Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توجس من ارتفاع منسوب الجرائم في لبنان لتأمين "أبسط مقومات الحياة"

تغيب المبادرات والحلول وتسير البلاد نحو مصير محتوم ينذر بتلاشي الكيان والبنيان وقبل كل ذلك الإنسان

شهدت الأسابيع الأولى من عام 2021 ارتفاعاً في مستوى الجريمة في لبنان (رويترز)

في أزمنة القحط والقلة، يشكّل الحنين إلى الذاكرة الطفولية متنفساً من الواقع السوداوي في لبنان. ولكن لدى البعض من الناس تتحول قصص قديم الزمان إلى أمثولةٍ تُحتذى. هكذا هي الحال مع شخصية "روبن هود" الذي يسرق من أجل إطعام الفقراء، والذي بات قدوة رومانسية لدى الكثيرين. ففي الأيام القليلة الماضية، حضرت على ألسنة العامة أحاديث تنذر بـ"شرّ مستطير"، اقترب من الأبواب. وبين بائس ويائس، يبرز التخوّف من ارتفاع نسب الجريمة، وما يصاحبها من إيجاد تبريرات أخلاقية وواقعية لها.

الجريمة في أقصى مستوياتها

وشهدت الأسابيع الأولى من 2021 ارتفاعاً في مستوى الجريمة، تحديداً الجرائم ذات الأبعاد الاقتصادية من سلب وابتزاز وسرقة، ليصبح اللبناني عرضة لكل أشكال التهديد في أمنه وماله وحياته. نبيل (25 سنة) كان ضحية عمليَّتي سرقة في الأشهر الستة الماضية، فقد تعرّض في المرة الأولى لسرقة دراجته النارية من مدخل المبنى الذي يقطنه في منطقة القبة، ويشير إلى أنها كانت مربوطة بسلاسل معدنية وموصدة بأقفال. وعلى الرغم من ذلك، تمكّن السارق المحترف من انتزاع الأقفال وأخذها ولاذ بالفرار مستغلاً عدم وجود كاميرات مراقبة في المنطقة الشعبية. وبعد خمسة أشهر، عاد ليشتري دراجة نارية جديدة بسعر مضاعف بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، إلا أن فرحته بها لم تكتمل. اليوم، تتكرر الحالة، ولكن في منطقة أخرى، إذ سرقها مجهولون. ويعتبر نبيل الناشط في مجال العمل الإنساني أن ذلك مؤشر خطير إلى الحالتين الاجتماعية والأمنية في البلاد.

هذه القصة ليست الوحيدة، بل تتكرر يومياً وبشكل متزايد. فعند كل مساء يتعرّض أحد العمال في مجال التوصيل "الدليفري"، السائقون، أو المارة لعمليات "سلب بقوة السلاح". فانتشال الهاتف والحقيبة من أيدي الأفراد بات فعلاً "روتينياً".

إن تكرار هذه القصص، وتصاعدها في موازاة الانهيار الاقتصادي السريع، يؤشر إلى مرحلة غاية في الخطورة. فاليوم أمن اللبناني مهدد في الطرق، فما بالك عندما يشتد الخناق ليصبح مهدداً في ملكه ومحله وبيته وغرفة نومه؟

يلاحظ مصدر أمني ارتفاعاً في جرائم السرقة على أنواعها، السلب بقوة السلاح وكل الجرائم المتصلة بالعنف. ويؤكد أن السبب لا يعود إلى تقصير القوى الأمنية، التي تحقق نجاحات في مطاردة وقمع العصابات الإجرامية، إنما إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والأفق السياسي المسدود. ويعتقد أن الانهيار المالي يُشجع بعض العصابات على السرقة لأن الأرباح المادية ستكون أعلى، قياساً بما كانت عليه في الماضي.

الآتي أعظم

بعض مشاهد اليوم، تعيد إحياء ذاكرة الحرب الأهلية لدى المواطنين. أميرة، إحدى المواطنات التي عايشت في طفولتها حصار الجيش السوري لمناطق بيروت الشرقية، تروي أنه أثناء المعارك، توقفت الدورة الاقتصادية في عين الرمانة، وانقطع الخبز. عندها خلع والدها باب إحدى المؤسسات التي تبيع الشوكولاتة، ووزّع المحتويات على سكان المحلة. تتخوف من عودة مرحلة الكسر والخلع من أجل تأمين الحاجات الأساسية، وهي لا تستبعد ذلك لأن "الأسعار نار"، و"يعمل المواطن كل اليوم من دون أن يتمكّن من إحضار علبة حليب لأطفاله". وعليه، بعد أن تُقطع السبل كافة، قد يضطر الإنسان إلى استخدام القوة للحصول على حاجاته الأساسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقرأ الخبير في العلم الجنائي عمر نشابة في المشهد السوداوي، ويلفت إلى أن "الأزمة الاقتصادية والفساد المستشري، وتفسير الناس لهذا الفساد، له أثر كبير في سلوك الأفراد الجنائي".

ويلمس نشابة وجود ميل لدى كثير من اللبنانيين إلى قضية التملص من العقاب بـ"القوة والسلطة"، وذلك لأن القوي لديه القدرة على الإفلات من القانون لأنه مدعوم". وعليه يعتقد أننا نتجه إلى "مجتمع تحكم فيه القوة، وليس القانون"، لذلك يجب الحذر من دخول مرحلة الفوضى والتصادم بين الناس وقوى إنفاذ القانون (القوى العسكرية والأمنية) التي تصبح بمثابة الطرف في الصراع.

ولاحظ نشابة تزايد نسبة العنف واللاأمن في لبنان، من العنف المنزلي إلى الشارع فالمصارف، وعلى المستويات كافة. ويتّضح أن التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في تزايد مستمر في البلاد، بين أكثرية تصارع للبقاء وأقلية تمتلك رفاهية التمتع بالدولار "الفريش". ومن أكثر المشاهد تناقضاً، كان ازدحام منتجعات التزلج بالزوار في زمن كورونا، في مقابل تقاتل مواطنين على كيس حليب مدعوم في أحد مراكز التسوق في بيروت. وهو يرى أن التفاوت الاجتماعي قد يؤدي إلى خلق "توتر أهلي داخلي قد يسبب العنف".

حذارِ تفكك المؤسسات

ويخشى الخبير في العلم الجنائي من الانقسامات التي قد تطال مؤسسات إنفاذ القانون، بسبب الأزمة المتعددة الأوجه، وعلى رأسها العامل الاقتصادي، مشيراً إلى أن "تماسك المؤسسات يحفظ الحد الأدنى من الأمن".

ويتحدث عن بعض العناصر التي تستمر في تأمين الحدّ الأدنى من الأمن، والتي سيؤدي إلغاؤها إلى نتائج سلبية للغاية. فمن ناحية، يستمر لبنان في سياسة الدعم سواء للمواد الغذائية والأدوية والبنزين والكهرباء، وتستفيد منها شرائح كبيرة من المواطنين. ويعتقد نشابة أننا سندخل مرحلة غاية في الخطورة عند انتهاء سياسة الدعم، لأن الرواتب لن يمكنها الحصول على الحد الأدنى من السلع الأساسية، "اليوم لا تزال العامة قادرة على شراء ربطة الخبز بمبلغ ثلاثة آلاف ليرة، والوضع سيكون أصعب إذا ما أصبحت بعشرة آلاف ليرة، الأمر الذي قد يقود إلى سيادة منطق العنف للبقاء".

ويتّضح أن هناك خشية جدية على الاستقرار الأمني والمجتمعي في لبنان، لأن انحسار السلطة المركزية، قد يفتح الباب أمام تعدد مصادر العنف والبلطجة، وصولاً إلى نشوء مجموعات منظمة، التي بدأ اللبناني يتلمسها من خلال عصابات سرقة "كابلات الكهرباء" و"أغطية المجارير" التي تحتاج إلى جهد جماعي. وأمام هذه الفرضية، يتمنّى نشابة عودة المسؤولين إلى رشدهم وتشكيل حكومة بشكل عاجل تُؤسس لبداية جديدة، لأن عدم مشاركة الناس بكثرة في التحركات الاحتجاجية يشي بوصولهم إلى قناعة بأن التغيير غير ممكن في الشارع لأن القوى الطائفية ما زالت راسخة، ناهيك عن حالة الإحباط.

الخروج من الشارع لا يحل المشكلة

في موازاة ازدياد السرقات، شهدت الشوارع في المناطق كافة خروج المنتفضين الغاضبين من واقع معيشي صعب. ويؤكد هؤلاء أن المشكلة الحقيقية ليست بوجودهم في الشارع، وإنما في الفقر الزاحف نحو بيوتهم والجوع المتسلل إلى بطونهم.

صباح اليوم، فك المحتجون في طرابلس رباطهم عند طريق عام البالما - البداوي، وعادت بعض المجموعات إلى ساحة النور لمراقبة الأوضاع، وفي أوساط هؤلاء تجد عتباً لعدم تحرك الناس في وجه السلطة. وبين هذا وذاك، إجماع بأننا نتجه نحو واقع خطير، لأن الأزمة لا يتحمل مسؤوليتها من يقطع الطريق، وإنما السياسات التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه من انهيار.

يُحمّل أبو عمر فشيش من يصفهم بـ"أتباع الزعماء" جزءًا من المسؤولية عن سوء الأحوال لأنهم يتحركون كما يريد الزعيم، كما أن الأموال التي يرسلها المغتربون تحوّلت إلى "حقن مورفين مهدئة"، أما العامة الذين لا يستفيدون من هذا ولا ذاك، فمصيرهم الموت على أبواب المستشفيات، وبصمت داخل البيوت. كما يعتبر أن على القوى الأمنية كبح الجرائم والسرقات المتزايدة، من بطاريات السيارات إلى الدراجات، محذراً من الوصول إلى الحماية الذاتية.

ويتخوف المواطن محمد نعمة من تكرار "تجربة فنزويلا"، وانتشار السوق السوداء للسلع الأساسية والبنزين، وصولاً إلى الظلمة الكاملة. ويرى أن "اللبناني يقترن مع صفة عاطل من العمل"، واصفاً الشعب بـ"النقّاق" الذي لا يتقن سوى "فن الشكوى" من دون المبادرة إلى استثمار فرص التغيير.

"انتفاضة ممولة"؟

ويتوقع الناشط زاهد الزاهد الوصول إلى الأسوأ، مرجحاً "أن تزداد عمليات اقتحام المنازل لسرقة جرة غاز لا أكثر"، محملاً السلطة مسؤولية الفساد. ويدعو الجياع إلى النزول للشارع من أجل المطالبة بحقوقهم والتعبير عن غضبهم، متحدثاً عن حالة من اليأس سيطرت على العامة.

أما حسين البعريني العامل في مجال الأمن، فيجد للناس مبرراً، قائلاً "هم لا يملكون حتى ثمن أجرة الطريق للوصول إلى أماكن الاحتجاج، الأمر الذي ينفي فرضية أنها ثورة ممولة من سفارات، لأنها لو كانت كذلك لتم تأمين وسائل النقل للعامة من أجل الاعتصام". وينطلق البعريني من تجربته الخاصة، ليعطي صورة عن وضع الناس السيّء، فهو يتقاضى 30 ألفاً كأجرة يومية، يدفع 18 ألف ليرة أجرة طريق لبلوغ مكان عمله، لذلك يخشى من أن تفتح الأزمة الاقتصادية شهية الناس على ارتكاب الجرائم ليس لشيء، وإنما لإطعام أطفالها الصغار.

وفي المحصلة، تجتمع المؤشرات المختلفة إلى التنبيه من مستقبل، يختلف كل الاختلاف عن الصورة التي يريدها اللبناني. وعلى الرغم من ذلك، تغيب المبادرات والحلول عن الساحة، وعليه، تسير البلاد نحو مصير محتوم ينذر بتلاشي الكيان والبنيان، وقبل كل ذلك الإنسان.

اقرأ المزيد

المزيد من متابعات