ملخص
تعتبر الأزمات المتكررة في لبنان في السنوات الأخيرة، من العوامل التي يمكن أن تزيد من معدلات الضغط النفسي والتوتر، لكنها لا تحوّل الأفراد إلى مجرمين، لكن من يعانون ضغطاً نفسياً زائداً، ويجدون صعوبة في السيطرة على أنفسهم وضبط سلوكياتهم بسبب التوتر الزائد، قد يقدمون على عمل عدواني بسبب ضغط نفسي خارجي.
في الأسابيع الأخيرة، سُجّل ارتفاع مقلق في أعداد السرقات وجرائم القتل في لبنان، بشكل غير مسبوق. وتتكرر المآسي، ولو اختلفت في طبيعتها، ليبدو الوضع صادماً للرأي العام، في وقت يُنظر إلى المشهد السوداوي بيأس أمام عدم قدرة الأجهزة الأمنية على ضبط الأمن وملاحقة مرتكبي الجرائم ومحاكمتهم ضمن السرعة المطلوبة، خصوصاً في قضايا معينة. وبعيداً من طبيعة هذه الجرائم التي منها ما بدا وحشياً وقد هزّ الرأي العام، وعن دور الأجهزة الأمنية في ضبط الوضع الأمني، لا يمكن إلا أن نتساءل عن الأسباب التي أدت إلى تكاثر الجرائم في الفترة الأخيرة؟ فصحيح أن جرائم القتل تحصل في لبنان عادة، إلا أن تكرارها في فترة زمنية قياسية يدعو للتساؤل حول الأسباب وراء ذلك، سواء كانت اجتماعية، أو نفسية، أو من تداعيات الأزمات المتكررة، أو ما إذا كانت ترتبط بغياب المحاسبة وتخاذل الأجهزة الأمنية.
إجراءات أمنية لضبط الوضع
تنوعت الجرائم الأخيرة، وإن اتسمت كلّها بالوحشية، فمنها ما كان بدافع السرقة، ومنها ما لها علاقة بنزاعات شخصية، ومنها ما أتت على خلفية أحقية المرور. من جريمة قتل صاحب معرض السيارات جورج روكز بدافع سرقة سيارة فاخرة لديه، إلى جريمة قتل نائب مطران طائفة الأرمن الأرثوذكس أنانيا كوجانيان في بصاليم (جبل لبنان)، والجريمة التي قتل فيها صاحب محطة وقود في جبل لبنان إميل حديفة، ومقتل الشاب جو خليل في الـ 19 من عمره بالدهس المتكرر أمام عائلته بسبب خلاف على أولوية المرور، وغيرها من الجرائم المروعة، في الأسابيع الأخيرة، التي تدعو إلى دق ناقوس الخطر، نظراً لتكرارها في فترة زمنية قصيرة. هذه الجرائم كلّها هزت الرأي العام اللبناني وكثيرون ألقوا باللوم على الأجهزة الأمنية معتبرين أن غيابها قد يكون السبب وراء كل ما يحصل. فيما رأى كثيرون أن المحاسبة من العوامل التي تسهم في تزايد الجرائم والسرقات في البلاد، ما ولّد شعوراً بانعدام الأمان لدى المواطنين.
في هذا الإطار، أعلن وزير الداخلية والبلديات السابق بسام مولوي، في مؤتمر صحافي، تكثيف الانتشار الأمني والقوى الأمنية في المناطق لتوقيف المجرمين خلال مهلة قصيرة، مشيراً إلى عدم إمكان استباق الجرائم الجنائية، فضلاً عن ضرورة التمييز بين الجريمة الأمنية المخطط لها، والجريمة الجنائية العادية، لكن لم ينكر مولوي أهمية التواجد الأمني في المناطق للتخفيف من الجرائم الجنائية، أما الجرائم التي تحصل، ففي معظمها ترتبط بأمور نفسية وعصبية.
وأعلن الوزير مولوي أيضاً أنه في يناير (كانون الثاني) 2025، تم توقيف 1920 شخصاً في مختلف الجرائم، للدلالة على الجهود التي تبذلها القوى الأمنية في حفظ الأمن. كما أعطيت التوجيهات إلى الأجهزة الأمنية كافة لزيادة الدوريات ومنع الدراجات النارية في بيروت. ففي مقابل الزيادة في السرقات وأعمال النشل، كانت هناك زيادة في التوقيفات. أما بالنسبة إلى السوريين الذين يرتكبون الجرائم ويهربون إلى سوريا، فأوضح أنه لتوقيف الهاربين إلى سوريا يجب تفعيل مكتب الاتصال الدولي والأجهزة الأمنية لتعمل سريعاً على توقيف أي فاعل قبل مغادرته الأراضي اللبنانية. أما الجيش اللبناني، فيقوم بواجباته لضبط الحدود على رغم الصعوبات. لكن، يبقى من الضروري أن يكون هناك تعاون أكبر من الجانب السوري.
هل تطبيق عقوبة الإعدام رادع فعلاً؟
مع تكرار الجرائم المروّعة، طالبت فئة من اللبنانيين مرة جديدة بتطبيق عقوبة الإعدام على مرتكبي هذه الجرائم لتشكل رادعاً لغيرهم، خصوصاً بعد جريمة دهس الشاب بالسيارة عمداً من أجل أولوية المرور وبدم بارد، فيبدو للبعض أن غياب المحاسبة ستشكل دوماً حافزاً لارتكاب المزيد من الجرائم، أما تطبيق عقوبة الإعدام، كما يحصل في بعض الدول التي تطبّقها فقد يكون الرادع.
علماً أن عقوبة الإعدام ألغيت في ثلثي دول العالم، لكن هناك بلداناً قليلة لا تزال تطبّقها. وقد ألغت 144 دولة عقوبة الإعدام حتى نهاية عام 2023، ومن بعدها، ألغت ماليزيا عقوبة الإعدام التلقائية لجرائم معينة. وألغتها غانا للجرائم العادية. أما في الولايات المتحدة، فألغيت عقوبة الإعدام في 23 ولاية. وفي أوروبا، تعتبر بيلاروس آخر دولة أوروبية تطبق عقوبة الإعدام. علماً أنه بعد وقف تطبيق عقوبة الإعدام، عادت خمس دول لتطبقه، وهي بيلاروس والكاميرون والمغرب وزمبابوي واليابان. وكانت الصين قد صُنفت على أنها الدولة التي أعدمت أكبر عدد من الأشخاص. أما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فسجّلت نسبة 93 في المئة من عمليات الإعدام التي طبقت في عام 2023 بحسب منظمة العفو الدولية. وقد بلغت الذروة في إيران، حيث نفذت ما لا يقل عن 853 عملية إعدام.
عقوبة الإعدام في لبنان
عن المطالبة بتطبيق هذه العقوبة في لبنان من قبل البعض لتشكل رادعاً ولضمان أمن المجتمع، أكدت المحامية موهانا إسحق أن القانون اللبناني يجرّم بالإعدام، "لكن عُلّق التنفيذ منذ أن نُفّذ آخر حكم إعدام من قرابة 25 عاماً. من حينها لا تنفذ عقوبات الإعدام، ولو أنها لم تُلغ من النص".
وتابعت إسحق أنه في قانون العقوبات اللبناني تتدرّج العقوبات لتصل في أقصاها إلى عقوبة الإعدام، وقد يأتي الحكم بها في الجرائم الخطيرة، مثل القتل عمداً بحسب المواد التي ينص عليها القانون "لكن في مسار حقوق الإنسان ومع تطوره في العالم، يعتبر الإعدام عقوبة تخالف حقوق الإنسان، وهي شكل من أشكال التعذيب لأنها تعاقب الأشخاص بهذا الشكل لتنهي حياتهم، وهو شيء خطير يخالف النظرة الحقيقية إلى مفهوم العقوبة بحدّ ذاتها، لأن العقوبة يجب ألا تكون شكلاً من أشكال الانتقام من الأشخاص، بل هدفها التصحيح والتأهيل في المفهوم المتقدم لحقوق الإنسان اليوم. لذلك في معظم الدول المتقدمة، توقّف تطبيق عقوبة الإعدام لأنها تذلّ الإنسان، وتتناقض مع الكرامة الإنسانية، ومع مبدأ أن العقوبة مجال للتصحيح وإعطاء الإنسان فرصة ليكون فاعلاً وإيجابياً ومنتجاً في المجتمع. كما يجب ألا تكون السجون مكاناً لتحقير الأشخاص، وإذلالهم، والانتقام منهم، بل لإصلاحهم. وفي حال تطبيق عقوبة الإعدام لا تعود هناك فرصة لإصلاح الأشخاص كونها تنهي حياتهم، وهي بذلك تخالف حقوق الإنسان".
لذلك، أوقف لبنان تنفيذ عقوبة الإعدام احتراماً لمسار التيار المناهض لفكرة الإعدام ومسار حقوق الإنسان، وإن كانت العقوبات لم تُعدّل في النصوص. وتدور اليوم العقوبات على تأهيل مرتكبي الأفعال الجرمية، وإصلاحهم بدلاً من تحقيرهم وإذلالهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المفهوم السائد في المجتمع حول أن الإعدام يمكن أن يردع الجريمة، فتعتبره إسحق خاطئاً "فعلى رغم أن عقوبة الإعدام موجودة من بدء التاريخ، لم يمنع ذلك وجود الجريمة. وبالتالي هي لا تردع الجريمة ولا تخيف المجرم، إنما ما يردع هو تأهيل المجتمع، وتخفيف الأسباب التي تؤدي إلى اضطرابات نفسية، والسعي إلى توفير اقتصاد متّزن، وعائلة غير مفككة، والحد من الفقر، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتخفيف النزاعات، وتأكيد المساواة بين الأشخاص وغيرها من الأسباب التي توصل إلى الجريمة. كما أن وجود محاكمات عادلة تبتّ بالقضايا في الوقت المناسب من المسارات الصحيحة التي لا بدّ من اتباعها في لبنان، لاعتبارها تسهم في ردع الجريمة"، وشددت إسحق على أن العدالة الاجتماعية والقضائية مطلوبة، والبت بالأحكام والملفات في السرعة المطلوبة، والأحكام العادلة، وحقوق الدفاع السليمة، والسجون التي تتوافر فيها المعايير التي تحترم حقوق السجناء، كلها توصل إلى عدالة تساعد على ضبط الجريمة، و"في لبنان مشكلة العقوبات ترتبط إلى حدّ كبير بالمحاكمات والقوانين، وأيضاً بشكل أساسي بالسجون، فكل الأمور تتأثر ببعضها، وبدلاً من أن تكون السجون أماكن للتأهيل هي أماكن لتصدير جرائم".
التربية والوضع النفسي عوامل مساعدة
يعتبر الخبراء أنه قد لا يكون هناك سبب واحد وراء تكرار هذه الجرائم، بل يمكن أن تكون هناك مجموعة من العوامل التي تلعب دوراً في ذلك. في هذا الشأن، أوضح الاختصاصي في المعالجة النفسية أنطوان الشرتوني أن بيئة الفرد تكوّن شخصيته وتؤثر فيه وفي سلوكياته، "ولمفاهيم الحياة التي يتلقاها في هذه البيئة، وضمن العائلة، الأثر النفسي الأكبر عليه، وهي الأساس في ما يطبّقه في حياته. فمن يعيش في كنف عائلة تنقل إليه مفاهيم وقيم يغلب عليها الاتزان، يميل إلى الاتزان في سلوكياته، وفي المفاهيم التي يطبّقها والعكس صحيح، إذ يمكن أن تنقل إليه مفاهيم تبدو له مقبولة في المجتمع ولا يواجه مشكلة في تطبيقها ومنها السرقة أو القتل أو غيرها. في الوقت نفسه، لا يمكن إعفاء الشخص العدواني من الذنب واعتباره غير مذنب، أياً كان الوضع الذي يكون فيه لحظة ارتكاب الجريمة، وإن حاول تبرير ذلك بأنه فقد السيطرة على نفسه وعلى تصرفاته، في لحظة ارتكابه الجريمة ولم يدرك ما يفعل"، وأكد الشرتوني أن كل شخص لديه قدرات على التحمل، وما إذا كان يشعر بالعجز عن السيطرة على سلوكياته العدوانية في المجتمع، "ومن المفترض به أن يطلب المساعدة سواء كان شاباً أو فتاة، فالمساعدة النفسية التي يمكن أن يتلقاها تساعده ليهدأ، وليضبط نفسه، ويتمتع بالصبر قبل الإقدام على عمل عدواني يؤذي فيه الآخر".
وأضاف الشرتوني أن "الأسباب التي يمكن أن تدفع الفرد إلى الإقدام على سلوك عدواني، وصولاً إلى حدّ ارتكاب جريمة، هي كثيرة، والتكوين النفسي أحدها، إضافة إلى عدم التمتع بالصبر، والتربية غير الصالحة التي تفسد الفرد أحياناً، كما في حال تأمين كل متطلباته من دون ضوابط، وفي حال عدم نقل القيم الصحيحة إليه، ومكافأته أو تقديم ما يطلب بطريقة عشوائية، فهي من الأخطاء الشائعة في التربية في مجتمعاتنا، ويمكن أن توصل الفرد إلى حدّ ارتكاب جريمة لأتفه الأسباب، أو لمجرد أن الأمور لم تحصل وفق ما كان يرغب".
أيضاً من الأسباب الأخرى التي يمكن أن تقود الفرد إلى ارتكاب الجريمة، إضافة إلى الأسباب النفسية، بحسب الشرتوني، "ما يرتبط بالتواصل مع العالم الخارجي، وأيضاً المشاكل الاقتصادية، وأحياناً المشاكل العائلية. فكلها تؤخذ في الاعتبار، وقد تشجّع الفرد على الإقدام على سلوكيات عدوانية. لكن تبقى الجريمة جريمة، وأياً كانت الأسباب التي وراء ارتكابها، هذا لا ينصف المجرم ولا يبرر أفعاله لأنه مسؤول عنها. لكن، على رغم وجود أسباب معينة ترتبط بالبيئة أو بالوضع النفسي، لا يعني ذلك حكماً أن ثمة سبباً وحيداً مباشراً يمكن أن يؤدي إلى السلوك العدواني. فكثيرون يترعرعون في أحياء فقيرة، تكثر فيها المشاكل، وفي محيط يمكن أن يشجع على مثل هذه السلوكيات، إلا أنهم لا يقدمون على ارتكاب جرائم، ولا يكونون من الأشخاص العدوانيين، كما يمكن أن ينمو أفراد في عائلات من الطبقة الميسورة، ويعانون مشكلات في السلوكيات ويتميزون بالعدوانية، وبالتالي لا يمكن التعميم ولا يمكن التحدث أيضاً عن سبب معيّن مباشر، لأن كل حالة تختلف عن الأخرى في علم النفس".
في الوقت نفسه، تعتبر الأزمات المتكررة في لبنان في السنوات الأخيرة، من العوامل التي يمكن أن تزيد من معدلات الضغط النفسي والتوتر، لكنها لا تحوّل الأفراد إلى مجرمين، لكن من يعانون ضغطاً نفسياً زائداً، ويجدون صعوبة في السيطرة على أنفسهم وضبط سلوكياتهم بسبب التوتر الزائد، قد يقدمون على عمل عدواني بسبب ضغط نفسي خارجي.
لكن الشرتوني رفض الربط بين العمل الإجرامي والاضطرابات النفسية، مؤكداً أن الأرقام لا تكذب والإحصاءات تشير إلى أن المجرمين يعانون اضطرابات اجتماعية مهمة جداً، كما يتمتعون بشخصيات فيها اختلال عقلي، لكن هذا لا يعني أنهم يعانون مرضاً نفسياً قادهم إلى القيام بجريمة. وتشير الأرقام إلى أن من يعانون أمراضاً نفسية لا يرتكبون جرائم بشكل عام، أما مَن يعانون انحرافات في شخصياتهم واضطرابات فيها، فقد يقدمون على عمل إجرامي، خصوصاً إذا ترافق الأمر مع تربية غير صالحة وغير متزنة ومفاهيم خاطئة ينقلها الأهل، فتؤدي إلى الانحرافات.