرضية وجود (صناعة علاقات عامة سياسية) أكثر من وجود بحث مستقل".
وتابع قائلاً "أيضا آليات العينة التمثيلية، فإن لم يُعلن عن توزيع العينة حسب المناطق، الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، ومستويات التعليم والانتماء القومي والديني، فإن أية نسبة تُعرض من دون هذه المحددات هي تضليل ناعم، وأيضاً هناك الظرف السياسي والأمني، الاستطلاع يفترض شرطاً بديهياً هو حرية التعبير عن الرأي، وهو غير متحقق في أية منطقة".
استطلاع مشروط أيديولوجياً
من هنا يمكن أن يندرج استطلاع "إيكونوميست" تحت ما يسميه الباحثون في الإعلام بـ"الاستطلاع المشروط أيديولوجياً"، أي الذي يُصاغ فيه الرأي العام لا استناداً إلى ما يقوله الناس، بل استناداً إلى ما يُراد لهم أن يقولوه في ضوء هوية الجهة الراعية، وهو ما يتطلب من المجلة كشف الجهة التي مولت الاستطلاع، وهو ما لم تفعله حتى الآن، وفق المتحدث، الذي أشار إلى أنه من الناحية العملية لا يمكن فصل هذه المادة عن أدوات ما يُعرف بالعلاقات العامة السياسية، التي تُستخدم بكثافة في المراحل الانتقالية لتسويق صورة "الزعيم المقبول"، القادر على التفاوض والمؤهل للقيادة.
وقد استخدمت كثير من الأنظمة والفواعل غير الحكومية هذه التقنيات لإعادة تدوير صورتها أمام العالم، عبر تقارير بحثية ممولة، أو دعوات لمؤتمرات دولية، كما حدث مثلاً مع دعوة وجوه من "السلطة الجديدة" إلى محافل اقتصادية مثل "دافوس"، بدعم من مؤسسات علاقات عامة تقاضت مقابلاً لذلك.
هندسة الرضا العام
نوه بأنه أولى جزءاً من وقته لمتابعة الاستطلاع ومخرجاته ورعاته، وتمكن من الحصول على مطابقات ونتائج تتعلق بتزييف الرضا الجماهيري عبر استطلاعات مغلقة، فإننا ننتقل من "قياس الرأي العام" إلى "هندسة الرضا العام"، وهو فرق جوهري بين وظيفة البحث ووظيفة التضليل.
ويقول الأكاديمي إن اللافت في خطاب التقرير ومروّجيه هو خلط فادح بين ما يُسمى بـ"البراغماتية السياسية" وفرض السلطة بالأمر الواقع، إذ يُقدم أحمد الشرع باعتباره "براغماتياً معتدلاً"، على رغم أن التجربة السياسية التي يقودها قائمة على مرجعية دينية أحادية، وسلوك سلطوي متراكم، وتضييق على الحريات، من دون أي برنامج مدني لإدارة التنوع أو تداول السلطة.
ويضيف أن ما يُروّج له في الإعلام بوصفه "اعتدالاً براغماتياً"، هو في الحقيقة تدرج تكتيكي في الخطاب لأغراض دولية، لا تحوّل جوهري في بنية السلطة أو مشروعها الفكري، والقول إن التأييد الشعبي لسلطة كهذه يعكس تحوّلاً عميقاً، هو استخفاف بالناس أولاً، وبالوقائع الاجتماعية ثانياً، وبمنطق الدولة نفسه ثالثاً، إذ يقدم التقرير أحمد الشرع بوصفه "براغماتياً معتدلاً" يقود تحولاً سياسياً تدريجياً من السلفية الجهادية إلى الواقعية السياسية، لكن هذا الطرح يفتقر إلى أية مقومات معرفية تبرر الانتقال من "الفكر الجهادي الصلب" إلى "العقل السياسي العمومي" من دون معالجة البنية المرجعية التي ما زالت تقوم على أيديولوجيا إقصائية عقائدية.